عــيد الثالوث الأقــدس
تتلى علينا اليوم القراءات: أع4: 5-22؛ يو2: 15-26 1كور5: 6-8؛ لو7: 36-50
القـراءة : أعمال 4 : 5 – 22:– الرسلُ يُبَّشرون ويُجرون المعجزات والناسُ تؤمنُ بهم، فيُلقيهم اليهود في السجن، يُعَّذبونهم ، يُهَّددونهم، ويُنذرونهم بعدم التبشير، لكنَّ الرسلَ يُفَّضلون الطاعة لله ويستمِّرون في التبشير مُتحَّملين ضيقَهم بفرح.
القـراءة البديلة : يوئيل 2 : 16 – 26 :– يدعو النبيُّ يوئيل الشعبَ إلى التوبة و الأستغفار، ويَعِدُه بخيراتِ الله على يد المسيح، حتى إذا آمنَ يرتاحُ ويتنَّعم.
الرسالة : 1 كور 5: 6 – 8 :– وقعَ حادثُ زنًى بين مؤمني كورنثية فيُوَّبِخُهم بولس يُطالبُهم بتطهيرأنفسِهم من الخُبثِ والفساد، وبإزالةِ الشَّرمن بينهم بعزل الجاني.
الأنجـيل : لوقا 7 : 36 – 50 :– يذكُرُ لوقا فئةً كالفرّيسيين جعلوا شِعارَهم رفضَ الأيمان بيسوع، ثمَّ يُخبرُ عن الخاطئةِ المؤمنةِ به والتائبةِ على أقدامه في بيت سمعان الفرّيسي.
أطلعنا إنجيلُ اليوم على فئتين منحرفتين من الناس ، هما :
زمَّرنا لكم … وندبنا لكم …!
هؤلاء الذين يعيشون على هامش الحياة الأجتماعية، ويرفضون التفاعلَ مع الآخرين و بالتالي ينغلقون على أنفسِهم. لا مبدأَ لهم ولا هدفًا في الحياة، ولا يُوجدُ منطقٌ في تصَّرُفِاتِهم ولا مُبَّرِرٌ لأعمالهم. فهم يأكلون ويشربون، يلبسون ويلعبون، ينامون ويقومون، يضحكون ويبكون، يقتنون ويصرفون…دون أن يكون لهم نهجٌ أو خُطَّةٌ يتقَّيدون بها، ولا هدفُ يبغون تحقيقه. يتبعون سُنَّة الحياة ويفعلون كما يفعل الآخرون دون أن يُكَّلفوا أنفُسَهم عناءَ البحثِ في صِحَّةِ أونفعِ ما يفعلون أو خطأَه وعدم جدواه. رفضُ الآخرين شِعارُهم. التقوقُعُ في آرائِهم وعاداتِهم ديدَنُهم. لا يثقون بأحد ولا يجدون عند غيرهم ما قد يخدُمهم. إنَّهم مُقتنعون بأنفُسِهم ومُشْبَعون بما يجولُ في خاطِرهم : لهم عيون وكأنَّها لا تُبصِر. لهم آذانٌ وكأنها لا تسمع. لهم فقط لسانٌ ينطقٌ ” في وقتِه وفي غير وقتِه “، و” بحَّقٍ أو بغير حَّق”!. إنَّهم مُكتفون بذواتِهم.
