للعلم : يُصَّلَى هذا الأحد عندما تحصَلُ ثمانيةُ آحاد بين عيد الدنح وسابوع الصوم. وهذا يحدُثُ كلَّما وقعَ عيدُ القيامة بعد 20 نيسان. حدث ذلك مثلاً سنة 2011 و 2019. كما سيحدثُ ذلك سهة 2030 و2038 و..و.. إلا اللَّهم إذا طرأَ تغييرٌ في قاعدة الأحتفال بعيد القيامة، وتثبيت العيد في تأريخ ثابت !
تتلى علينا اليوم القراءات : خر15: 22-27 ؛ اش44: 23- 45: 3 أف1: 15- 2: 7 ؛ مر1: 1-11
1* القـراءة : خروج 15 : 22 – 27 :– بعد عبور البحر الأحمر وصل الشعبُ إلى مَّارة، فوجدوا ماءَها مُرًّا فآنتقلوا إلى إيليم قربَ واحةِ ماءٍ حلوةٍ ونخيل.
القـراءة البديلة : إشَعْيا 44 : 23 – 45 : 3 :– يُؤَّكدُ النبي على أنَّ اللهَ هو خالِقُ الأنسان ولا ينساهُ ولا يُعاملُه بذنبِه ، بل يُسامِحُه ويُساعِدُه ليحيا بهناء.
الرسالة : أفسس 1 : 15 – 2 : 7 :– يؤَّكدُ بولس أنَّ رجاءَ المؤمنين عظيمٌ ومجدَهُ مضمونٌ بقوَّةِ المسيح، الذي هو فوقَ كلِّ سُلطةٍ وقُـوَّةٍ وإسم ٍ، وقد فدانا بنعمةٍ مجَّانيةٍ من عندِه ، نحصَلُ عليها بالأيمان.
الأنجيل : مرقس 1 : 1 – 11 :– يُعلنُ مرقس أنَّ يسوعَ الذي من الناصرة هو المسيحُ المنتظَر إبنُ اللهِ الحَّي، الذي أخبرَت عنه الأنبياءُ، وهَّـيأَ يوحنا المعمدان لمجيئِه ثمَّ عَمَّدَه.
من هو مرقس ؟
لقد أَلَّفَ مرقس إنجيلَه، وهو أولُّ من كتبَ عن” أخبارِ يسوع السَّارة ” (وهذا معنى كلمة : إِوَنْكِلِيون اليونانية) حوالي سنة 70م ، أي بعدَ إستشهادِ الرسولين بطرس وبولس سنة 67م. وكتبَه في روما، حيثُ كان يُرافقُ مُعَّلِمَه و”أباهُ” بطرس الرسول (1بط5: 13)، مُسَّجلاً بذلك لأهل روما خاصَّةً والرومانِ عامَّةً، كرازة بطرس وشهادتَه عن يسوع المسيح. وهو أحدُ الذين رافقوا المُعَّلِمَ والرسل، خِفيَةً ومن دون أن يعلمَ به بقية التلاميذ الـ 72، ودمُ الشباب يغلو في عروقِه لمُتابعة أخبار يسوع، إلى بُستان الزيتون، وهربَ عُريانًا خوفًا من الذين قبضوا على يسوع وتَعَّرَضوا له أيضًا(مر14: 51-52). وفي بيتِه إجتمعَ المؤمنون في أورشليم للصلاةِ من أجلِ بطرس المسجون لدى هيرودس. ولما أنقذه الملاكُ ذهبَ تَوًّا إلى بيتِه، رُبَّما دون أن يعلم بآجتماع الأخوة للصلاة من أجله، بل بسبب رابطٍ خاص مع أُسرة مرقس (أع12: 12). وبسبب غيرتِه الرسولية هو أوَّلُ شّابٍ مذكور رافق بولس و برنابا في رحلتهم التبشيرية الأولى (أع13: 5). ثم تفَّرَدَ حينًا لمرافقةِ إبنَ عَّمِه برنابا (كو4: 10؛ أع13: 13؛ 15: 36-40)، ثم عاد مرَّة أخرى إلى مرافقة بولس ومعاونتِه (فل24 ؛ كو4: 10) حتى طلب بولس من طيمثاوس، عند أسرِه الأخير في روما، أن يصحبَه معه عنده لحاجةٍ إليه (2طيم4: 11). إسمه الحقيقي” يوحنا ” لكنَّه لُقّبَ بـ “مرقس”، (أع12:12؛ 13: 25؛ 15: 37)، رُبَّما بسبب إسمه وجنسيتِه الرومانية مثل بولس (أع22: 25-39 ؛ 16: 37-39).
الرومان يؤمنون بالقُـوَّة !
