تتلى علينا اليوم القراءات : اش31: 1-9 ؛ 2تس1: 1-7 ؛ لو19: 1-10
الرسالة : 2 تسالونيقي 1 : 1 – 7
لم تمُّرأشهرٌ على كتابته الرسالة الأولى حتى أُضطُّرَ بولس إلى كتابةِ رسالةٍ ثانية ليُهَّدئَ المؤمنين ويُوَّضحَ لهم ما ذكره في الرسالة الأولى وما حَوَّرتْه وشوَّهته تصريحات أناسٍ دَجَّالين مشاغبين نشروا خبرًا مفادُه أنَّ بولس يَدَّعي بأنَّ المسيح لا يتأخَرُّ في المجيء لأنَّ ” يوم الرَّب “، أي نهاية العالم قريبة، فبدأ البعضُ لا يشتغل مُكتفيًا بالأكل إنتظارًا للنهاية. و كذلك بأنَّ الله ليس عادلاً إذ يدع المؤمنين به يتألمون ويُذَّلون ويُظلمون بينما لا يُحاسبُ من يؤذيهم بل يدعهم يسرحون ويمرحون ويتوَفقون في كلِّ ما يفعلون. وهذا الأدّعاء زرع القلق والرُعبَ في نفوسِ التسالونيقيين. فكتب لهم يوَّضح لهم الحقائق ويُطَمئِنُهم. وقبل أن يدخل صُلبَ الموضوع دَبَّجَ مُقَّدمةَ مدحٍ تُرَّيحُ أعصابَهم وتُهَّيئُهم للإصغاءِ إليه.
حَقٌّ علينا أنْ نحمدَ الله !
سبقَ بولس وذكّر للتسالونيقيين بأنَّ إيمانهم بلغ مستوًى رفيعًا يوازي إيمان مسيحيي فلسطين الذين قطعوا فيه شوطًا بعيدًا، يبلغ عقدًا ونَيِّفًا من الزمن. وبالأضافة لهم كنز الكتاب المقدَّس الذي يُنيرُ دربَهم ويُغني مسيرتهم. ولكن يبدو أنَّ للوثنيين ميزةً لا تقُّل تأثيرًا عن ميزة اليهود ألا وهي أنهم غيرُ مُعَّقدين بنواهي الشريعة ونيرها. إنَّهم قماشٌ خام خياطته أسهلُ من خياطة قماش مُخاطٍ سابقًا يحتاج أولاً إلى تفليشٍ فترتيب جديد ثم يُخاطُ ثانيَةً. إنه لا يفقد بسهولة تقاطيعه الأولى ولا يتأقلم سريعًا مع الشكل الجديد. فالوثنيون لا يعرفون الله ولا معلومة لهم عن حياة الله وأفعالِه وعما يُريدُه من الأنسان. ما يعرفونه عن ” الأصنام ” لا يُشبع عطش النفس. إنهم يجهلون الإله الحق. وبولس يُبشِّرُهم بهذا الإله االذي وإن كانوا يجهلونه إلا إنَّهم يعبدونه في عمقِ كيانهم وضمائرهم (أع17: 23).
لقد آمنوا بهذا الأله الخالق القدير والأب المحب والراعي الصالح والغافر للتائبين عن ذنوبهم. لكنهم لم يعوموا على الفكر فقط. بل دخلوا الى الأعماق وفعَّلوا إيمانهم بالمحبة (غل5: 6). و على جذور المسيح نما إيمانهم فتعاظم، وآرتوت محبتهم من نبعِه فأزهرت وآزدادت بين كلهم بالتبادل حاكوا بها الجماعة المسيحية الأولى في أورشليم (أع4: 22). وهذان الأيمان والمحبة سانداهم في شدائدهم ومحنة الأضطهاد الذي لاقوه من أعداء المسيح. حتى صار الرسول يفتخر بهم في كنائس الله، لاسيما المنتشرة في اليونان. عرفوا أنَّ الأيمان ترافقه الشَّدائد و ضيق الأضطهاد (2طيم3: 12). أدركوا أنَّ آلام المؤمن جزءٌ مُكَّمل لآلام المسيح نفسِه (كو1 : 24). إن التأَلُّمَ من أجل الحق نعمة أُعطي للمؤمن مع الأيمان (في1: 29). لقد أكد الرب أن العالم وأـباعه يرفضون الحق والعدل ويريدون منافسة الله، وكما رفضوا المسيح وآضطهدوه هكذا سيفعلون بتلاميذه (يو15: 20). لقد نقل بولس إيمانه لمن بشَّرهم. وهو يؤَّكدُ أنَّ الألم من أجل الحق طريق الى المجد (رم8: 18). ويتمنى أن يشترك في آلام المسيح ويقول: ” عرفته وعرفتُ قوَّة قيامتِه .. فتمَثَّلتُ به في موته لعَّلي أبلغ القيامة ..” (في3: 10-11). و يُنهي فقرته الأولى قائلاً:” في إضطهادكم وثباتكم دليلٌ على قضاء الله العادل أن تكونوا أهلا لملكوته الذي في سبيله تتألَّمون ” (آية 5). وكأنه يقول ،:” آلامكم الزمنية، مَنَّ بها الله عليكم وبها يضمن مجدكم وراحتَكم الأبدية. فـهنيئًا لكم !. هذا ما سيقوله بطرس لرعاياه :” إفرحوا بقدر ما تشاركون المسيحَ آلامَهُ حتى إذا تجَّلى مجدُه كنتم في فرحٍ وآبتهاج” (1بط4: 13).
