الأحــد الأول للصيــف !

عـيد الله // عيد الأثني عشر رسولا !

دُعيَ بآسم ” نوسَرديل ” وفُسِّرَ بـ ” عيد الله “. وكانت الرعايا الكلدانية والآثورية تحتفل في شمال العراق بطقس رَّش الماء. كان المؤمنون يرُّشون الماءَ على بعضهم بفرح وآبتجاج. ولا أحدَ ينزعجُ منها. بل ينتظرون بفارغ الصبر هذا الأحد ويتهَّيأون لمتابعة هذا التقليد المتوارث من الآباء دون أن يسألوا لماذا يفعلون ذلك. ويقع هذا الأحد دومًا في الثلث الأول من موسم الصيف حيث ترتفعُ درجات الحرارة. إنَّه زمن الحصاد وجمع الحنطة والمحاصيل الزراعية. لقد وَلَّى موت الشتاء القاسي، والناس يعملُون بجِّدٍ لتوفير قوت الشتاء التالي. إنه زمن الأنتاج. وهذا يبعثُ الراحة والفرح في نفوس المؤمنين عَبَّروا عنه برش الماء البارد على بعضهم. وهذا يُسعِدهم ويُنَّشطهم. وآختاروا يوم الأحد وهو يوم البطالة والراحة. يَهنأون دون أن يخسروا يوم عمل !!. أمَّا مؤمنو وسط البلاد وجنوبها فمارسوا ” رش الماء” يوم عيد الصعود، رُبما لأنَّ الحَرَّ يبدأ عندهم قبل أكثر من شهر، و ربَّما أيضًا جمعوا إلى فرحة الحصاد والعمل فرحة المجد الذي ناله المسيح للأنسان إذ بدأ حكم الأنسان يتحَقَّقُ في السماء قبل الأرض، وهو فخرُ الأنسانية وضمانها بتحقيق حلمها وآستعادةِ سيادتها الموعودة لها على الكون منذ الخليقة، كانت قد فقدتها بسبب الخطيئة.

تتلى علينا اليوم القراءات: أع5: 12-33 ؛ 1كور4: 9-16؛2كور1: 8-14 ؛ لو14: 1-14

الرسالة : 1 كورنثية 4 : 9 – 16 ؛ 2 كورنثية 1 : 8 – 14

يتصاعدُ التَوَّتُر بين بولس والكورنثيين المُفتخرين والمتباهين بثقافتهم الفكرية أو بتراثهم الديني الموسوي فينفشون ريشَهم في وجه بولس ويُضايقونه، لأنه على ما يبدو، رفضَ التكتَّل الذي يقيمونه حول هذا أو ذاك من الرسل. يرفضُ الأفتخارَ بأحدهم وتفضيلَه على غيره. باني الكنيسة ونورُها وقائدُها هوالمسيح. أمَّا الرسل، ومنهم بولس، فهم يعملون وُكلاءَ للمسيح. هذا عنوان مهمتهم ، ومطلوبٌ منهم الأمانة. لذا فمحاسبتُهم وتقييمُ عملهم يعودان الى المسيح لا الى المؤمنين. فلا تهُّمُ بولسَ دينونتُهم، ولا ينتظرُ مديحَهم. إنَّ ضميرَه مُرتاحٌ ، والرَّبُ كفيلٌ بأنْ ” يُنيرَ خفايا الظلمات ويُظهرَ سرائرَ القلوب ” (1كور4: 5).

الرسلُ شبهَ نفايةِ الناس ! { 1كور4: 9-16 }

لا يستسلم بولس لنظرة الكورنثيين عنه، لكنه يستخلصُ الدرس عمَّا يجري. الرسل في مرآة المراقبة مثل أناسٍ يُشغلون بال الآخرين بشكل مُزْرٍ، فيهتَّمَ هؤلاء بمعرفتهم بشكل مُفَّصَل لمعرفة كيفية التعامل معهم، فبدأَ بولس كلامه : ” أرى أنَّ اللهَ أنزلنا نحن الرسل أدنى منزِلةٍ كالمحكوم عليهم بالموت. ذلك أنَّا معروضون لنظر العالم والملائكة والناس” (آية9).يمُرّون بأسوأ الحالات والمواقف بسبب البشارة بالمسيح، ” نجوع ونعطش ونُعَّرى ونُلطم ونُشَّرد .. ونُلعَن ونُضطهَد ويُشَّنعُ علينا ..”، بينما يتمَتَّعُ الآخرون بكل ما هو إيجابيٌّ في الحياة. وختم قائلاً:” صِرنا شِبهَ كُناسةِ ( الزبل!) العالم ولا نزالُ نُفايةَ الناسِ أجمعين” (آية12).