كتبَ مرقُس إنجيلَه في روما وسيفُ الإضطهادِ مسلولٌ ومشهورٌ في وجه المؤمنين بالمسيح ومُسَّلَطٌ على رقابِهم. يفتخرُ الرومان بقوتهم وسُلطانهم الذي لا يُحاكيه، تلك الأيام، سُلطان. ويأبون أن يتمَّلصَ أحدٌ عن طوعهم، أو يبدوَ أقوى منهم. حتى يَدَّعي إمبراطورهم لنفسِه الأُلوهةَ ولا يترَّددُ الشعبُ عن تقديم شعائر العبادة له، علامةً على ولائِهم للأُمَّةِ وللسُلطان. ومع ذلك شَقَّتْ عليهم عصا الطاعة جماعةٌ فقيرة بالأموال، منبوذةٌ إجتماعيًا لأنَّها تُمارسُ طقوسًا سِرِّيةً ( حسب تُهمةِ الرومان!!) يُقالُ عنها أنَّها ” عبادةُ إلَـهٍ صُلِبَ ” لأنَّه لم يَقوَ على الدفاعِ عن نفسِه، لا هو ولا أَتباعُه ومُريدوهِ قدروا ذلك. ويرفضون عبادة الإمبراطور.
أزعَجَهم ذلك وآستنكروه. لا يجوزُ لأَحدٍ أن يشُّذَ عن القاعدة. إِمَّا يسلكون مثل عامَّةِ الشعب أو يُبادون. لاسيَّما أنَّهم يتظاهرون بعبادةِ إلَهٍ غير منظور، يَدَّعون أنَّه تجَسَّدَ وظهرَ بشبهِ بشر سكن في الناصرة لكنَّه ماتَ مصلوبًا (في2: 7-8)، رغم ما كان لديه من مقدرة على الكلام وعلى الفعل حتى إجراءِ المُعجزات (لو24: 19). وله أتباعٌ وتلاميذ يَدَّعون أنَّه قام من القبرِ حَّيًا (أع3: 15)!!. يا للسذاجة ويا للحماقة !. أَ عاقلٌ يُصَّدقُ ذلك؟ (أع17: 32). لابُدَّ أنَّها خرافةٌ و هذيانٌ بل جنون !(أع26: 23-25). لا يجوزُ السماحُ لكذا مذهب أن ينتشِرَ وإلّا يُسيءُ إلى البشرية :” كنتُ حفيظًا على العمل لله .. فآضطهدتُ ذلك المذهب حتى الموت “(أع22: 3-4). يكونُ إِلَهًا من هو قوّيٌ يُحاربُ ويُبيدُ أعداءَه لا مَن يغلبونه ويُميتونه. وأيَّةَ ميتة ؟. ميتةَ مُجرمٍ ملعونٍ مُعَّلَقٍ على صليب (غل3: 13). إمبراطور روما هو الإِلَه.ويستحِقُّ التكريمَ و العبادة لأنَّه أخضعَ العالم كلَّه لسُلطةِ روما ولا قوَّةَ تستطيعُ أن تنافِسَه وتقفَ في وجهِه !
ضُعفُ الله أقوى من قوَّةِ الناس !
ويأتي مرقس ليقولَ للرومان المُتغَطرسين أنَّهم، رغم كلِّ قوَّتهم وجبروتهم إلاّ إنَّهم ما زالوا يخافونَ الأرواحَ الشّريرة ويستعينون بالشيطان لتحقيق إنتصاراتِهم. إنَّهم بشرٌ محض
يخافون من ظِلِّهم. ويقضي الواحدُ منهم على غيرِه. أَ ما قتل بروتسُ ورفيقُه أباهم بالتبَّني يوليوس قيصر؟. إنَّهم يفتحون الفألَ لمعرفة مصيرهم، ويستعينون بالجنودِ وبالآليات و الأسلحة في حروبِهم.
أمَّا يسوع الناصري، المصلوب والقائم، فهو أكثر من بشر فقط. ولم يحتاج لا إلى جيوشٍ ولا الى أسلحة ليدحر أعداءَه، بل بكلمةٍ واحدة فقط ، لا غير، أدخلَ الرُعبَ إلى قلبِهم ” فرجعوا القهقرى وسقطوا أرضًا” (يو18: 6)، وكان بوسعِه أن يطلب فيصله بلحظة ” إثنا عشر جيشًا من الملائكة ” تبيد شُلَّةَ مُعاديه (متى26: 53). وآنتصرَ لا على البشر فقط بل وحتى على القِوى الروحية. كان كلامُه كمن لهُ سُلطانٌ لا يقوى أحدٌ لا على مجابهتِه ولا على مجادلتِه (مر1: 22-27)، ولا يتجاسرُ أحدٌ على مخالفةِ أَمرِه، بل” كانت حتى الأرواحُ النجسة يأمُرُها فتُطيعُه “(مر1: 25-27).
