الأحـد الأول للرسـل

عـيد العَـنصَرة ، عـيد حلول الروح القدس

تتلى علينا اليوم القراءات : أع2: 1-21     ؛   خر19: 1-9+20: 18-21 1كور12: 1-11  ؛  يو14: 15-16، 25-26+15: 26-16: 15

القـراءة : أعمال 2 : 1 – 21 :–  يحُّلُ الروحُ القدُس على التلاميذ بشكلِ ألسِنةٍ نارية ترمزُ الى المعرفة والقُوَّة الألهيتين اللتين يَمُّنُ اللهُ بها على المؤمنين به.

القـراءة البديلة : خروج 19 : 1 – 9 + 20 : 18 – 21 :– خرج شعبُ الله من مصر وبلغَ قبالةَ جبل سيناء حيثُ سيعقدُ الله معه عهدًا. يكون الشعبُ مُلكَ الله ، كهنوتيًا، يحفظُ وصاياهُ ويُصبِحُ نورًا للأمم لأجل خلاصِهم ، فيُباركُه الله و يحميه ويُنصِرُه.

الرسالة : 1 كور 12 : 1 – 11 :– يدورُ الحديثُ عن تعَّدُدِ مواهب الروح القدس للأنسان. إنَّها تتكاملُ مثل أعضاءِ الجسم بالخدمة التي تؤَّديها لبنيان الكنيسة.

الأنجيل : يوحنا 14 : 15 – 16 ، 25 – 26 +15 : 26 – 16 : 15:– وعدَ يسوعُ تلاميذَه أن يُرسلَ لهم الروحَ القدس، وبَيَّنَ دورَه في تأييدِ المؤمنين بالتذكير و الإفهامِ والإِرشاد.

الروح القُدُس !

قال الأنجيل :” متى جاءَ الروحُ القدس يُرشِدُكم الى الحَّقِ كُلِّهِ ” (يو16: 13). إنه يُشيرُ الى المستقبل. أمَّا سِفرُ أعمالُ الرسل فذكرعن هذا الروح حدَثًا واقعيًا ملموسًا لا يُمكن لا نُكرانُه ولا ردُّه وهو: كيف يعملُ الروح ومدى قوَّةِ فعلِه وتأثيرِه.

ركَّز أولاً على أنَّ ” كلَّ تلاميذ المسيح: الرسلَ، التلاميذ، النساءَ، الإخوةَ المؤمنين الأوائل، الكنيسة كلَّها، حاضرون ومجتمعون معًا، يُوَّحدُهم ايمانُهم الواحد ورجاؤُهم بنيل قوَّةٍ إلَهيةٍ من العُلى تسنُد مسيرةَ حياتِهم، ألا وهي الروحُ القدس الذي وَعدَهم به الرب يسوع، وهم يرفعون ، بقلب واحد، الصلاة والتضَرُّع لتكتملَ فيهم مشيئةُ الله (أع1: 14). وكان عددهم حوالي مائة وعشرون شخصًا، وهو العدد المطلوب شَرعًا لتشكيل الـ” مَجْمَع” : 12 مجموعة من 10 أشخاص. إنَّها أعدادٌ كاملة ترمزُ الى أنَّ هؤلاء الـ 120 يحتوون البشرية كلَّها ويُمَّثلونَها. فالبشريةُ  كُلُّها هي شعبُ المسيح، وقد فداها كُلَّها وزَوَّدَها بقوَّتِه الألهية لتُضيءَ درب الحَّق للعالم و تسيرَ في درب الخلاص.

وكانوا في العُلِّية ، يُصَّلون !

كانوا كُلُّهم معًا في مكان واحد، على جبل صِهيون، حيثُ عقد معهم يسوع عهدًا جديدًا بدمِه وكانوا يُصَّلون بقلبٍ واحد. لم يخافوا مثل الشعب الأول على جبل سيناء (تث5: 23-27). إنهم شعبُ الله الجديد في الرجاء والثقة، في المحَّبة والطاعة. إنهَّم في البيت الذي ضَّمَهم اللهُ فيه إليه وطَهَّرهم بغسل الماء وقدَّسَهم بذبيحة جسده ودمه. كلُّهم فكرٌ واحد وقلبٌ واحد ولهم نفس الروح الواحد، الأتّحاد بالله في الصلاة. هذه وحدة النواة المسيحية الأولى هي صورةٌ و صدًى وتكملةٌ لما حدث لشعبِ الله في العهد القديم على جبل سيناء لمَّا ردَّ على بنود الشريعة ” كأنه صوتٌ واحد” (خر19: 8؛ 2: 20). هكذا ” توافُقُ الجماعةِ المسيحية، يقول بولس الفغالي، يوم العَنصَرة يُقابلُ توافقَ جماعة إسرائيل عند سفح جبل سيناء” (أعمال الرسل، دراسات بيبلية6، الرابطة الكتابية 1999م،ص251). أما الفرقُ فإنَّ يوم العَنصَرة على جبل صهيون مثَّلَ البشريةَ جمعاء، من” كلِّ أُمَّةٍ تحت السماء “(أع2: 5) تشهدُ قوَّة الحقيقة الألهية والحياة النابعة من روحِه القدوس.

