تتلى علينا اليوم القراءات : اش5: 8-11 ؛ 1كور15: 58-16: 4 ؛ لو13: 22-30
الرسالة : 1 كورنثية 15 : 58 – 16 : 4
بدأت الرسالة بتحريض بولس للكورنثيين على الثبات في الأيمان مواصلين جهدَهم للتقَدُّمِ في عمل الرب. وعمل الرب هو في أن يتخَّلِصوا كلّيًا من المباديء والعادات التي عاشوا فيها حياتهم السابقة فيُغَّيروا نهائيًا سلوكهم الدنيوي المحض ويُقَّلدوا بولس في سلوكه الجديد المبني على تعليم المسيح ومثاله. ليس سهلاً تغيير نمط للحياة أصبح طبيعةً جديدة بفعل الزمن الذي عاشه المرء سالكًا هذا الدرب. لاسيما وأنَّه دربٌ يسلكه عامة الناس من كل الشعوبِ والمِلل. وقد يبدو المسلك الجديد غريبًا بل شاذًّا عن القاعدة. وليس كل الناس مستعدين أن يتصَّرفوا خلاف الطبع العام. يحتاجون الى قوَّة أدبية فائقة ليتغَلَّبوا على الطبائع المُترَّسخة في الفكر و القلب ويتبنوا عوَضَها ما يُزعجُ أحيانًا ويُؤلم. لذا يُشَّجعُهم بولس على عدم التراخي والتخاذل وعلى الأتكال على الله الذي سيعينهم حتى لا يذهبَ ” جُهدُهم سُدًى “.
جمعُ الصَدقات للقديسين !
وأولى الطباع التي يدعوهم بولس الى تغييرها الخروج من قوقعة الأنطواء على الذات للأهتمام بالآخر. وهذا الآخر لا يعرفونه ولا يقربهم إلا بالأيمان المُشترك. وقعت مجاعةٌ في فلسطين والناس فيها في عوز. وبولس تكَّفلَ للكنيسة في مساعدة الفقراء (غل2: 10). و في هذا الصدد لقد تكَلَّم مع الكورنثيين عن تعليم يسوع :” جعتُ فأطعمتموني،عطشتُ فسقيتموني وكنتُ عريانًا فكسوتموني” (متى25: 35-36). للمسيحي بُعدُ حياة يشملُ الأنسانية كلها. ليس مُنعزلا عن العالم والناس حتى إن كان مُختلفًا عنهم بإيمانه. في المسيح كلُّ الناس إخوتُه. وكم بالحري من يعيش في نور نفس الأيمان حتى لو كان بعيدًا عنه، وغريبًا حسب مقاييس الدنيا. فيُذَّكرُهم بأن الواجب يدعوهم الى التبرُّع بما يمكنهم لتخفيف الضيق عن الأخوة المؤمنين في فلسطين.
وربط بولس جمع تلك التبَّرعات بيوم الأحد” الأول من الأسبوع “، وتعوَّدَ الأخوة أن يجَّتمعوا فيه، يوم الأحد (أع20: 7)، في بيتِ أحد الأخوة، مثل أكيلا وبرسقلا (آية19) للصلاة وسماع الكلمة وكسر الخبز، أي القداس، ومقاسمة الخيرات (أع2: 42). ربما يفكر البعض أنه إختار ذلك اليوم لأنَّ الجماعة تحضر فيه للصلاة. سببٌ مقبول. ولكن بولس يُفكر بأبعد من ذلك. لقد نوَّهنا أنَّ كلَّ أحد يتقاسمُ المؤمنين الخيرات. كما قاسمنا يسوع ما يملك، الحياة، نتقاسم نحن أيضًا ما نملكُ، قوتَ حياتِنا مع من غدر به الدهروحرمه قوت الحياة،” وكان المؤمنون جميعًا مؤتلفين يجعلون كلَّ ما لديهم مشترَكًا بينهم” (أع2: 44). إنَّ حضورَ المسيح بين المؤمنين يجعلُهم يفكرون بالآخرين كما بأنفسِهم. الكل حاضرٌ في فكرهم وقلبهم. يسوع بذل نفسَه من أجل غيره، وما على التلميذ إلا أن يكون مثل معَّلمِه (لو6: 40)، والطوبى” لمن يقتدي به ” (يو13: 17). القداس ذبيحةُ المحبة والرحمة والمؤمن مدعُوٌّ أن يُصبح مع يسوع ذبيحةً للآخرين. وهذا ما ترمز إليه عطايا المؤمنين. فالقداس مركز الحياة المسيحية يُجَّسد لنا الحياة الألهية التي نحن مدعُوّون أن نُجَّسِدَها في حياتنا العملية.