أمَّا عن المراقبة من قبل ثلاث جهات ” العالم والملائكة والناس”: فالعالم يراقبُ رسل التعليم الجديد بحذر وحيطة لأنَّها على ما يبدو تهُّز أركانه وتُهَّددُ حُكمَه وسيادتَه بالزوال. فهو غيرُ مُرتاح إليها وإلى ناشريها ولن يطولَ حتى يُقَّررَ إضطهادها للقضاء عليها في جذورِها. وأمَّا الملائكة فلم يشهدوا منذ بدء الخليقة رُسلاً من هذا النوع وبهذه الغيرة والشجاعة يدعون إلى المحبة وسماع كلام الله وممارسة الغفران والتعاون. يراقبون عن كثب وبشك : هل يمكن الوثوق بالأنسان؟. وكم يدومُ الأنسان في أمانته ؟. وأمَّا الناسُ فمنبهرون ومرتاحون للجديد الذي يُوعِدُ حياة كريمة ومريحة. ولكنهم أيضًا مُحتارون لأنَّ أمورًا كثيرة تبدو مخالفة للمنطق والحكمة البشرية. فهل ستنجح البدعة الجديدة في تثبيت أقدامها وفرض هيبتها؟. إنه دينٌ غريب يُغري ولكَّنه يُحَّير أيضًا ويُخاطرُ بحياة كثيرين لإثباتِ وجودِه!. وما يُحَّير أكثر أن دُعاتَه ورُسُلَه غريبو الأطوار وكأنهم لا تهُّمُهم الحياة على الأرض!. جماعة مرذولة من البشر ومشكوكٌ في دعواها، لا يطلبون لا المال ولا السلطة ولا الملَّذات ، إلى ماذا سيؤولُ مصيرُهم؟. إنَّهم أشبَه بأموات يتحَّركون !

أمَّا بولس فيَهتَّمُ بنوع خاص بموقف مؤمني رعاياه. لا يستحي بولس إنتقاد الكورنثيين له. ولا يتَشَّكى ولا يُعَّيبُ عليهم ذلك. إنما يريدُ أن يعرفوا كم يتألم ويُضَّحي من أجل خلاصِهم، ومن هو الرسولُ الذي يخدمُهم بآسم المسيح خدمةً صحيحة. بولس بشَّرهم، بولسُ علَّمهم ويُعِينُهم ولم يروا غيرَه ” لا صخرًا ولا أبُّلُسَ” حتى يتحَّزبوا لهما أو يدَّعوا الأقتداءَ بهما ويحتقروا بولس، فقال : ” أنا الذي ولدَكم بالبشارة، في المسيح يسوع. فأُناشِدُكم إذًا أن تقتدوا بي” (آية 16). وسيُذَّكرُهم في رسالة لاحقة كم يتحمَّل ويتألم من أجلهم :” أضعفُ مع الضعفاء و أحترقُ مع المتألمين” (2كور11: 29؛ 1كور9: 22). يبدو أن بعضَ الكورنثيين يريدون التمَلُّصَ من هيمنة بولس ليسلكوا دربًا يُعجبُهم، خالطين عاداتٍ وأفكارًا وثنية بالأخلاقَ المسيحية النزيهة التي يُلزمُهم بولس عليها. بولسُ عَّلم وبولسُ عاشَ تلك المباديء في الواقع الملموس لذا يبقى هوالأجدرأن يتعلموا منه ويتبعوا مثاله. ولكي يُذَّكرَهم ” بآداب سيرته في المسيح” يرسلُ إليهم أحد تلاميذه ومرافقيه، وليكشفَ لهم أنَّهم ليسوا وحدَهم يُطالبُهم بالإقتداء بتلك السيرة بل رعايا كل الكنائس التي أسَّسها بولس في بلاد اليونان. وإذا كان للرسول سيادة في التعليم فله أيضًا سيادة في التوجيه لكيفية تجسيد ذلك التعليم في واقع الحياة الأجتماعية اليومية.