يواصلُ لوقا التركيز، في القراءة، على وحدةِ الجنس البشري المتمثل بالتلاميذ ومن تحَّلقوا حولهم من الآتين، من سبعة عشر بلدًا، وهم يتلقون روح الله ويتقبلون أولى مفاعيله التي تُدهشُهم وتُحَّيرُهم ولا يجدون لها تفسيرًا. إنهم من لغاتٍ عديدة مختلفة، والتلاميذ لا يتكلمون غيرَ لغتهم الآرامية المحَّلية، ويفهمُ كلُّ واحدٍ لغة الآخر وتُصبحُ كلمةُ الله الحَّق مُشترَكةً بين الطرفين. لقد عادت الإنسانية فآستعادت وحدتَها في المسيح الراعي الصالح (يو10: 16). فقد هدم الروحُ الألهي” حاجزَ العداوة الذي يفصلُ بين البشر.. وخلق في شخص المسيح .. إنسانًا واحدًا جديدًا.. وجعلهم جسدًا واحدًا ” (أف2: 14-18؛ تك2: 24؛ متى19: 5). إنَّ الوحدة التي كانت لشعب الله وعاشها الشعبُ المسيحي منذ اليوم الأول لتكوينه صارت شعارَه يدفعُهُ إلى لمِّ شمل الأمم تحت خيمة الأيمان والرجاء والمحَّبة.

وقد إتَّحدت البشرية وآنفتحَ فكرُها وقلبُها للحوار والمحَّبة والتعاون والغفران. لقد إخترقتها الألسنة النارية َوأنارت لها سبيل الحَّق. لقد إتَّحدَ الرسل بينهم في المسيح. وصارت وحدتهم نموذجًا نقلها الروح القُدُس، بواسطتهم، إلى العالم كُلِّه إذ وَحَّدَهم بالرسل فآفتهموا كلامهم، كما جعل الرسل ينطقون بلغات الشعوب ويستندون الى حضاراتهم ليبلغوهم مشيئة الله بقُوَّةِ إيمانهم ومحَّبتِهم. أصبحت كلمةُ الله الواحدة نورًا تنيرُ دربهم ألى الحق ونارًا أحرقت زؤانَ الشَّر والخميرة القديمة التي كانت فيهم ليُحرقَوا بدورهم ضلال أهل العالم ويزيلَوا فسادَهم، فـينضَّمَ ” في ذلك اليوم الى رعية المسيح ثلاثة آلاف نفس” (أع2: 41). هكذا وحَّدَ الروح البشرية في الحقيقة الواحدة وهي أن لا إلاه غير الخالق الذي يرعى الناس ويدينهم على شرورهم. فلا يوجد غيرُ إلَهٍ واحد وبِرٍّ واحد الذي كشفه يسوع المسيح. ووَحَّدَ الروحُ الناس أيضًا في المحَّبة والتآخي والتفاهم. جعلَ الروحُ المؤمنين” كلَّهم مُتَّحدين، يجعلون كلَّ شيءٍ عندهم مُشتَرَكًا بينهم .. يُسَّبحون الله وينالون رضى الناس” (أع2: 44-47).

لِنُقِمْ لنا إسمًا  !

