تتلى علينا اليوم القراءات : عدد7: 1-11 ؛ عب9: 6-15 ؛ يو2: 13-22
الرسالة : عبرانيين 9 : 6 – 15
أقام بولس مقارنة بين شعائر العبادة في العهدين وتحَدَّثَ عن التركيبة الداخلية لخيمة العبادة، هيكل المستقبل، عن أقسامها ورموزها و كيفية إجراء الخدمة فيها. إنقسمَ المعبد إلى جزئين: الأول : يُسَّمى القدس حيثُ يدخل الكهنة في كل وقت ويؤَّدون خدمة القرابين والذبائح، وحيث يمكن لجميع الناس أن يحضروا. الثاني : يُسَّمى قُدسَ الأقداس، فيه تابوت العهد الذي يحتوي المَّن وعصا هارون ولوحي العهد، حيثُ يدخل عظيمُ الأحبار وحده، مرَّة في السنة فقط ، و يأخُذُ معه ” الدم الذي يرُشُّه على غطاء التابوت مُقَّربًا إيَّاه كَفَّارةً عن خطاياه وخطايا شعبِه”.
الطريق الى الله مسدود !
هكذا فسَّر الوحيُ عزلةَ ” قدس الأقداس”، وهو يرمز الى حضور الله مع الشعب بآدِّلةِ آياتِه العظيمة التي أجراها لأنقاذ شعبِه من العبودية وإعطائه وطنًا حُرًّا غنّيًا بموارده ولطيفًا بجَّوِه مُوَّفرًا له كلَّ أسباب الراحة والهناء. أمَّا الأنسان فلا يقدرأن يصلَ الى الله، أن يدخل جَنَّتَه. لقد فقد قدرة التواصل مع الله منذُ أن أخطأَ برفضه السماع له، وهو ما يزالُ في الجَّنة يتمَتَّعُ بكل خيراته، بالحضورمعه، مُقاسِمًا إيَّاهُ حياة الراحة والمجد. إستعمل الأنسان طاقته، حَقَّه بحُرّيته ، فخدمَ جسده مُجَّربًا عقله وعلمه. أحَّسَ بأنه أخطأَ في فعله، لكنه لم يستعملْ طاقته الروحية الأُخرى، المحبة والندم فالإعتذار. لم يعتذرعن خطإِه، بل حاولَ أن يُبَّررَ ضعفَه بإلقاءِ اللوم على غيره مُتصَّوِرًا أنَّه يتمَّلصَ من نتائج فعله. لم يفلح في معالجة الخطأ. فـآنسحبَ من آمام وجه الله فآختبأَ. خاف أن يلتقيَ به. وَقَّعَ اللهُ الحُكم على بُعدِ الأنسان فـ” طُرِدَ من حضرةِ الله ” وسُّدَ في وجهه باب الدخول الى حضرته والتمتع بجَّنتِه.
فعن هذا الفصلِ بين القُدْسَين وإبقاءِ الأنسان في الأول وحرمانِهِ من الثاني قال الوحيُ :” بذلك يُشيرُ الروحُ القُدس إلى أنَّ طريق القُدسِ غيرُ مفتوحٍ بسبب وجودِ القدسُ الأول” (آية8). و يدُّلُ أيضًا على أنَّ ما يُقَّرَبُ فيه من ذبائح وقرابين لا يَرضى عنها الله ، لأنَّها ليست بمستوى الأنسان، الذي أخطأ لا الحيوان، فلا تقدر أن تدخل الى مقدسِه. فبنود شريعة موسى خَصَّتْ خدمة الجسد وأحكامَه، من مأكلٍ و مشرب وملبس، ولا علاقة لها بالضمير، ولا بالحَّق ولا بالبر. أمَّا هذه القيم الروحية فقد إهتَّمَ بها المسيح. لذا ” فالحقيقة هي جسدُ المسيح” (كو2: 16 -17). وذبيحةُ المسيح وحدَها، لأنَّه إنسانٌ وبار، تضمن كَفَّارةَ الخطيئة لأنها ستكسرُ إرادة الأنسان للطاعة لمشيئةِ الله. ولهذا قال المُزَّمرُ عن فم المسيح:” لم تقبل المحرقات ولا الذبائحَ كفَّارة عن الخطايا فقلتُ ” هاءنذا آتٍ، اللَّهُمَ، لأَعملَ بمشيئتكَ” (مز39: 7-9). ولمَّا ذُبحَ المسيح على الصليب قَبِلَ اللهُ الكَفَّارة وغفر للأنسان خطيئته العَّامة، وفتح باب الجنة أمام اللص التائب والمُسترحِم (لو23: 43).
