الأحـد الرابـع للـدنـح !

تتلى علينا اليوم القراءات : اش46: 5-13 ؛ عب7: 18-28 ؛ يو1: 43- 2: 11

الرسالة : عبرانيين 7 : 18 – 28

ولد يسوع فآستقبلناه مع الرعاةِ والمجوس في قلوبنا بفرحٍ وآرتياح. أمَّا الآن فقد كبرَ وآعتمد لذا نجلس عند أقدامِه مع المجدلية (لو10: 39)، ونفتح كتابنا المقدَّس، العهد القديم، لنستعيدَ في ذاكرتنا الصور التي قَدَّمها عن شخص المسيح وحياتِه، لندخلَ الى عمق ذاتِ يسوع و نتعَرَّفَ على حقيقتِه المحجوبة عن الحواس فنتعاملَ معه تبَعًا لذلك.

كاهن على رتبة ملكيصادق !

يُجري الرسول مقارنةً بين كهنوت المسيح يسوع وكهنوت اللاويين خلفاء هارون ويُشَّبهُهُ بملكيصادق الذي جاء ذكرُه في حياة إبراهيم وقد دفعَ له، بعد إنتصاره على أعدائه وإنقاذ لوط إبن أخيه وثروته، العُشرَ وقبلَ منه بركةَ الله (تك14: 17-20). ولم يذكر الكتاب عن ملكيصادق ما يُعَّرفنا به غيرَ أنَّه ” ملك ساليم ” وأنه قرَّبَ خُبزًا وخمرًا وأخذ الجزية من إبراهيم ثم باركه بآسم الله. وجاءَ ذكرُه في المزمور 110: 4، في نبوءة داود عن ملوكية المسيح وكهنوتِه على مثال ملكيصادق. ونقل هنا الرسول ما آعتقده عنه شعبُ الله فآعتبَرَه ” كائنًا إلهيًا ومخَّلِصًا سماويًا “، فقال:” كان ملكَ ساليم وكاهن اللهِ العلي.. تفسيرُ إسمِه أولاً <ملكُ العدل> ثم ملك ساليم ، أي ملك السلام. وهو لا أبَ له ولا أُمَّ ولا نسبَ ولا لأيامِه بداية ولا لحياتِه نهاية. ولكنَّه على مثال إبنِ الله، يبقى كاهنًا إلى الأبد ” (عب7: 1-3). إنَّه تفسيرٌ عميقٌ ودقيق، بقوَّةِ الروح، مبنِيٌّ على المزمور 110.

يريدُ الرسول أن يُبرهنَ أنَّ يسوع هو فعلا المسيح المُنتظر والمُرسَل من قِبَلِ الله وأنَّه كاهنٌ وملك، وكهنوته يتفَوَّقُ على كهنوت اللاويين، وأنَّه إلهي، وأنَّه لا يزول. وبما أنَّه يكتبُ لبني إسرائيل وللمتنَّصرين منهم والمتشَّبثين بالكهنوت القديم، عن إيمانٍ أو عن تعَّصبٍ أعمى ، يبني عقيدتَه على الكتاب المقدَّس نفسِه داحِضًا التبريرات التي يبرزونها بهدف عدم التخَّلي عن القديم والتحَّول إلى الجديد الذي تحَقَّقَ في شخص المسيح. فيُعلن أنَّ المسيح هو الكاهن الإلهي الحقيقي وأما القديم فلم يكن سوى صورةٍ ورمزٍ للدلالةِ على الجديد. ويكشفُ بالنتيجة الصورة الحقيقية للمسيح، إنَّه مُرسَلُ الله. ويُقَّدمُ حجَجَه كالآتي :

1- العهد القديم يتكلم عن يسوع في وجوهٍ بشرية.

ذكر الرسولُ خبر ملكيصادق الذي ظهر فجأةً ثمَّ آختفى على أنَّه صورة للمخلص الموعود الذي به ستتبارك الأمم كلُّها حسب وعد الرب لأبراهيم (تط12: 3)، وسيذكر أيضا موسى وداود، وكلهم مُرسَلون من الله الذي كشفَ على لسانهم كيف سيكون ” المُرسَل الخاتمة ” كي تتعَرَّفَ عليه الأنسانية عند حضورِه. وسيكون “مسيحُ /مُرسَلُ” الله مثل ملكيصادق إلَـهًا بهيئة إنسان. فالمسيح أيضًا ليس له في الأرضِ لا أبٌ ولا إخوةٌ ولا أولادٌ، حتى سيقولُ عنه الفريسييون ” نحن لا نعلم من أين هو”؟ (يو9: 29). ينطقُ بآسم الله و يعمل أعماله. ويكون حضورُه برَكةً للبشرية كلِّها وتعترفُ به كلُّ الشعوب، كما قال القائد الوثني الروماني:” كان هذا حَقًّا ابنَ الله” (متى27: 54).

2- دفع اللاويون الُعُشر للمسيح وأخذوا منه البركة.