ومنذ تلك الأيام درجت العادة في الكنيسة لجمع تبرعات المؤمنين التي كان قسمها الأكبر يُصرف على الفقراء. ولهذا أيضا يُوضع في كل كنيسة صندوقٌ ” للفقراء “. كما ويُلاحظُ القاريء الكريم أن بولس طلب جمع تلك التقادم في بدء القداس. ويبدأ القداس، قسم الذبيحة، مع ترتيلة التقادم وتقديم القرابين إلى المذبح. ذلك هو الوقت الأصلي والمناسب لجمع صينية التبرعات. لسببين. أولاً : هكذا وَصَّى الرسول كي لا يُشَوِّشَ جمعُ التبرعات فكر المؤمنين أثناء ذبيحةِ القداس، ولأنَّ القسمَ التعليمي، القراءات والموعظة والطلبات، كان قائمًا بذاتِه و غير مرتبطٍ بالذبيحة. أعني ذلك عندما بدأت ليترجية القداس تتنَّظمُ؛ وثانيًا : لأنَّ جمعَ العطايا يتوازى مع تقديم القرابين التي كانت أيضًا مقَدَّمةٌ عطيةً من المؤمنين لتحمُّلِ مصاريف خدمةِ الرسل والعبادة.
والخصومُ كثيرون !
ليس غريبًا أن يلقى بولس خصومًا من الخارج يُحاربون الأيمان الجديد. كان هو نفسُه مُقاومًا عنيفًا للمسيحية، في بدء نشاطه الديني، إنَّما لم يكن عن سوء نية بل عن جهل وقلة إيمان بالمسيح (1طيم 1: 13)، وغيرَةٍ على إيمان الآباء الموروث (أع22: 4-5؛ 26: 6-12). و لكنه يُلَّمحُ إلى خصومٍ من الداخل. وقد ذكر منهم في رسائله كثيرا منهم. ويُؤَّكدُ أنَّهم يُبَّشرون بالمسيح، إنما ليُنافسوه بدافع الكيد للإيقاع به، وبنيَّةٍ شرّيرة ليُثَّقلوا عليه آلامَه (في1: 15). أمَّا غيرُهم فلإلقاءِ البلبلة بتمَّسكهم بشريعة موسى عامة وبالختانة خاصَّة (غل5: 12)، أو لأنَّهم عمال سوء (في3: 2). كلَّ هؤلاء يدَّعون الأيمان بالمسيح لكنهم يُنافسون بولس لا لأنهم أحسن منه، بل لأنهم يغارون منه، ويحسدونه ويريدون عزله عن المؤمنين ويكسبوا عطفهم (غل4: 17). يعترف بولس أنَّهم إخوةٌ لكنهم” رسلٌ كذّابون” (2كور11: 12 و27)،” إنتفخوا من الكبر بقدرتهم “(1كور4: 18-19).
ولكي لا ينخدع الكورنثيون” المتفَّـوقون في كل شيء : في الأيمان، والبلاغة، والمعرفة، والأقدام على كلِّ شيء” (2كور8: 7) ينصَحُهم بولس أن يتيَّقظوا ويثبتوا في الأيمان فيقول : ” كونوا رجالاً، كونوا أشِدَّاء، ولتكن أموركم كلُّها بمحَّبة ” (آية 13). مقابل ذلك، وعوض توقير إخوةً دجالين غيورين منافسين مُتكَّبرين، دعا بولس المؤمنين إلى توقير من ” وقفَ نفسَه على خدمةِ القديسين”، أو فتح داره لآجتماعهم الأسبوعي، و” كلِّ من شاركهم في السعي والجهد ” (أية 15-19). وسبق فنَبَّهَهم ألا يفتخروا بالناس، وأنَّ ” كلَّ واحدٍ سيظهرُ عملُه، ويومُ الرَّبِ يُعلنُه ” (1كور3: 13، 20). ربما كان بولس الأول ليواجه أعداء ومحاربين من داخل الكنيسة. لكنَّ التاريخ يشهدُ عبرَ الأجيال وجود عملاءٍ لعَدُّوِ الله متواصلين بين المؤمنين المُزَّيَفين. فالغيرة والحسدُ والمنافسةُ ما تزالُ تتنَّشَطُ فتجرحُ جسمَ المسيح السِرّي. وبولس يعرفُ ذلك فنَبَّه إليهم :” وأنا أعلم أن سيدخلُ فيكم، بعدَ رحيلي، ذئابٌ خاطفة لا تُبقي على القطيع. ويقومُ من بينِكم أنفسِكم أُناسٌ ينطقون بالضلال ليقتادوا به التلاميذ في إثرهم. فتنَّبَهوا ” (أع20: 29-30). ويُحَّذر تلميذَه طيمثاوس من أشرار من كل صنف ” يُظهرون التقوى لكنَّهم يُنكرون قُـوَّتَها” (2طيم4: 4).