وهل هذه هي صورةُ الله في الأنسان ؟. لماذا فينا الفكرُ إذًا؟. ولماذا لنا العاطفةُ والأختيار؟. أ لم يقُل اللهُ للأنسان :” أُنموا .. أُكثروا .. وتسَّلَطوا على الكون..؟”. هل كان ذلك يستندُ الى مبدأٍ وينشُد هدفًا أم كان فقط ليقتلَ به الأنسان ضجَرَه والملل؟ أو لِـينقادَ للشهوات والنزوات الغريزية؟ أم لِيُنافسَ الخالقَ ويُعارضَه؟. أو هل صنع اللهُ الأنسانَ عبدًا تابعًا له وآلةً يُنَّفذُ بها أوامرَه، أم صورةً منه إجتماعيًا له مُهمَّةٌ خاصّة يُؤَّديها بتعاون أقرانِه الآخرين ويُحَّقِقَ من خلالِها ذاتَه ويُكَّملَ الكون؟. هل يشعرُبمسؤوليته تجاه غيرِه وأنَّ هذا الغير يتساوى معه أمام الله ، وعليهما معًا أن يُحَّققا مشيئة الله؟. يبدو أبناءُ هذه الفئة أنَّهم لا يملكون نموذجًا للحقيقةِ يتقَّيدون به. ولا عندهم فكرةً دقيقة وصحيحة عن الشر والضلال ليتجَنَّبوه. ولا يَربطون بين الخير والشر والأنسان. رأيُهم وسلوكُهم هو قياسُ كلِّ شيء، وعنى بهم يسوع القادة الدينيين والمدنيين في أيامه، ومن سيقتدي بهم مُستقبَلا. جاء يوحنا المعمدان يصومُ و يزهدُ في الدنيا إنتقدوه ورفضوه. جاء المسيح يقودُ حياةً بشرية طبيعية خاليةً من الشر لكنها تراعي كرامةَ الأنسان وضُعفَه وأُمنياتِه، إنتقدوه أيضًا ورفضوه. واليومَ ترفعُ الكنيسةُ صوتَها وتُعلنُ مبادئَ السلوك الصحيح في الحياة فترفضُ الأجهاضَ لأنه قتلُ بريءٍ، والمَثلية لأنَّها توَّحُشٌ وتدَنّ ٍ، والزنى العلني لأنَّه فسادٌ وآستهتار، ينتقدُها أولئِك ويرفضون تعليمَها ويُقَّدسون ما تُدَّنِسُه و تُنَّجِسُه الطبيعةُ والحكمةُ البشرية. تسكتُ الكنيسةُ عن الأشرار ولا تريدُ فضحهم بل تدعو ألى المحَّبة والتسامح والتوبة، في حين يسكتُ أولئكَ عن جرائم المُلحدين ويخرسون عن مظالمِ المُوالين ويتسَّترون على فضائح المُستهترين ، ويرفضون الأنصياع لنداء الكنيسة. وَثِقـوا بأنهم ” أبرارٌ وآزدروا جميع الناس” (لو18: 8″ وهكذا ” تبَّرَأت الحكمةُ من بنيها “.
أمَّا أنت فدِنْتَ .. ولم تُؤَّدِ واجبَكَ ..!
أمَّا الناسُ من الفئة الثانية فهم أولئك الذين” يعتبرون أنفسهم حكماء، يدينون الآخرين بالغباء ويُحاربون من يبدو أذكى منهم”. فيُنَّصِبُ هؤلاء أنفسَهم حُكّامًا على الآخرين يدينونهم بلا رحمة. يُرَّكزون على المظاهر، وعلى حرف الكلام، ويتّخذونها حُجَّةً ومُبَّرِرًا لإصدارِ الحكم على غيرهم. وهذا خِطابُ الفرّيسيين” المرائين والمنافقين”. أما كان فرّيسّيَا من دان العَّشارَ وجميعَ الناس بـ” الخطفة والظلمة والفاسقين” وبَرَّرَ نفسَه بالصوم والصلاة؟ (لو18: 11)؟. كذلك سمعان مُضيفُ يسوع كان فِرّيسّيًا ودان يسوع قائلا: ” لو كان هذا الرجلُ نبّيًا لعلمَ من هي …أنَّها خاطئة”، ولِمَ سمح لها أن تقتربَ منه؟. فأدان يسوع والمرأة في نفس الوقت. إعتبر يسوع جاهِلا ونبِـيًا مُزَّوَرًا، وهي خاطئةٌ ودنسة. ولم يعلم أنَّه بدينونته ليسوع وللمرأة معًا أدان نفسَه مُضاعَفًا إذ أبدى جَهلاً مُطبَقًا بحقيقة شخص يسوع أنَّه المسيح إبنُ الله، وبحالةِ المرأة وحُبَّها العظيم لله رغم سلوكها المشين، وأنَّ دافعَها الى الندامةِ هو حُبُّها فقررت التوبة من كلِّ قلبها؟. ولم تترَدَّد في فضح نفسِها بنفسِها، لأنَّها وثقت برحمة الله أنَّه يغفرُ لها جهلها وضُعفَها؟. جهلَ كلَّ ذلك.
