تتلى علينا اليوم القراءات : اش9: 7-16 ؛ 2كور10: 1-8 (18)؛ مر7: 1-8
الرسالة : 2 كورنثية 10 : 1 – 8
قبل أن يُتابعَ بولس ويرُّدَ على التُهَم المُوَّجهة إليه يتحَدَّثُ عن موضوع لَمِّ التبرعات للأخوة في فلسطين حيث يُعانون المجاعة، ويمدَحُ تطوُّعَ الكورنثيين للتجاوب مع المحنة بمحبة و رأفة وغيرة غير مُتَوَّقعة، إعتبَرَها بولس نعمة عظيمة غيَّرت حال الكورنثيين ونفسيتَهم حتى تحَدَّوا مِحَنَهم وشدائدَهم و” تحَوَّل فُقرُهم المُدقَع إلى سخاءٍ عجيب .. فاقَ طاقتهم” (2كور8: 2-3). جاءَ إحسانُهم سخيًّا جِدًّا شهادةً على إيمانهم الصادق بالله، وعلى إحترامهم لرسولهم و التجاوب مع طلبه. بل فاقَ إسعافُهم ما ” كان بولس يرجوه منهم”. فكال لهم مديحًا، لم يُجرِهِ لغيرهم، وقال :” إنَّكم مُتفَّوقون في كلِّ شيء : في الأيمان والبلاغةِ والمعرفة .. والمحبة”. و يختم حديثه الطويل عن الإحسان بأنه لم يقتصر على سَدِّ حاجة القديسين بل أدَّى أيضًا إلى حمدِ جزيلٍ لله الذي إذا سمحَ بعُسرٍ لأحد فاض بيُسرٍ لغيره حتى تجدَ المحبَّةُ فرصةً لتفيضَ (2كور9: 11-15).
المتواضعُ في القربِ والجريءُ عن بُعد !
هكذا إدَّعى مُعارضوا بولس بأنَّه وضيعٌ ضعيف عندما يحضر بينهم وليست شخصيتُه قوية حتى يفرُضَ نفسَه. لأنهم يرُدّون عليه ولا يجد جوابًا على ما يُحرجونه به. أمَّا وهو بعيدٌ في مقدونية فهو يُجري أحكامًا غير صائبة أو عادلة ولا علاقة لها بالحَّق، بل يُحاولُ التسَّلُطَ على إيمانهم (2كور1: 24)، ويستغِلَّ تبشيره وسُلطته، كما يفعلُ عادةً كلُّ البشر، لينتفع منهم و يُمَّجدَه الناس. يبدأُ ردَّه بالإحتكام أولاً إلى ” وداعة المسيح وحلمِه “، أي يتعاملُ معهم كما تعاملَ يسوع مع الناس وطلب من تلاميذه أن يقتدوا به فيكونوا ” ودعاء وحليمين كالحمام” (متى10: 16) ، لأنَّ قلبَه هو وديعٌ وحليم (متى11: 29). وتلاميذ المسيح يحُّلون خصاماتهم بالوداعة واللطف لا بالسيف والعنف مثل أهل العالم. فرَجا منهم ألا يُلجِئوه إلى جرأة العنفِ حتى لدى حضوره بينهم. فقد إتهموه أنَّه ” يسيرُ سيرة البشر”، وأنَّه يُهَّددُهم بمعاقبة المتمَرِّدين لكنه ليس قادرًا أن يُثَّبتَ ما يُعَّلِمُه فيتهَرَّبُ بالتخويف. فقالوا عنه ” رسائله قاسية وعنيفة، لكنَّ شخصَه هزيلٌ و كلامُه سخيف”. ويرُّدُ بولس أنَّه ليس ذا وجهين. بل يفعلُ في حضوره ما يقوله في غيابِه. و أنَّه قادرٌ على أن ” يهدمَ آراءَ هؤلاءِ المغالطين، وكلَّ مرتفعٍ يحولُ دون معرفةِ الله “. ليس الخلاف على آراءٍ خاصّة بل على الحقيقة كما أوحى بها الله. وحُجَّة بولس أقوى لأنه ينهلُ الحقيقة من نبعها، من المسيح نفسِه الذي نوَّرَه على طريق دمشق ويقوده في بشارته في كلِّ مكان وكل شيء (غل1: 11-12).
