تتلى علينا اليوم القراءات : اش5: 1-7 ؛ 2كور7: 1- 7(12) ؛ يو9: 1-10
الرسالة : 2كورنثية 7 : 1 – 12
يُتابع بولس فيُلَّطفُ الجو بينه وبين الكورنثيين ليفهموا صفاء نيته وآستقامة التعليم الذي بلَّغَهم به. يدعوهم الى الأستمرار في الترَّفعَ عن الجسد والمادّيات و متطلباتها وتقاليدها، و السُّمُو في الروحانيات كما تتطلبه شريعة المسيح، ” شريعة الضمير والقلب ” (عب8: 10). إنَّ ما ورثوه من الوثنية، من قِيم وعادات، يأتي من الشّرير، عدو الله والأنسان. إنَّها قيودٌ أكثر من أن تكون وسائل خلاص. والمسيج جاءَ ليُحَرِّرَنا منها. فلا علاقة لها بالمسيح، ويجبُ التخَّلي عنها. فالمسيح و شريعته نورٌ وبِرٌّ وحياة. آلِهةُ الوثنيين وأصنامُها وهياكلها قد صُنعها البشر لا حياة لها ولا قدرة على إنقاذ الأنسان أو إغاثتِه. أمَّا إلَهُنا فهو صانع كلِّ شيء، وقادرٌ على كلّ شيء. ولا يحُلُّ في مصنوعات الأنسان بل يحُّلُ في ما صنعَه هو بنفسِه، بالأنسان ذاتِه. فنحن هيكلُ الله الحي، و فينا يسكن (يو14: 23؛ 1كور3: 16؛ 2كور6: 16). عليه يجبُ علينا أن نُصغيَ إليه ونستجيبَ له لكي نحيا بسلامٍ وهناء.
تنقية الجسد والروح !
لكي نستوعبَ تعليم المسيح، الجديد في الساحة، يجب أوَّلًا إفراغ الذات مما سبق فآمتلأَنا به من إعتقاداتٍ ورغباتٍ وعادات. إعتبرناها حينًا أنها قِيَمٌ حقيقية فتتلمَذنا لها وسلكنا بموجبِها. لكنَّ المسيح كشَفَ عن ضُعفِها وعن تقاعسِها على تحقيقِ راحتِنا. إنَّها من نتاج محضٍ لفكر الأنسان. فـفتَح بصَرنا على القيم الصادقة القادرة حَقًّا على إراحة فكرنا وقلبنا قبل أجسادِنا. إنَّها التعليمات المرتبطة بكيفية إستعمال أجهزتنا وطاقاتنا الحيوية. فكما يُرفقُ المُهَندِسُ الأجهزةَ المادية بتعليمات الأستعمال هكذا زوَّدَ الله الأنسان بآلأرشاداتٍ الضرورية لتضمن له السلوكَ المستقيم، أي الأستعمال الصحيح لها، الذي يُحَّققُ راحته.
طلب الرسول أولاً ” التطهير من أدناسِ الجسد والروح “. الدنس هو ما يُخالفُ التعليمات و يقومُ حتمًا على سوء إستعمال طاقاتنا، وبالنتيجة إلى خسارة الله وحرماننا من خيراتِه. وإذا فرَّغنا ذواتنا مما يُعارضُ طبيعتنا ويُخالفُ مشيئة الله نقدر عندئذٍ أن نتقَدَّس في ” مخافةِ الله “. أي نمتليءَ من محَّبةِ الله وطاعتِه والألتزام بوصاياه. وهذا يتطلب من المؤمن الأيمان بالله و الإطمئنان إليه والثقة به كما مع أب. وهذا يساعدُ على تحسين العلاقة مع الناس لأنَّنا ننظر إليهم كإخوة لأنهم مثلنا أولادُ الله، ويُشاركوننا الجُهدَ في الحياة والرجاءَ في الخلاص. وعندئذٍ تستقيمُ العلاقة بين كل الناس فلا يُسيءُ أحدٌ إلى غيره. ويسودُ بالتالي السلام وراحة البال و هدوء الأعصاب. يُرَّكز عليها بولس لأنَّ الكورنثيين أظهروا توَّتر الأعصاب فتذَّمروا و تشَّكوا. وهذه مظاهر تتعَّلق بشريعة الجسد، عادة البشر في إبداء عدم راحتهم، وتبرير موقفهم ، وبهدف إتّهام المقابل أنَّه هو المُقَّصرٌ والمسيء. لم يأخذ بولس مشاعرهم هذه بعين الأعتبار، فلم يدِنهم.عليها بل نظرإلى أيمانهم وإلى متطلبات قِيَمِه. إنه يُحِّبُهم كأولادِه لأنه هو بشَّرهم بالمسيح، ولأنَّه يريدُ لهم الخلاص. ذكَّرهم فقط بأنه لم يظلم أحدًا ولا إستغَلَّ أحدًا ولا طمع بمال أحدٍ. إنَّه لم يُسيء إلى ولا واحدٍ منهم. حتى الذين إتخَّذ بحَّقهم إجراءات إدارية . لأنه فعلها حمايةً لأيمانهم وتنويرًا لجوهر الأخلاق المسيحية ، وإعانةً لهم في سلوك درب الحَق والبر. وعلى هذا لا يُساوم ولا يُجادل، لأنه يؤَّدي رسالة المسيح و يشهدُ لها، فلا يسمع من غير المسيح. ويثقُ بالكورنثيين أنهم يُقَّدرون موقفَه ويفتخرُ بهم لأنَّهم أظهروا رغبة التغيير وتبَّني سلوك المسيح. إنَّهم يُحاولون جُهدَهم أن يتفاعلوا مع تعليم يسوع المسيح، وأن يقتدوا ببولس لا أن يتبعَهم هو ويتغاضى عن أخطائِهم.
