تتلى علينا اليوم القراءات : اش42: 5.9. 14-17 ؛ 1طيم6: 9-21 ؛ متى7: 28-8: 13
الرسالة : 1 طيمثاوس 6 : 9 – 21
بعد أن أرشد بولس تلميذَه أسقف أفسس إلى كيفية التعامل مع كل فئات المؤمنين مُبَّيِنا نوع السلوك الذي يجب عليهم إتّباعُه، إلتفتَ إلى تلميذه ليحُّثَه على التمَّسك بالقيم المذكورة وعدم التخاذل في إبلاغها إلى ألناس قائلا: “عَّلِم هذا وعِظْ به. وإن علَّم أحدٌ غير ذلك .. فهو رجلٌ أعمتْه الكبرياء.. به هوسٌ بالمناقشات والمماحكات .. أضاعوا الحق وحسبوا التقوى سبيلا الى الربح” (1طيم6: 2-8). ويُؤَّكدُ أن التقوى الصحيحة إذا آقترنت بالقناعة تُثمرُ ربحًا عظيمًا. لقد وُلِدنا وليس معنا شيء، وسنموت ولا نأخذ معنا من خيرات الدنيا شيئًا. ويقول: ” يكفينا القوتُ والكِسوة”.
الجهاد السَّيِيء !
ثم يتحَّدثُ بولس عمن يسيءُ إستعمال خيرات الدنيا ويجاهد، بمظاهرالأيمان والتقوى، في سبيل إقتنائِها والإكثارِ منها. سبق وأدان الرب يسوع الغني الغبي الذي ربط حياته بالغنى وأنذره الله بالموت المفاجيْ قائلا:” الليلة تُسترَّدُ نفسُك منك، وهذا الذي أعددته لمن يكون؟. وأضاف هكذا يكون مصيرُ من يجمعُ لنفسِه ولا يغتني بالله” (لو12: 20-21). ولهذا نصح الرب المؤمنين به أن يجمعوا” كنوزًا في السماء لا على الأرض”، مؤَّكِدًا أنه تستحيلُ خدمةُ الله والمال في آن واحد (متى6: 20، 24)، وأكَّد أن دخول الجمل ثقبَ الأبرة أسهلُ من دخول عابد المال ملكوت الله “(متى19: 24). ويشرح الرسول لتلميذه لماذا يصعب أو يستحيل على المُتَّعلق بالمال والمجاهد في سبيل الإغتناء منه أن يخلُصَ. ويُعَّددُ المخاطرَ كالآتي، ” من يطلبون الغِنى ” :-
- يقعون في التجارب. تجارب الغش: فيستعملون أساليب غير شرعية كالتهَّرب من الضرائب، وغسل الأموال المكتسبة من العمل الأسود أو يلجأون إلى طرق ملتوية كاللجوء إلى ثغرات قانونية والتلاعب بالمقاييس والموازين، وصرف مواد مغشوشة، وغيرها. و تجارب الظلم ، كآستغلال ظروف الأيدي العاملة، أو تشغيل الناشئة وغير المؤَّهلين الذين يكلفون قليلاً على أرباب العمل لكنهم يُنتجون كثيرًا.
- يقعون في الفخاخ. يقول المثل:” من حفر حفرةً لغيره وقعَ فيها “. من يطلبون الغنى المادي كثيرون، ولا يمكن إحصاؤُهم. وكل واحد منهم يحاول أن يسبق غيره في الغنى و يفوقَه. تتضارب الحِيَلُ كالمصالح، ويترَّبصُ بعضُهم لبعض. وشِدَّة المنافسة تقود أحيانًا إلى التورط والأنزلاق إلى ما لا يُحمَدُ عُقباهُ، وحتى الوقوع في مكايد الآخرين. لا يُسرعُ الغنى دومًا إلى المتَعَّقبين له بل يهرُب منهم، والجريُ وراءَه لا يُبَّشرُ دومًا بالخير.
- يقعون في شهواتٍ عمياء. ومن يكثر غناهُ يطلب الراحة ويشتهي كلَّ ما يُغريه أو ما يُبهرُه دون الأهتمام بحُسنِه أو سوئِه. تستأسدُ الشهوات وتتحَّكم في السلوك كلَّما تفاضلت مقَّوماتُها و ركائِزُها. خلقَ اللهٌ كلَّ ما هو جَيِّد،” ورأى اللهُ أنَّ كلَّ ما صنعَ حسنٌ جِدًّا” (تك1: 31). أمَّا الأنسان فأنغرى بالمظاهرالحِسّية، ” ورأتْ المرأة أنَّ الشَجرة طيِّبة للمأكل وشَهّية للعين ، وأنَّها باعثة للفهم” (تك3: 6). وآنجَرَّت وراءَ شهوتها وأوقعت معها كلَّ الناس.
