تتلى علينا اليوم القراءات : أع1: 15-26؛ اش6: 1-13
القـراءة : أعمال 1 : 15 – 26 :– إختيارُ متّيا بديلا عن يهوذا ليكون رسولا ويشهدَ معهم، لأنَّه تابع معهم يسوع من عماده والى قيامته فصعودِه.
القـراءة البديلة : اشعيا 6 : 1 – 13 :– رأى إشَعيا اللهَ في رؤيا والملائكةُ تمَّجِدُه و تُنشدُ قدّوس. يُطَّهِرُ الملاكُ النبِّيَ فيُرسِلُه اللهُ إلى الشعبِ ليُوقِظَه على آثامِهِ.
الرسالة : فيلبي 1 : 27 – 2 : 11 :– يدعو بولس إلى الجهادِ من أجل الأيمان بقبولِ التأَّلُم لأجل المسيح، وتبَّني أخلاقِه، والحفاظِ على وحدةِ المؤمنين.
الأنجيل : مرقس 16 : 9 – 20 :– يتحَدَّث عن ترائي يسوع للتلاميذ بعد قيامتِه، وعن وصيَّةِ الرب بتبشير العالم، و صعودِه ومتابعةِ الرسل رسالة يسوع الخلاصية.
إذهبوا الى العالم كُلِّه !
ما زلنا في جوِّ القيامة بالتركيز على الصعود وأبعاده، وهو الفاصل بين القيامة التي سبقته وحلول الروح القدس الذي سيلحقُه، قبل أن تنتقلَ الأحداثُ إلى مرحلةٍ جديدة مصيرية، هي أزمنة الكنيسة. والكنيسة هي زمن عمل الله ” الخفي” بواسطة تلاميذ يشهدون علنًا للمسيح ويُلَّبون مطلبَه. تنتهي الأناجيل الأربعة بختم باب “التدبير الخلاصي” وفتح نافذةٍ تُطِّلُ على الكنيسة التي تتابعُ رسالة يسوع وتمَّدِدُ الخلاصَ الى كلِّ إنسان، من كلِّ بلد، ومن كلِّ زمان. هذا كان الأنجيل، البُشرى السّارة بخلاص الأنسان، ويُنهيه الأنجيليون بترك نافذةٍ مفتوحة على الغد، الذي سيَرويه لنا لوقا بالتفصيل في سفر أعمال الرسل عن إنطلاقة الكنيسة، و تثبيتِ أقدامِها، وإشعاعِها في كل الأمصار. وهذه الكنيسة سيبنيها طابوقةً فوقَ طابوقة بدءًا بآختيار متيا بديلا عن يهوذا، والإنطلاقة بحلول الروح القدس، فالتبشير الجِدّي والعمل الحثيث لتجسيد الأيمان ونشره في العالم. سيُوَّثِقُها بتسجيلَ شهاداتِهم بالإعلان، والتعليم ، و التدبير، والآلام، والجهاد حتى الأستشهاد.
يسوع أقامه اللهُ ونحن كُلُّنا شهودٌ !
وفي عودتنا الى إنجيل مرقس نلاحظُ ما يلي :
1+ تثبيتُ حدثِ القيامة.
أكَّد ولو بآختصار على ظهور يسوع للمجدلية، ولتلميذي عمّاوس وللرسل الأحد عشر، أي : لآمرأةٍ لها مع يسوع معرفة وصداقة؛ ولآثنين ممن تابعوه عن كثب دون أن تكون لهم مسؤولية في جماعة الرسل، وللرسل الذين رافقوه ليلا ونهارًا و آستلموا من بعده قيادة الكنيسة ومتابعة المهمة. قد لا ننتبه إلى ذلك أو لا نهتَّمُ كثيرًا بما أراد مرقس أن يُنَّورَنا به. فهو لا يُحَرِّرُ تقريرًا صُحُفيًا، بل يَدُّلنا على شهود القيامة. وأمرُ الشهادةِ مُهِّمٌ جدًّا. وقد جرى عنها جدالٌ عنيفٌ بين يسوع واليهود الذين كانوا دومًا يُطالبونه بإبراز الشهود على سلوكه: ” من يشهدُ لك “؟ بأيِّ سلطان تفعلُ هذا “؟. وإن كان يسوع لا يعتمدُ على شهادة البشر بل على شهادة الله، لأنه هو الحَّقُ الألهي بذاته، إلاّ إنَّه لا يُحرمُهم منها لأشباع فضوليتهم و لأنَّهم” لا يعرفون الله” (يو8: 55)، وتنفعهم لخلاصِهم (يو5: 31-34). يرفض اليهود الأعترافَ بيسوع مسيحًا ويتَّهمونه بمخالفة الشريعة. أما يسوع فيُعطيهم، من الشريعة، أدلَّةً على لاهوتِه وصِدقٍ تعليمِه وآستقامةِ سلوكِه. وفي ” شريعتكم أن شهادة شاهدين صحيحة ” (يو8: 17). يسوع يشهد لنفسِه ويشهد له الآب الذي أرسله :” هذا هو إبني الحبيب..” (متى 3: 17؛ 17: 5). لكن اليهود لا يعترفون بشهادته لنفسه ولا يهتمون بكلام الله. سيبرز لهم شهادة يوحنا المعمدان (يو1: 15، 26 ؛ 3: 31؛ 5: 33)، وشهادة أعماله التي هي من الله (يو5: 36)، وشهادة الكتُبِ المقدَّسة (يو5: 39). ويضيف إليها مرقس شهادة الذين عاينوه وصاحبوه ” سمعوه ورأوه ولمسوه” (1يو1: 1؛ يو20: 31). الذين عاشروه ثلاث سنوات بلياليها ورافقوه في حلِّه و تِرحالِه، مرافقةَ الظِّلِ للجسم. و بالإضافة الى شهادته الخاصّة كتلميذٍ حضرَ حتى القبضَ عليه (مر14: 51-52). وبتثبيت القيامة ينوي مرقس أن يُقيمَ عليه البناءَ التالي.