ونسيَ سمعان أو تناسى أنَّه قصَّرَ في واجبِ الضيافة القائم على سُنَّةِ الفرّيسيين. ذكَّرَه بها يسوع :” لم تغسِلني .. لم تُقَّبلني .. لم تدهُن رأسي”. كان هذا من واجبه أن يعرفَه ويُنَّفِذَه. وكان يجب أن يعترفَ به مسيحًا لأنه يعمل أعمال الله المذكورة في الكتاب المقدس. لم يكن ممكنًا له أن يعرف ما في قلب المرأة وذهنها، ومع ذلك إدَّعى أنه يعرف فأدانها وكذب. إتَّهمها بخاطئة ودموع توبتها بَّلَلَتْ قدمي يسوع، ولم تستنكف أن تمسحها بأغلى شيءٍ لديها شعرها الذي أعطاهُ اللهُ إيَّاها مجدًا وسِترًا (1كور11: 15)، وعِطرُ محبتها وتقديرها عبَّقَ البيتَ كلَّه. لم يعترف سمعان بأنَّ فوقَ رأسِه يوجدُ أعلمُ منه وأفضل، يقرأُ له حتى افكارَه ويفضحُ سوءَ نيَّتِه. ومن جديد ” تبَّرأَت الحكمةُ من بنيها “!.
تبَرَّأت الحكمة ُ من بنيها !
أو برَّأَ الحكمةَ بنوها !. من عرَفَ أن يتصَرَّفَ كإنسان ٍفتفاَعلَ مع إرادة الله وتفاهمَ مع إخوته البشر يكون قد بيَّنَ أن هذا حكمةٌ بنَّاءة، وأنَّ الحكمةَ تقتضي مِنَّا أنْ نأخذ ونُعطي مع غيرنا ولا ننعزلَ عنهم وأن نحسُمَ الأمورَ بيننا فنراها بمنظار الله ونعتبرَ أنفُسَنا جُزءًا من المجتمع الذي هو شعبُ الله وأبناؤُه، ونُقِّرَ بأنَّ للناس حَقًّا علينا كما لنا حَّقٌ عليهم ، ولنا واجبٌ تجاههم. وللناسِ، كلِّ الناس، بغَّضِ النظرعن أحوالهم وأوضاعهم وتقاليدهم وثقافتهم ، تكفيهم إنسانيتُهم، إيجابياتٌ وسلبياتٌ تتشابك وتتلاحم لبناء الحياة. فليس من الحكمةِ أن ينعزلَ أحدٌ عن الآخرين ولا أن يرفُضَهم. من الحكمةِ أن يقبلَهم كما هم، ويمونَ عليهم كما هو. لكل واحد حُرّيتُه وخصوصيتُه. إنَّما كلُّنا معًا نُشَّكلَ الأنسانَ الواحدَ نفسَه الذي يقدرُ مثلَ الله وبقُوَّةِ كلمتِه أن يعيشَ حياة كريمة وهنيئة. وإذا لم يتصَّرف الأنسان هكذا فسيُبرهنُ على أنَّه لا يفقهُ حكمةَ التعايش السلمي والتعامل مع أقرانه البشر، وعندئذٍ لن يُحَّققَ ذاتَه حسب إرادةِ الله وتنظيمه، فتتبرَّأُ منه الحكمة الألهية، إذ لم يُصَّورها في حياته.