- حُبُّ المال أصلُ كلِّ شَّر. ويُنهي الرسول القائمة السوداء بمضار التعَّلق بالمال بأنَّها ” تُغرقُ الناس في الدمار والهلاك”. إِنَّ من يُحّبُ المال لا يترَدَّد ولا يتراجع عن أي خطأ أو سوء، لأنه يعتبرُ كلَّ شيءٍ حلالًا، وكلَّ شيءٍ مسموحًا، بل كلَّ شيءٍ جَيّدًا حتى الكذبَ و السرقةَ والقتلَ. وقد تبَّنى بعضُهم مبدأَ ” الغاية تُبَّررُ الوسيلة “، ضاربين عرضَ الحائط الضمير والعدالة والرحمة وحتى القانون. ولا مكان لهذه الأمور كلِّها في ملكوت الله.
هكذا يتأكدُ قولُ الرَّب بأنَّ ” دخولَ ثقبِ الأبرة أسهلُ للجمل من دخول غَنِيٍّ ، عبدٍ للمال ، ملكوتَ الله “. لأنَّ كلَّ هِمَمِ جمع المال والطرق الملتوية التي ترافقُه تُشغلُ عبدَ المال وتُبعِدُه من الله الذي يدعو إلى التوازن بين جمع المال وصرفِه كوسيلةٍ لأشاعةِ الخير ولتبليطِ درب الحياة الأبدية. الغنى هو ملك الله وفَّره للأنسان من أجل الحياة. وعلى الأنسان أن يستعمله وسيلةً. وبقدر بقاءِ المالُ وسيلةً لا هَدفًا يمكن جمعه بالطرق السليمة، وأيضًا إستعماله لبناء المجتمع الأنساني، وللصرف على الحاجات الخاصّة والعامّة لتسهيل الحياة على كلِّ إنسان، وتحقيق العدالة والمساواة ، وضمان العيش بكرامةٍ وسلام.
الجهاد الحَسَن !
ينتقلُ بولس إلى الجهاد الحسن الذي يبني الحياة والذي من الضروري أن يتحَّلى به المؤمن بالمسيح، لاسيما من يزاول الخدمة الكهنوتية. فطلب من تلميذه، أسقف أفسس، أن يجتهدَ و يطلب ” البِرَّ والتقوى والأيمان والمحبة والصبر والوداعة ” ونعَتَها بـ” الجهاد الحسن”، لأنها لا تنزل عليه كالمطر دون إرادتِه. بل يجب أن يُكافحَ لينموَ فيها ويرتفعَ في سُلَّم ممارستِها فيصلَ بها إلى ” ملءِ قامةِ المسيح”، أي بالمستوى الذي يجعله قادرًا أن يمارسَ عمل المسيح ودوره في ” خلاص البشرية”. الكهنوت للمسيح وكذا السلطان ينالُها الرسول من المسيح، مِنحَةً لا إستحقاقًا ولا سعيًا. أما السلوك فعلى الرسول أن يتحَّلى بما يلزم لأداء تلك الخدمة بشكل مُثمر. وآختصرها بولس في الرسالة الى أهل فيلبي بقوله: ” تخَّلقوا بفكر المسيح” (في2: 5). ركَّز هناك على المحبة والنزاهة والتواضع والبذل، أما هنا فأتى بذكر صفاتٍ أخرى مُكَّمِلة لها. بعضُها للجهاد في سبيل ممارستها، وغيرُها لتشجيع غيره عليها.
إحفظ الوصية ..و.. الوديعة !
خادمٌ المذبح ليس فقط مسؤولا عن نفسِه، بل أيضًا عن الرعية الموكولة الى رعايتِه. وعليه ألا يتهاون في السهر عليها وتثقيفها من متطلبات الأيمان المستقيم والفعَّال. فالوديعة هي الصمود في الأيمان بالمسيح والأمانة لتعليمه،” الموافق للتقوى”، كما تعلَّمه التلميذ من المعَّلِم الرسول، وكما تلَّقاه الرسول من المعَّلم الوحيد المسيح نفسِه. ورأسُ الوصية ” أُثبُت في الأيمان والمحَّبة” (2طيم1: 13-14)؛ وعُنُقها ” سَلِّمْ ما سمعتَه مني بحضور شهودٍ كثيرين وديعَةً إلى أُناسٍ أُمناء يكونون أهلا لأن يُعَّلموا غيرَهم ” (2طيم2: 1-2)؛ وجسمُها “بَّشِرْ بكلام الله وأَلِّح في إعلانِه، بوقتِه وبغيرِ وقتِه. وَبِّخْ وأَنذِرْ وعِظْ صابرًا في التعليم ” (2طيم4: 1-2). حفظُ وديعة الأيمان ليس معرفةُ مبادئه عن الغيب كحفظ الكتب على رفوف المكتبة. بل هو عيشُه بـ”ضميرٍ سليم” (1طيم1: 19)، والترَّوُضِ على التقوى والصلاة(1طيم2: 1؛ 4: 7-8)، ولاسيما المواظبة على التثَّقفِ والعطاء بالقراءة والوعظ والتعليم (1طيم4: 13-16). و هذا يتطلبُ جهادًا وتعبًا وصبرًا. وحفظ الوصّية لا يعني فقط إبلاغ تعليم المسيح، بل يعني بنوع خاص السهر على نقاوة هذا التعليم وعدم السماح بأن تختلط به أفكار العالم ومبادئُه ، بحجةٍ علمٍ أو منطقِ حكمةٍ أو منفعةٍ، ولا أن يُسَّببَ هو شكًّا أو لومًا بسبب تصَّرفٍ أو تعليمٍ غريب مشكوك فيه،” إحفظ الوصية مُنَّزَهًا عن العيب واللوم” (أية 14)، لئلا يُشَّوَهَ بسببهِ بريقُ الأيمان. على خادم الأيمان أن يكون للمؤمنين ” قُدوةً حسنة في الكلام والتصَّرُف و المحَّبة والأيمان والعفاف” (آية 12). كماعليه أن يتفادى” الكلام الفارغ”، ويبتعدَ عن” الجدالات العقيمة “، ولاسيما أن يتابع خدمته ” دون تحَّيز ولا محاباة في كلّ شيء” (1طيم 5: 21).