أَذهلَ يسوع كلَّ مُحاوريه. فآحتارتْ فيه الجماهير(مر1: 27)؛ يو10: 24)، وآحتار فيه مجلسُ الأحبار والشيوخ والكتبة (لو22: 67)، وهيرودس (لو23: 11)، وبيلاطس (يو19: 9-12؛ مر15: 5)، وخاف القادة الرومانيون من تلاميذِه (أع16: 38-39؛ 22: 29؛ 25: 20)، بل خافَ الأباطرةُ مُنافسَتَه لهم والتغَّلُبَ عليهم فحاولوا القضاء عليه ” حَسَدًا “(مر15: 10)، وعلى تلاميذِه من بعدِه لأنَّ تعليمَهم زعزعَ كراسيهم!. لكن الرومان فشلوا في القضاء على المسيح والمسيحية. وبعكس ما توَّقعوا إزدادَ المؤمنون بقدر ما آشتَّدَ الإضطهادُ عليهم، وتمسَّكوا بإيمانهم بيسوع الناصري” المسيح الرَّب” (أع2: 36)، رغم القضاءِ على قادتهم ” بطرس وبولس”. إنَّهم يؤمنون بيسوع المسيح ويموتون من أجله لأنَّهم واثقون أنَّه وحدَه قادرٌ على حمايتهم، وعلى ضمان حياةٍ أفضل من التي يوَّفرُها لهم الرومان أو الكُّهان، أو أيُّ قائد بشري. هذا هو يسوع الناصري التأريخي الذي شهدَ له وبشَّر به بطرس مع بقية الرسل والتلاميذ. يفتتحُ مرقس أخبار حياةِ هذا الأنسان “يسوع” بالقولِ أنَّهُ ” إبنُ الله”، كما سيختمُها بوفاتِه على قول قائد المائة ” كان هذا حَقًّا إبنَ الله” (مر15: 39)، ثمَّ بآنتصاره الأخير ومجدِه لأنَّه ” جلس عن يمين الله” (مر16: 19).
إبنُ الله !
ماذا عنى بها مرقس؟. هل أنَّ لا أبًا ليسوع على الأرض، أو أنَّه إبنٌ لله مثلَ آدم بدون زرع بشري بل بفعلٍ إلهي مُباشر؟. ليس مرقس بعيدًا عن ذلك. لاسيما وأنَّه إستقى أخبارَه من نفس المصدر، الذي لجَاَ إليه رفيقُه في معاونة بولس في التبشير، لوقا الذي سيقول عنه :” أنَّى يكون هذا وأنا لا أعرفُ رجلاً؟. الروحُ القدس يحُّلُ عليكِ وقدرة العلي تظَّلِلُكِ لأَنَّ المولود منكِ يُدعى قدّوسًا وآبن العلي” (لو1: 34-35). لكن مرقس يذهب إلى أبعدَ من ذلك . فكلمةُ ” إبن الله ” لقبٌ من ألقاب المسيح (متى16: 16؛ مر14: 16). والمسيح هو الأبنُ الذي وعد اللهُ بأن يُقيمَه له من نسل الأنسان ليُخرِجَه من الحفرة التي سقط فيها (تك3: 15). وهو الأبنُ الذي سيكشفُ هوّية الله (متى11: 27)، لأنَّه هو وحدَه آتٍ من السماء (يو3: 13 )، خارجًا من اللاهوت وشاهدًا للحقيقة الكونية (يو3: 2؛ 16: 27؛ 18: 37). يشهدُ بما ” رأى ويتكلَّمُ بما يعرِفه ” (يو3: 11-13) منذ الأزل (يو17: 5)، ويصنعُ ما خَوَّلهُ الآب (يو 5: 36)، لأنَّه هو والآب واحد (يو10: 30) فمن رآهُ رأى الله نفسَه (يو14: 9).