يُقَّدمُ الرسول حَّجَّةً أخرى لتفَوَّق كهنوت المسيح وهي أنَّ الكهنوت الأول (الكهنة واللاويين) قدَّموا للمسيح، في شخص إبراهيم جَدِّهم الذي ينحدرون من صلبِه، وعلى يد ملكيصادق الذي هو صورته وهو كاهن العلي، ومنه أخذوا البركة التي أعطاها لآبراهيم. لأنَّ النظام يفرضُ الجزية من الأدنى للأعلى وهذا الأعلى هو يبارك من هو أدنى منه. وهذا هو الذي تمَّ بين إبراهيم وملكيصادق.

3- كهنوت اللاويين من البشر، وكهنوت المسيح من الله.

وما سبق يُشيرُ إلى أنَّ كهنوت المسيح هو من الله، فالمسيح هو الله المُتجَّسد. بينما كهنوت هارون وخلفائِه كان من البشر. أشار الله الى موسى ليُقيمَه من البشر ليُؤَّدوا خدمة القرابين لله تسبيقًا لذبيحة الفداء التي سيُقَّدمُها إبنُ الله، النازل من السماء. فيُدركَ الناسُ أنَّ الخطيئة تتطلبُ فِديةً لتُغفر. ولكون الأنسان غيرَ قادرٍ على دفع الثمن فسيُقَّدمُها إبن الله نفسُه. لأنَّه كاهن إلهي لا إنساني ثبَّتَه بقسم (آية 21؛ مز110: 4)، وبارٌ وقدير،” إهدموا هذا الهيكل و أنا أُقيمُه في ثلاثة أيام”! (يو2 : 19).

4- كهنوت اللاويين ضعيفٌ وزائل ولا يقدر أن يُخَّلِص.

وبما أنَّ الكهنوت الأول كان من البشر فكان ضعيفًا وزائلا. ولم يكن حاله يُؤَّهِلُه ليفديَ البشرية كلَّها، فيُعيدَنا إلى صداقةِ الله. هذا النقصُ في قدرة كهنوت البشر إحتاج إلى من ” يُكَّمِلَه “. ولم يكن قادرًا عليه غيرُ الله نفسِه. فالمسيحُ كاهن الله جاءَ ليُكَّملَ نقص الشريعة الأولى (متى5: 17)، و كان وحدَه قادرًا على أن “يُقَّرِبَنا ‘لى الله” (آية19). لأنه كان” الله” ولأن ” العذابَ الذي أُبتُليَ به يُمَّكِنه من إغاثةِ المبتلين” (عب2: 18)، ولأنَّه ” حَّيٌ باقٍ كي يتشَّفعَ لهم “(آية25). فكهنوت المسيح إذن “أفضل من كهنوتِ العهد الأول”.

5- الأول قدَّم ذبائح حيوانية، والمسيح قدم ذبيحة طاعتِه ودمه.

والحُجَّة الأخيرة التي يُقَّدمها الرسول لتفَوَّقِ كهنوت المسيح هي أنَّ الكهنوت الأول قَدَّم قرابين حيوانية مما يملكه الفرد. لكن الخطيئة لم تكن في مُقتنى الأنسان، ولا في الأفراد، بل كانت في الأنسانية كلها وفي إرادة كلِّ الأفراد. لأنهم عصوا كلُّهم أمرَ الله”وأخطأوا جميعًا في آدم” (رم5: 12)، ورفضوا تدبيرَ الله رافضين بذلك سُلطان الله؛ ” عرفَ الثورُ مُقتنيه و الحمارُ معلفَ صاحِبِه، أما بنوا اسرائيل فلم يعرفوا. شعبي لا يفهمُ شيئًا” (اش1: 3). لم يُطِع الناسُ الله. أمَّا المسيح “ابن الأنسان” فأطاع الله (مز29: 9) وكَفَّرَ بذبيحةِ دمِه البارعن إخوتِه.

هو ضمانٌ لعهد أفضلَ من الأول !

الكهنة البشر يموتون. أمَّا المسيح فهو لا يموت، وقد إستلَم حكمَ الكون كلِّهِ (متى28: 18؛ مر16: 19)، وبيده ” مفاتيح الموت والجحيم ” (رؤ1: 19). هو الذي جاء ليُخَّلِصَ العالم (يو12: 47)، فعكس موازين البشر وغَيَّرَ طريقة تفكيرهم، ومات من أجل البشر الخاطئين فأحياهم بالنعمة. وكما ” بزَّلةِ إنسانٍ واحد جرى الهلاك على جميع الناس، فكذلك بِرُّ إنسانٍ واحد وهبَ جميع الناس البِرَّ الذي يمنح الحياة. وكما أنَّ جماعة كبيرة جُعِلَت بمعصيةِ إنسان واحد خاطئة فكذلك بطاعةِ واحدٍ تُجعلُ جماعةٌ كبيرة باّرة ” (رم5: 8 و18-19). لذا فكهنوت المسيح وعهدُه أفضلُ من الذي سبقه. فلنخضع له !.