أوصِ الأغنياء !
وبعدَ رسم صورة الرسول/التلميذ يتابع بولس تعليماته للتلاميذ/المؤمنين ولاسيما فئة الأغنياء الذين خصَّهم بفقرةِ اليوم. وعنى بنوع خاص “أغنياء هذه الدنيا” الذين يملكون من خيراتِها ما يُتيحُ لهم فعل خيرعظيم أو يُجُّرهم الى الهلاك إذا أساؤوا إستعماله. قال أوصِهم: ويشرح الرسول لتلميذه لماذا يصعب أو يستحيل على المُتَّعلق بالمال والمجاهد في سبيل الإغتناء منه أن يخلُصَ. ويُعَّددُ المخاطرَ كالآتي، ” من يطلبون الغِنى ” :-
- ألا يتكَّبروا. من تأثير الغنى أنه يجُرُّ صاحبَه إلى الكبرياء. يتعالى على الآخرين ويحتقر الفقراء والبسطاء لانهم لا يقدرون أن يُحَّققوا كلَّ رغباتِهم بسبب قصر باعهم، فيتمنون ولكن يتألمون، بينما يتمَّتع هو بكل شهواته ورغباته. يتباهى بما يملكه ولا يعترف بفضل الله. لا يحب الله المتكبرين بل” يرُّدُهم ويُنعمُ على المتواضعين” (أم3: 34)، و”يُبَّددهم ويصرفهم فارغين”( لو1: 51-53).
- ألا يتَّكلوا على الغِنى. إنَّه زائل ولا يقوى لا على المرض ولا على الموت، ولا خلاصَ بيدِه. الله الذي أعطى، وكل خير وعطية صالحة من عنده (يع1: 16-17)، قادرٌ على أن يستردَّ كلَّ شيء بلحظة ،” هذه الليلة تُؤخَذُ نفسُك منك، فهذا الذي أعددته لمن يكون” ؟ (لو 12: 20). الله وحدَه قادرٌ على كلِّ شيء.
- أن يغتنوا بالأعمال الصالحة. لم يخلق الله الأنسان للأكل والشرب ولجمع الثروات. خلقه ليكون صورة له في الأعمال الصالحة. كتب بولس لأهل أفسس: ” نحن خليقة الله. خُلِقنا في المسيح يسوع للأعمال الصالحة التي أعَّدَها الله لنا من قبلُ لنسلُكَ فيها “(أف2: 10). فقد قال الرب :” لا تهتموا بما تأكلون ..وتشربون..وتلبسون .. أطلبوا أولا ملكوت الله ومشيئتَه “(متى6: 31-34). والعمل الصالح هو” كلُّ ما هو حَّقٌ وشريفٌ وعادلٌ وخالصٌ ومُستحَّبٌ و طَّيبُ الذكرِ وما كان فضيلةً وأهلاً للمدحِ ” (في4: 8).
- أن يُحسِنوا بسخاء. مبدأ الصدقات والأحسان إلى المحتاجين لا يبدو عملا صالحًا فقط ، ولا فعل محبة ورحمة محض، بل يبدو واجبًا لمقاسمة خيرات الله وعطاياه بين من نالوا كثيرا منها ومن لم يحصلوا حتى على حاجتهم. لأنَّ الخيرات تأتي من الله وهو أبُ الجميع، والبشر كلهم إخوة، والأخوة يتقاسمون إرثَ أبيهم. بهذ الروح يوصي بولس أهل كورنثية بالأحسان عن مساواة قائلاً: ” أعني أن تكون بينكم مساواة : فإذا سَدَّت اليومَ سَعَتُكم ما بهم من عوز، سَدَّت سَعَتُهم عوَزَكم غدًا، فحصلت المساواة. كما ورد في الكتاب:” المُكثِرُ لم يفضُلْ والمُقِّلُ لم ينقُصْه شيء” (2كور8: 13-14؛ خر16: 18). ومن يفعلُ هكذا” يخزنُ لنفسِه كنزًا يكون أساسًا للمستقبل فينالون الحياة الحقيقية ” (آية 19).