وقد نُدركُ عمقَ هذا الحدث وأهَميَّته لنا إذا قارنَّاهُ بما حدثَ في بابل لمَّا فقدَ الإنسانُ روحَ الله. كانت ” الأرضُ كلُّها لُغَةً واحدة وكلامًا واحدًا”. إِن دلَّ” الكلامُ” على التعبيرعمَّا نُفَّكر ونريد، فـكلمة ” اللغة ” تعني أبعد من ذلك. تعني” الإحساس، التوَّجه، الرأي، السلوك ، و القرار”. مثلا ” لغة العنف أو اللطف”، “لغة القيادة او التمَّلق”… فالبابليون إفتخروا بما وصلوا اليه من حضارة وآعتقدوا أنهم لا يحتاجون بعدُ الى الله. بل وجود الله يُقَيِّدُهم. أرادوا ان يتحَرَّروا من نفوذه ويعملوا شيئًا يُبرزُعظمتهم بأنهم لا يحتاجون الى شريعته بل يقدرون أن يتحَّدوه. فيبنون لهم بُرجًا ” رأسُه في السماء”. وإذا هدَّدَهم بطوفان جديد يلتجئون إليه و يحتمون فيه من غضب الله. ولن يقوَ الله على رفع مستوى المياه أعلى من البرج لأنَّ كمية المياه الموجودة مُحَدودة. أزاحوا الله وأخرجوه من حياتهم. تسَلَّط عليهم روحُ” العالم”، روحُ الكبرياءِ والأنانية. وبدأَ العملُ بالبناء. وبدأ الخلافُ يدُّبُ بينهم. تذمروا عن عدم المساواة بينهم. تشَّكوا عن ظلم بعضهم وتسَّلط غيرهم. تبلبلت لغاتُهم. الكُّل يريدُ القيادةَ و الراحة. و الكلُّ يرفض التعب والمشَّقة. إختلفوا في الرأي، فلم يبقَ كبيرٌ وصغير. إختلفوا في المحَّبة فطلبوا المنفعة. إِشْتدَّ وطيسُ الغيرةِ والأنفَة فلم يتفاهموا. فقدوا الروحَ الألهية فقسيَ الكلامُ بينهم. فتغَيَّرت لغتُهم من الحَّق والخير العام إلى لغةِ المصلحة والشهوة والنزوات. بدأَوا يتهمون بعضَهم. الواحد يغلط على الآخر. فقدوا ايمانهم بالله ولم يبقَ من يُوَّحدُهم. آنقسموا على بعضِهم وتشَّتتوا مُبتعدين غرباءَ عن بعضهم.

كانوا شعبًا فآنقسموا وصاروا شعوبًا وأممًا غرباءَ يُعادون بعضَهم. أما اليوم في العَنصَرة فآنقلبت الآية. شعوبٌ كثيرة من بلاد متباعدة ليس ما يجمعُ بينهم غيرُ إيمان سطحّيٍ بالله. لكن الروحَ القدس الواحدَ وَحَّدهم بمعرفة عميقة عن الله كانوا يفتقدونها، وبمحَّبةٍ أضرَمَت قلوبَهم فآمنوا بيسوع المسيح الذي غيَّر حياتَهم وأنعشَ رجاءَهم بالخلاص المُنتَظر. كانوا شبه أمواتٍ فأحياهم روحُ الله. كانوا ضّالين عن الحَّق والبّر وجدوا سبيل الحياة وبلغوا بَّرَ الأمان. أصبحوا أصحابًا ” يلتقون كلَّ يوم في الهيكل بقلبٍ واحد” (أع2: 46)، أفكارهم و قلوبهم تلتقي وتتجانس فتتآخى أرواحُهم وتتضامنُ حاجاتُهم. ويتحَدَّثون مع بعضِهم بلُغَةِ الله دون أن يُعيقَهم إختلافُ كلامهم البشري. لقد عرفوا الحَّقَ فأصبحوا يتفاهمون في كلِّ شيء.

أرشدهم الروح الى كلام الله ونوَّرهم لكي يفقهوا عمق الكلام وأيَّدهم بالآيات المُدهشة لكي لا يتردَّدوا بل يشهدوا للحق في كل مكان وزمان. فلغة الله وكلامُه وآياتُه هي لكل الناس، يُنطقُ بها بالأيمان الواحد، بلغة الرسل، وتُعلن للعالم أجمع بلغاتِه العديدة والمختلفة وفقَ حضاراتِه ومواهبِه. وكلُّ لغةٍ بشرية حملت كلمة الله ولغتَه سوف يفهم الناسُ محتواها و يتفاعلون معها. لغة الله هي خلاصُ العالم. ولا شيءَ يُنقِذُنا من الضلال وآنحطاطِ القِيَم و ضبابية التعاليم العلمانية سوى الروح ِ الألهي، الروح ِ القدس، بإرشادنا الى الحَّقِ كلَّهِ. هو وحدَه يقدر أن يرأبَ إنقسام الكنيسة. هو وحده يقدر أن يوَّفق الشعوبَ بينها فيداوي جروح الأنقسامات الحزبية والتكلات السياسية المعادية لبعضها ، ولاسيما كلوم الأنقسامات القومية على بلدان ودول. الله الواحد وحده قادرٌ أن يُوَّحد، بواسطة روحه القدوس الواحد، البشرية المتشتتة ويجعلها، في المسيح (غل4: 38)، ” روحًا واحدة وقلبًا واحدًا، ورجاءًا واحدًا” بنينَ ” لآلهٍ واحدٍ أبٍ لجميع الخلق وفوقهم جميعًا، يعملُ فيهم جميعًا  وهو فيهم جميعًا ” ( أف4: 6).