ومن العدل مُجازاة أعدائكم بالضيق !
لا ينسى الله أحدًا ولا يظلمُ أبدًا. يسمح أن ينال كلُّ واحدٍ مُشتهى قلبه ورضاه (مز21: 2) و يختار طريقه. ولكن لا شيء يدوم للأبد، و” لايحيا إنسان دون أن يموت ” (مز89: 48). و عند النهاية يخضع للحساب، و” يجازى على قدر أعماله ” (متى16: 27). هكذا نال اللصان جزاءَهما العادل (لو23: 41). ومثلهما سينال المثليون جزاءَهم العادل لضلالهم (رم1: 27). ومسيرة الحياة الزمنية هي التي تُحَّددُ المصير النهائي. والطوبى لمن يتألم الآن ليتنَّعمَ مدى الأبد. هكذا قال مثل لعازر المسكين والغني : ” تذَكَّر أنَّك نلت خيراتِك في حياتِك ونال لعازر بلاياه. أمَّا اليوم فقد نال التعزية وأنت نلتَ العذاب ” (لو16: 25).
قلق أهل تسالونيقي عند سماعهم أنَّ الله غير عادل. فطمأنهم بولس أنَّ الله نبع العدالة. فإذا سمح للمؤمن أن يتألم فلكي يشترك في كامل حياة الله المخَّلص. إلا إنه لا يرضى ولا يُؤَّيدُ مُضطهدي الحق. إنهم يهدمون عمل الله. و عليه يُحاسبُهم بشِّدة. فأكَّدَ لهم أنَّه ” من العدل عند الله أن يُجازيَ بالضيق أولئك الذين يُضايقونكم … في لُهبِ نارٍ وينتقمَ من الذين لا يعرفون الله … سيُعاقبون بالهلاك الأبدي مُبعَدين من وجه الرب ومن مجدِ قوَّتِه ” (آيات 6-9). لا يفلتُ الشَّريرُ من عقابِه. لكن الله لا يستعجلُ في إنزالِه. إولاً لأنه لا يريد اللهُ هلاكَ حتى ولا الخاطئين بل أن يتوبوا ويحيوا أمامه في النعيم الأبدي (حز18: 23؛ 2بط3: 9). و ثانيًا يتعامل الله مع كلِّ واحد بموجب حياته ولأجل منفعته الخاصّة، لا من أجل حقوق الآخرين المظلومين. لأنَّ المظلومين ينالون جزاءَهم إكليلَ المجد ولا ينفعُهم عقابُ ظالميهم. ولأنَّ اللهَ لا ينتقمُ من الظالمين مثل البشر للتشَّفي منهم و لسحقِ كبريائِهم والأبتهاج بآلامهم. لا يفرح الله بهلاك الناس. لكنه يرفضُهم في مجده ونعيمه لأنهم هم رفضوا بحريتهم مجد الله وخيراتِه. عبدوا شهواتهم وتبعوا عدو الله، لذا يتركهم لمصيرهم الأسود الذي إختاروه لأنفسهم.
يصبو الناسُ دومًا إلى معاينة عقابٍ سريع ليتشَّفوا من أعدائهم الذين ظلموهم، :” حتَّما يا أيُّها القدوس الحق تُرجيءُ الأقتصاصَ والأنتقامَ لدمائنا من أهل الدنيا “؟. لكن الله طويلُ الأناة، و بجانب إعطاءِ فرصةِ التوبة، له توقيتُه الخاص لإِحقاق الحق، وقد لا يعرف أصحابُ الحَّق ذلك إلا في نهاية العالم. هكذا ردَّ الرَّبُّ على صرخة العدالة للشهداء المضطهَدين من أجل المسيح :” أُمروا بأن يصبروا قليلاً إلى أن يتمَّ عددُ أصحابِهم وإخوتهم الذين سيُقتلون مثلهم” (رؤ6: 10-11). بهذا يدعو الرسولُ أن يتعَّزى المتأَّلمون من أجل إيمانهم. رسالة الرسول أن يُعَّرفَ بالمسيح ويدُّلَ على طريقةِ إتّباعِه. بينما على المؤمنين بالمسيح أن يشُّعوا عنه في حياتهم صورة القداسة، في الحَّق والبر، التي عكسها في سلوكه ودعا إليها كلَّ البشر ليتأهلوا للمجد والراحة في نعيم خالد. ورسالةُ من آمن بالمسيح أنْ يبُّثَ تلك االصورة فيُمَجِّدَ الناسُ يسوعَ المسيح، ويُمَّجدوا أيضًا تلاميذَه، و يكون هذا لهم نورًا يقود خطاهم إلى الأيمان به. فتكون نهاية مطاف الحياة، بعد شدائدها وآلامها، أن يجتمع في مجد الله المسيحُ ومن آمنوا به ، فيتمجَّدَ المسيح ويشتركُ المخَّلصون في مجده (يو17: 22).