المسيح ، دخلَ القُدسَ بدمِه !
كان رئيس كهنة العهد الأول يدخل قدس الأقداس بدم الحيوان. ولم يكن يقصُد تنقية ضميرالأنسان ونفسَه من دنس الخطيئة العَّامة الأصلية. لم يكن ينوي إستعادة براءة الأنسان الأولى، بل التكفير عن الخطايا الشخصية وعن الآستمرار في عصيان الله . أما المسيح فأيقظ ضميرالأنسان على الحق والبر، وقَوَّمَ إرادته، وغفر له خطيئته فحصل له العودة إلى مشاركة حياة الله. لم يتصَّرف بموجب فكر الأنسان وتدبيره، بل سلك حسبَ فكرِ الله، وكان هدفه أن يُعيد الأنسان إلى معرفة الله وإلى طاعته، و أعطى بذلك المثل، ” طعامي أن أعمل مشيئة من أرسلني وأُتِّمَ عمَلَه” (يو4: 34). إجتهد َفي أن يرفع من الفكر غشاوة الخطيئة ويُعَّود الناس على أن يروا الأمور في منظار الله فيُبصروا الحَّق كما أعلنه الله، وشهد عليه وعلى المحبة بحياته وذبيحته (يو18: 37). وأكَّدَ أيضًا أنه جاءَ ” ليُبصرَ العُميان”. وكان أهل الشريعة يدَّعون أنهم يُبصرون الحَّق ويتبعونه (يو9: 41). لكن المسيح فضح قُصرَهم فنعتهم بـ” القادة الجهلة العميان” (متى23: 16-17).
كان المسيح وحدَه قادرًا على رفع القناع عن قلب أصحاب القدس الأول، لأنهم تبعوا أحكام الجسد، بينما الله روحٌ. فلم يكن بوسعهم أن يلتقوا بالله. لذا ظلَّ قدسُ الأقداس منيعًا عليهم. كلما إستمروا في التعامل مع حرف الشريعة، مُستَفرَغة من الروح، لم يكونوا قادرين على معرفة الله حَقًّا. قالها الرب ” أنتم جعلتم رجاءَكم في موسى.. وهو أخبر عني..أنتم لا تعرفوني ولا تعرفون الله ” (يو5: 45 ؛ 8: 19 ؛ 16: 3). صار الجهل والشهوة والكبرياءُ قناعًا سدَّ منافذ النور الروحي ليُبقيَ حياة الأنسان في ظلام الضلال والشَّر. ولم يكن أحدٌ قادرًا على إزالة هذا القناع ” غير المسيح” (2كور3: 15-17). فجاء المسيح وعَّلمَ الحق وتواضع وتألَّمَ فكسر قُوَّة الشهوة الحسّية للأنسان وكبرياءَه وأعادَه الى مقامه الأصيل” المخلوق” والمحدود، ليتقَّيد بمسار الخلاص.
وفوق كلِّ هذه دخل المسيح الى ” قدس الأقداس”، فصعد الى السماء مباشرةً،” لا بدم التيوس والعجول، بل بدمه وكسبَ لنا فداءًا أبديًا “. لقد نقَّي الضمير الأنساني وطهَّر قلبَه و فكره من الشَّر والأعمال الميّتة. كان قربانه طاهرًا لا عيب فيه وبروح المحبة الألهية ، فكان كاملا لا يحتاج إلى التكرار كلَّ سنة. و” يجلسُ الآن عن يمين الله .. يُعين كنيسته ويؤَّيد كلام رسله بما يصحبُهم من الآيات” (مر16: 19-20). وإذا كانت شريعة العهد الأول والقدس الأول مؤَّقتة ” فرضت إلى وقت الأصلاح”، إلا إنَّ ذبيحة المسيح الجديدة بدمه أقامت عهدًا جديدًا روحيًا، كهنوتًا جديدًا أبديًا ، شريعة جديدة أزلية أبدية، ولاسيما معبدًا جديدًا لحضور الله هو فكر الأنسان وقلبُه. لقد جعل المسيح شريعته الألهية ” في ضمير الأنسان وكتبها في قلبه ” (عب8: 10)، لا ” بحِبْرٍ ولا في ألواح ٍ من حجر، بل في ألواحٍ من لحمٍ و دم ، أي في قلوبكم” (2كور2: 3). فيسوع هو الوسيط الوحيد لهذا العهد الجديد، وشفاعته تشمل أبناءَ القُدسين: القُدس ِالأول وقدس ِالأقداس.