2+ يسوعُ يُكَّلفُ الرسلَ متابعةَ عملِهِ.
ولأجلِ تأديتِه يُخَّوِلُهم سُلطانه الألهي. فالعمل عملُه. وما الرسلُ إلاّ شهودٌ يُعلنون ذلك لا بالكلام فقط بل بممارسته، ويدعون الناس إلى الأقتداءِ بهم :” من كان عطشانًا فليأتِ و يشرب ” (7: 37). يجوبون العالم للبشارة لا ببادرةٍ منهم، بل بتنفيذِ طلب من يسوع :” إذهبوا الى العالم كُلِّه وأعلنوا البشارة للناس أجمعين”. لا تضيفُ الكنيسة شيئًا ولا تختلقُ غيرَه من عندها بل تشهد بما رأته وسمعته من الرسل (2بط 1: 16-18). ولا مناص لها من تأدية الشهادة والرسالة إلى نهاية العالم. وللنجاح في ذلك زوَّدها الرب بقوته الشخصية الألهية؛ :” لقد نلتُ كلَّ سُلطان في السماءِ والأرض، فآذهبوا .. وتلمذوا .. وعلموا..” (متى 28: 17-19)، و” آشفوا المرضى وأقيموا الموتى وطَّهروا البُرصَ وآطرُدوا الشياطين ” (متى10: 8). بكلمة: إِفعلوا ما فعلتُ!.لا يقوى البشرعلى ذلك بقوتهم الخاصَّة (يو 15: 5)، بل بقدرة الله يقوون (في4: 13) حتى على أعظم منها (يو14: 12). وتؤَّدي الكنيسةُ عملَ الله بآسمِه وبقدرته و بقوة كلمته لتشهدَ لقيامتِه :” فيسوع هذا أقامه الله ونحن كلُّنا شهودٌ على ذلك” (أع2: 32؛ 3: 15؛ 4: 33؛ 5: 32). بدأ الرسل بأداء الشهادةِ هذه وكان” الرَّبُ يُعينهم ويُؤَّيدُ كلامهم بما يُساندُه من الآيات” (مر16: 20).
يتوَّقف دور الكنيسة عند الشهادةِ والتعليم والتدبير. أما المحاسبة والدينونة فتعودُ مباشرةً إلى الله. هذا لا يعني أنَّها توافقُ على أخطاء الناس ولا أن تُؤَّيدَها. بل من حقِّها و واجبها أن تسهرَ على نقاوة الأيمان وآستقامة الأخلاق. فلن تغفرَ(يو20: 23) مثلا لمن يُجَّدف على الروح القدس رافضًا الحَّقَ الألهي (متى12: 10). الله وحده يفحصُ الكِلى والقلوبَ، ووحده يُحاسب ويُجازي. كان يهوذا رسولا وخان فخسر، وكان لصُّ اليمين سارقًا وقاطعَ طريق لكنه آمنَ وتابَ فخَلُصَ. ورفضَ بطرسُ طلبَ سمعان الساحر وفِضَّتَه ولكن دون أن يحكم عليه بالهلاك (أع8: 20-22). وبولس يسيرُ على نفس المبدأ :” سَلِّموا هذا الرجلَ ـ الزاني ـ إلى الشيطان ليهلكَ جسدُه فتخلُصَ روحُه في يوم الرب” (1كور5: 5).