دون أنْ يتعَّمقَ مرقس في الروحيات التي قلَّما يهضُمُها الرومان ينتقلُ إلى ما يفقهونه، أي إبراز العضلات، ليقولَ لهم: إنَّ هذا يسوع، الذي نعبُدُه نحنُ، وتنبذونه أنتم فتُطاردونه، هو اللهُ نفسُه ظهر بشكل إنسان، مُتَـفَوِّقًا على كل سلطة وقوة. هذا هو الله الحَّق لذا حدثت على يده أمورٌ إعجازية خارقة. إنَّه قادرٌ على كلِّ شيء، بحيث تطيعه حتى الأرواح، والشرِّيرة منها بالذات، التي تمَرَّدت على الله وصارت سببًا لسقوطِ الأنسان الأول. ويوَّدُ أن يُؤَّكدَ على أنَّ الأنسان الذي ضعُفَ في البدءِ وخسرَ الرِهان أصبحَ الآن ، بالقدوة الألهية الحالة فيه ، قادرًا على غلبةِ ابليس نفسِه. فليس غريبًا إذا لاحظنا أنَّ أوَّلَ معجزةٍ ذكرها مرقس، بها بدأَ يسوع رسالتَه، هي ” قهر الشيطان” آمِرًا إيَّاهُ ” أُخرُسْ وَآخْرُجْ “، ودهش الحاضرون لأنَّ الأرواحة النجسة يأمُرُها فتطيعُه “(مر1: 25-27). وفي الفصلِ الأول وحدَه ذكر مرقس، ثلاث مراتٍ، أنَّ يسوع منَعَ الشياطين من أنْ تتكلم، ثم طرَدَها من الناس الذين كانوا قد إستحوذوا عليهم (مر1: 25 ، 34 ، 39). ولا فقط يذكرُ، ما ذكره متى ولوقا (متى10: 1-8؛ لو9: 1-10)، بأنَّ يسوع زَوَّدَ أيضًا تلاميذَه بهذه القُوَّة، بل يُؤَّكِدُ، هو وحدَه، بأنَّهم مارسوها بنجاح ” فطردوا كثيرًا من الشياطين” (مر6: 13). لم يكن أيُّ قائدٍ روماني أو حتى الأمبراطور قادرًا لا على تخويل قوته وشجاعته ولا على طرد الشيطان. أمَّا يسوع ولأنَّه إلَه فهو يقدر على ذلك، وقد فعلها فعلاً فنَصَّرَ أتباعَه على الشّرير. لقد إنتهى سُلطان سَيِّدِ الشَّر وآندحرتْ مملكتُه لأَّن رئيسَه قد أُدين (يو16: 11).
فيسوع هذا الأنسان ليس ذليلا كما يَعتبرُه أهل العالم المُلحِدون وقادتهم. بل في ضُعفِه الظاهري تكمنُ قُدرتُه الفائقة وحكمتُه الرفيعة (1كور1: 24). بل أظهرَ بصلبِه محَّبتَه غير المحدودة حتى غفرَ لصالبيه أنفسِهم، ما لا يقدر عليه أهل العالم. حلَّ مشكلة السلم والعدالة والعظمة ببذل حياتِه عن الناس، حتى عن أعدائِه، بالسماح والمساواة والخدمةِ التي تُعَّبرُ عن المحبة والرحمة، وليس بالترهيب والطغيان والسيف. فالمسيح هو الله وما يعصى على البشر يقدر هو عليه ” (لو18: 27). هو الكلمة الألهية دعاه الملاك ” إبن الله العلي” (لو1: 32-35). هو المُخَّلصُ الموعود الذي أقامه الله من نسل داود إبنًا لنفسِه :” أنا أكون له أبًا و هو يكونُ لي إبنًا ” (2صم7: 14). هو الذي قال عنه إِشعيا النبي :” يُعلنُ للشعوبِ إرادتي. إنَّه لا يُخاصمُ ولا يصيح .. قصبةً مرضوضة لا يكسر، وشعلةً ذابلة لا يُطفيء..”(اش42: 1-4).
إلى هذا الأبن سَلَّم اللهُ ” القضاءَ كُلَّه لأنه الله ” (يو5: 22-27)، وأقامَه” دَيَّانًا للأحياء و الأموات (أع10: 42). يتحَّداه أهلُ العالم ويرفعون السيوف. أمَّا هو فينتصرُ عليهم بالحَّق الذي يشهدُ له، وبالحُّبِ الذي يبذله ويُطالبُ به :” أَحبِبْ قريبكَ كنفسِكَ “. في المسيح يسوع إنتصرت الأنسانية كُلُّها على خطيئة الغِشِّ والدجل، والكبرياء والأنانية. لأنَّها تحَرَّرت من قيد الشّرير وقادرة أن تقاوم الشّر.
هكذا قَدَّم مرقس يسوع المسيح للرومان، ولقادةِ كلِّ زمان ومكان، المؤمنين بالعنف والقُوَّة والغِشّ والدجل، بأنَّه هو الله وبيده الخلاص فتعاليمه هي مبدأ الحياة. لا السيف ولا الكذب ولا الترهيب ولا الإغراء يحَّققان السلام والأستقرار، بل الحَّق يقوى على ذلك والمحَّبةُ ضمانُ سواء السبيل. يمكن للبشر أن يتَصَّرفوا كـ ” آلِهة ” فقط عندما يؤمنون بالله ويحُّلَ فيهم روحُه القُدوس الذي يوَّجهُهم ويفعل من خلالهم (أع14: 12).