جاوزت الشِدَّة طاقَتَنا ! { 2كور1: 8-14 }

ولما يتفاقمُ الخلافُ بين بولس والكورنثيين المُتكَّبرين (1كور4: 18-19) يضطَّرُ بولس ، دفاعًا عن نفسِه، إلى أن يكشفَ حقائقَ كثيرة عن حياتِه تُبَّين كم هو فعلاً رسولٌ مُزدَرَى به ، مُضطهَدٌ وبالنتيجة متألمٌ بسبب البشارة بالمسيح من أجل خلاص الناس. سيذكرُ لاحقًا ما لقيه من المخاطر والشدائد والأضطهاد ” من أبناء ملَّتي .. من الوثنيين.. في المدينة .. في البحر. في الأنهر .. من اللصوص ..من الأخوة الكذّابين ” (2كور11: 23-27). وذكر محنةً لم يُعَّرف بها لكنها كما قال آلمته وضايقته كثيرًا حتى ” يئسنا من الحياة “(آية 9). ربما يُلَّوح إلى مشكلة كبيرة حدثت له في أفسس يقول عنها ” إنّي أذوق الموتَ كلَّ يوم .. فقد حاربتُ الوحوش في أفسس ” (1كور15: 22). لقي بولس مخاطر جَمَّة في أفسس لكنَّها لا تبدو أنها هي المقصودة (أع19: 1-40).

لكن بولس لم يفقد إيمانه بأنَّ الذي أدخله في تلك المعامع لن يسمح بمحنة وتجربة فوق طاقة المؤمن،” بل يؤتيكم مع التجربةِ وسيلة النجاةِ منها بالصبرعليها” (1كور10: 13). وقد سبقَ فأكَّد أنَّ الله يُعَّزيه في جميع شدائدِه (آية4). أمَّا إحساسه بتجاوز الشِدَّة طاقته فقد سمحَ به الله ” لئلا نتّكلَ على أنفسنا، بل على الله الذي يقيمُ الأموات”. هنا في كورنثية بالذات لقي بولس أشَّد المحن حتى تطاول عليه بعضُهم وآضطر هو أن يُدافع عن نفسِه. ولكن هنا أيضًا ظهر له الرب في الحلم يُشَّجِعُه : ” لا تخف. بل تكَّلَمْ ولا تسكُت فأنا معكَ، ولن يبسُط أحدٌ إليكَ يدَه لينالَك بسوء ..” (أع18: 9-10).

سِرنا بينكم سيرة القداسةِ والصِدق !

لم يفعل بولس ذنبًا يستحي به أو يخافُ منه. شدائدُه تأتيه من مُهّمتِه. ومُهَّمتُه تلَّقاها مُباشرة من المسيح. بل يفتخرُ ” بشهادة ضميرِه”. لم يطمع في البشارة ولا في المؤمنين فيربحَ مالاً أو جاهًا. يقول : ” ليس وعظنا عن ضلال ولا فجور ولا مكر. ليس كلامنا لنرضيَ الناس، بل لنرضي الله الذي يختبرُ القلوب… كما تعلمون ولا أَضمرْنا طمعًا، يشهدُ الله، ولا التمسنا المجد من الناس. .. تذكرون جهدَنا وكَدَّنا فقد بلَّغناكم بشارة الله ونحن نعملُ في الليل وفي النهار لئلا نُثَّقلَ على أحدٍ منكم ” (1تس2: 3-9). فبِحَّقٍ يفتخرُ بضميره ويُؤَّكدُ أنَّه سلكَ ” سيرة القداسةِ والصِدق اللذين من لدن الله، لا بحكمةِ البشر بل بنعمةِ الله” (آية 12). فلا يَتَرَّدد أيضًا في أنْ يدعوَ رعاياه ” إقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح ” (1تس1: 6 ؛ 1كور4: 16 ؛ 11: 1).

لقد رسمَ لنا بولس في ما قرأناه صورةً يُجَّسِدُها رسول المسيح : الخدمة في التواضع والبذل، وتحَّمل الشدة والضيق دون يأس أو تراجع، والمقام الأخير المنبوذ من الناس. إنَّه يؤَّدي عملا لله فالله يتكفَّله ويجعل جهوده مثمرة. لا يسكت عن الظلم والشر، ولا يساومُ على الحَّق. ومع ذلك لا يطالب ولا يفرض حَقَّه الشخصي بل يقتدي بالمسيح في تخَّليه عن ذاته وحقوقِه ويقبلُ الموتَ لأجل خلاص الناس. وسمَّى بولس شدائده بالموت، الموت عن الذات من أجل حياة الآخرين: ” الموتُ يعملُ فينا والحياة تعملُ فيكم ” (2كور4: 12). وقد حاول بولس أن يُحَّققَ تلك الصورة بضمير مستقيم وإرادةٍ حسنة، لا ليفتخر بها بل ليُقَدِّمَها نموذجًا حَيًّا لرسل كلَّ العصور خاصَّةً، وللمؤمنين عامَّة. سيُذكر بها الكورنثيين :” إنَّ العلامات التي يتمَّيزُ بها الرسول قد رأيتُموها بينكم : من صبرٍ جميل وأعاجيب ومُعجزات ” (2كور12: 12).