يدعو أهل كورنثية إلى النظر الى الأمور بمنظار الله لا البشر، وقياس الحقائق بالواقع لا بالخيال والإدِّعاء. هل يعتقدون أنهم يعرفون المسيح ويفهمون تعليمه أكثر من بولس؟. بأيِّ حُجَّة؟ أَ ما هو بولس الذي بشَّرهم بالمسيح!. وبولس تلقى علمه من المسيح مباشرةً وضمن صِحَّة بشارته بكفالة وتأييد بطرس رئيس كنيسة المسيح؟. فمن يكون مؤَّهلا أكثر من هذين المصدرين ويكون معارضوه قد تثقفوا على يديه؟. بولس مُرسَلٌ من قبل المسيح نفسِه (أع9: 15-16)، ومُهِّمتُه ثبَّتَها أساطين الكنيسة (غل2: 9)، ومن يكون جديرًا أكثر منه ليَضمن الحقيقة ويُوَّجه الرعايا ويُنَّظم حياتَها حسب فكر المسيح وروحه؟. وقد يستعملُ الناسُ نفوذَهم ومنصبَهم لمكاسب خاصّة، أما بولس فيفتخرُ أن يكون المسيح قد إختاره وأولاه السلطة اللازمة لأداءِ شهادته ورسالته، لكنه يُقِّرُ بأنَّ سلطانَه لخدمتهم ومنفعتهم الروحية لكي يحميهم من ضلال الفكر البشري وفسادِ سيرةِ أهل العالم. وإن كان بولس إنسانًا مثل كل الكورنثيين “يؤمن بآبن الله الذي أحَّبَه “، فهو ليس لا طاغوتًا ولا عفريتًا، لكنه لا يسلك مثل كل الناس درب عاطفة الأنانية وشهوة الجسد. كان حينًا يُجاهدُ بروح العالم وسِلاحه. لكنه لمَّا عرف المسيح إنقلبَ إليه وآمتلأ منه حتى شعرَ أنه أصبح صورة بل جُزءًا من المسيح الذي إستولى عليه وأنَّه مصلوبٌ به عن العالم وأن المسيحَ يحيا فيه ويعملُ بواسطته (غل2: 20). وعليه يجاهدُ بسلاح المسيح نفسِه، سلاح الروح أي المحبة والخدمة. ولا يوجد سلاحٌ أنفذَ منها.
تهمة الإعتداد بالنفس والتباهي !
إنتشر في كورنثية ، كما في سائر المدن، مُعَّلمون عارفين بالكتاب المقدَّس، يعتقدون أنَّهم قد بلغوا قمة المعرفة، ولا أحدَ أكثر ثقافةً منهم وفهمًا للحقيقة الألهية، فيُعَّظمون ويُقَّدمون أنفسَهم نماذج للحق ومثالا يُحتذى. ويبدو أنَّ مناوئيه قد إتَّهموه بذلك. رفضَ بولس أن يتشَبَّه بهم. قياسُ بولس هو دعوة الله له وتخويله مهّمة البشارة. ويفحصُ نفسَه وما نتج عن عمله ليرى مدى تجاوبه مع مشيئة من أقامه على الخدمة، ” مخافة أن أكون مرفوضًا بعد ما وعظتُ غيري” (1كور9: 27)، وقناعةً منه بأنَّه ” إنْ ظنَّ أحدٌ أنَّه شيءٌ ولم يكن بشيء فقد خدعَ نفسَه. فَلْينظُر كلُّ واحدٍ في ما تُقَّدم يدُه. فيكون إفتخارُه بما يخُصُّه من أعمالٍ دون أن ينظر الى غيره. على كلِّ واحدٍ أن يحملَ حِملَه ” (غل 6: 3-4). وإذا إفتخر بولس فلا يتحَدَّث عن خيال، ولا يختلق أو يُصَّنف من عنده، ولا يزدري غيرَه. يفتخر بولس بأداء واجبه. ” لقد جاهدتُ جهادًا حسنًا وأتممتُ شوطي وحافظتُ على الأيمان” (2طيم 4: 7). لا يفتخر بأعمال غيره ولا يتدخل في شؤونه. يتمنى فقط أن تتقدم رعاياه في الفضيلة وتشُّعَ حولها أنوارَ الحق وتنشر المحبة ليتسع قُطرُ دائرة البشارة وتشترك البشرية كلها بخلاص المسيح. ويدعو الكورنثيين، ومن خلالهم جميع تلاميذ المسيح، الى الجهاد في هذا السبيل والإفتخار به. فالمهم أن يرضى الرَّبُ عن سيرة تلاميذه ويُعلنَها مستقيمة جديرة بالمدح والمجازاة. وهذا يتم بقدر تجاوب التلميذ مع إرادة الله ودعوتِه بوعي وثقةٍ وإخلاص. عليه أنهى بولس هذا الفصل من رسالته بالتأكيد على أنْ ” ليس صاحبُ الفضيلة المُجَرَّبة مَن عَـظَّمَ نفسَه بل من عَـظَّمه الرب ” (آية18).