سررتُ بحَمِيَّتِكم لي !
حزن الكورنثيون حينًا عندما وبَّخهم بولس على موقفهم المُؤَّيد لحادث الزنى وأمرهم بتجَّنبِ الزاني ومقاطعتِه. لكنهم سُرعان ما إستفاقوا على غلطتهم وآستعادوا ثقتهم ببولس أنه مثالُهم في إِتّباعِ المسيح فركنوا إليه وخضعوا لإجراءاتِه، رغم بقاء بعض المعارضين المُتَمَّردين. فرح بولس بذلك. ويؤَّكدُ لهم أنه لم يندم إذ أحزنهم بل سُرَّ لنتيجة ذلك الحزن، مما أظهرَ أنَّه لا فقط كان نافعًا بل جاء في وقتِه ومحَّلِه لأنَّه قادهم إلى معرفة أعمق لروح المسيح في المحبة ومقاومة الشَّر. لقد شدَّهم حزنُهم أكثر الى الله والى رسولهم، أيٍّ كان. كادوا يخطأون خطأًا جسيما بالعودة الى السلوك الوثني، لكنَّ موقفَ بولس أنذرهم بالمصيبة التي تُهَّددُهم فتراجعوا عن موقفهم و” تابوا ” مُلَّبين دعوة المسيح الى قداسة الحَّقِ والبر. ولم يندموا على توبتهم لأنها ضمنت لهم سبيل الخلاص. حُزنهم أفاقهم على الحقيقة وقادهم الى الله. حتى قال لهم :” لقد برهنتم في كلِّ شيء {.شوقكم..إعتذاركم..نخوتكم.} على أنَّكم أبرياء من ذلك الأمر ” (آية 11).
ولم يترَدَّد بولس في التعبير عن سروره العظيم بذلك وآفتخاره بهم رغم ما لقيَه سابقًا أو يلقاهُ حاضرًا من معارضةٍ وضيق وألم من جهاتٍ أخرى فكتب :” لقد إمتلأتُ بالعزاءِ وفاضَ قلبي فرحًا في شدائدنا كلِّها ” (آية4). مُضايقات الشر وعذاباته لا تقوى على الأيمان ولا يمكن أنْ تستحوذَ على المؤمن فتشُّلَ حياته. بل تزيدُ في صلابة إيمانه وتُغَّلبُه على كل المحن، ذلك إذ يعرف أنها ليست من الله، بل من ابليس عدو الحق، وأنَّها تُعِّدُ له قدرًا عظيمًا من المجد. فهو يُدركُ أَنَّه بقدر ما يشبه المسيح في تحمل الألم والضيق بقدر ذلك، بل بشكل أفضل ، يُشاركُ المسيح مجدَه وراحتَه وهناءَه (في3: 10-11). بهذا يتعَّزى المؤمن عن جميع مظالمه ويصمدُ في رجائِه. أخيرًا لم يكتب بولس ليتشَّكى من ظالميه ولا ليُدافع عن نفسِه ويُطالبَ بحقوقِه. بل يهدفُ من كتابته الى كشف الحقيقة فيما يجري ولاسيما لإظهار أصالةِ الأيمان ودِقَّة ما يقتضيه من سيرةٍ تليقُ بأبناء الله وتُساعدُ على أداءِ رسالةِ الخلاص. تلك هي حَقًّـا مُهِّمةُ رسُلِ الله الحَّق.