وإذا تعالى بعضُ الناس على غيرهم أو لم يعتبر وجودَهم، وإذا قصَّرَ في خدمةٍ مُلزمة أو تجَبَّر ولم يقدر الناسُ محاسبَتَه ومقاومته فهذا لا يعني أنَّ اللهَ يتغاضى عن إثمِه ولا يُحاسِبُه. كما إذا آفتقرَ البعضُ وأذَّلَهم غيرُهم فهذا لا يعني أنَّ اللهَ لا يحترمُهم ولا يُحِّبُهم فيُهمِلُهم. أو إذا فسَّرَ الواحدُ مواقفَ غيره وأدانهم فهذا أيضًا لا يعني أنَّه مُحِقٌّ وأن اللهَ ينبُذُه مثل البشر. بل يقول يسوع أنَّه لا يحكمُ على أحد (يو8: 15). إنَّه جاءَ ليُخَّلصَ الناسَ لا ليُهلِكَهم. ولهذا رفضَ قطعيًا دينونة البشر لبعضِهم : ” لا تدينوا لئلا تُدانوا” (متى7: 1).
الدينونة والحكم على الغير ليس إلا دليلَ فراغ ٍ وشعورٍ بالنقص، يُحاولُ صاحبُه تغطيتَه بإيجاد نواقصَ في غيره، وربما كي لا يُشيرَأحدٌ الى النقص الذي فيه هو. أما يعني” لو كان نبِيًّا ” أنَّ سمعان رفضَ ليسوع ما كان ناقصًا لديه؟. حسّ هو نفسُه في داخله بُعدَه عن الله، مع أنَّه مُعَّلمُ الشريعة، فكيفَ يمكن أن يكونَ آخرُ أفضلَ منه؟. وهذا يسوع لم يتعَّلم وليست له شهادة مثل الفرّيسي؟. حسبَ نفسَه بارًّا، عالمًا، وقادرًا أن يُمَّيزَ ما لم يقدر يسوع أن يُمَّيِزَه. لم يُعلن أفكارَه لكنَّه تصَّرف على ضوئِها، مُحتقِرًا يسوع عندما لم يُقَدِّمْ له الخدمةَ اللازمة. والخاطئة أيضًا كتمت سِرَّ توبتها في داخلها لكنَّها تصَّرفت عفَويًا على ضوئِها وقدَّمت أفعالَ التوبةِ والتقدير، مُعترفةً بلاهوتِه ومُعَّبرةً عن مشاعرِ حُبِّها لله.
وخلاصةُ القول : لم يأتِ المسيح ولا ماتَ على الصليب حتى نزدريَ وندينَ بعضَنا فنتخانق ونتفانى. ولا مَجَّدَ كرامتنا وحُرّيتَنا حتى نُهملَ بعضَنا أو ننتقدهم وندينهم. جاءَ يسوع المسيح ليُعَّلِمَنا لا لنُعَّلِمَه نحن!، ويُصلحَ سلوكَنا لا لنتباهى به أو ننتقدَه. عليه طلب أن نُصغيَ إليه و ننظر الى سلوكه ونقتديَ به. أراد أن نكون واحدًا : في الفكر، والقلب، والقول، والفعل وأن نعمل للبنيان لا للهدم، ونتعاون جماعيًا على المحَّبة لا ننفرد وننعزل على الأنانية. وألا نسمح لأنفسِنا فنسلك مثل أهل العالم الغرباء عن بعضِهم والمُتشَّبثين بالحاجات الحِسِّية فقط وبالخيرات الزمنية. لا نقبل أن نقتنع بأنفسِنا فنكتفي بحكمتنا لنقَّللَ من شأن غيرنا. بل نتبادل الأحترام والمحبة، ببساطة القلب وروحانية الفكر، بحكمةٍ وصبر، فيتصَوَّر فينا المسيح و نشُّعَه للعالم. لا نحاول أن نُخضِعَ يسوعَ وإيماننا لعقلية المنطق البشري وللأحكام الزمنية للعالم. بل لِنتعَّلم من يسوع كيف نعيشُ على الأرض أبناءًا لآلَـه السماء ولشريعتِه الأبدية.