هذا للمؤمنين الأشرار. أما الأبرارُ المستقيمون في نياتهم والجادّون في شهادتهم فيسند الله عملهم ويُكافيءُ سخاءَهم (متى25: 34). وعلى الكنيسة أن تنحَى المَنْحَى عينَه. وهذا بولس يؤَّكدُ ما أعلنه مرقس ويُطَّبقُه. فيُخْبرُنا بأنَّ البعضَ يُبَّشرُ عن حسدٍ ومنافسة، وغيرَهم عن نيَّةٍ صالحة. وما هَمَّ بولس هو أنْ يُبَشَّرَ بالمسيح، كان عن إخلاصٍ أوعن حسد فيدع الحُكمَ لله (في1: 18)
3+ باشرت الكنيسة مُهِمَّتَها.
إختصرَ مرقس عملية الروح القدس، كما سيفعلُ مثله يوحنا و متى، فأعلن أنَّ الكنيسة بدأت تؤَّدي رسالتَها بعد القيامة والصعود حالاً، قبل حلول الروح القدس بينما سيذكر لوقا ذلك بعد حلول الروح العلني مُحتفظًا بالتسلسل التأريخي للأحداث، خاصَّةً وهو وحده ينقل عمل الكنيسة، بعد ” تدقيقٍ وتنسيق” (لو1: 1-4) من البداية والى وفاة الرعيل الأول من الرسل من ضمنهم بطرس وبولس. لا يُقَّدِمُ الأنجيلي تقريرًا صُحفيًا ولا يهدفُ أن يَرويَ أخبارًا. بل يُقَّدِمُ شَخصًا هو المسيح، ويكتب عن أقواله وأعماله موجزًا يكفي القاريء اللبيب ليتعَرَّفَ على هوية المسيح الحقيقية ويكتشفَ زبدة تعليمه الذي يقود الأنسان نحو حياة أنسانية حَـقَّة تدور لا فقط في الزمن بل تتعَدّاه الى الأبدية.
فعندما يكتب مرقس مثلاً، حوالي سنة سبعين ميلادية، لقد قطعت المسيحيةُ شوطًا كبيرًا و آنتشرت جِدّا. فهو يُعاينُ نتائج تأثيرالمسيح في المجتمع الأنساني إلى درجة أن الكنيسة حَّـيةٌ ومُزدهرة، وبلغت في نشاطها ما أدَّى الى حسدها من قِبَل أهل العالم، ونصب العِداء لها و محاولة القضاء عليها بإبادة أعضائِها. فقد بدأ إضطهادها على يد الأمبراطور نيرون منذ سنة 65-66م. ويعزو مرقس نجاح الكنيسة الى صِدقِ إيمان الرسل وجهدهم في نشره، و إلى عمل الله بتأييدهم وعَضدِهم بالمُعجزات. يسوعُ فعلاً قديرٌ وجديرٌ بالأعتراف بلاهوته. إنَّه فعلا ” الله المُتجَّسد”، الله الأبن ، كما قدَّمَه عنوانًا لبشارته. لقد حقَّقَ المسيح هدفه. ومثله ستُحَّقق الكنيسة رسالتها بالأيمان بالله والأتكال عليه في خلق جو المحبة والأخاء والوئام و الأحترام بين البشر عوض الكُره والعِداء.
ربَّما يكون ايمان رسل اليوم بوعود الله قد إرتخى قليلاً وأصابه الهرمُ وعجزُ الشيخوخة. قد لا يشعرون بحضور الرب معهم، عاملاً يدًا بيد. تلك مُشكلة البشر الذين يطلبون كلَّ شيء عن طريق الحواس. أما الله فهو روح لكنه أمينٌ لوعودِه. وما عملُ القدّيسين والشهداء إلا وفاءًا جُزئيًا لعمل الرب، بقدر إتّكال رسل اليوم عليه والثقةِ به والإستجابةِ لإرشاداتِه. ربَّما يهتَّمُ رسلُ اليوم وينشغلون بسفسطاتِ المًعَّلمين وبمنطقِهم البشري فيريدون أن يُخضِعوا له حتى عملَ الله. ربَّما نسوا أنَّ واجبَهم ليس في إدانةِ العالم بل في إنقاذِه بشَّدِه الى المسيح. و يشهدون للمسيح بالفعلِ قبلَ القول. والشهادة هي في إعلان الأنجيل وتطبيق تعاليمه وليس في مطابقة الأنجيل لآراء الناس. كلام الأنجيل هوكلام يسوع الأله الذي يعرف داءَ البشر و دواءَهم ولا يخدع أحدًا. ويسوع لا يريد من الناس ولا من رسل اليوم أن يخدموه ويُمَّجدوه بقدر ما يعرض عليهم علمه وعونه، لأنَّه يُحِّبُهم ويريد الراحة والهناء للجميع. ينتظر منهم أن يُمارسوا إيمانهم فعلاً حتى” يُنيرواَ للناس ويروا أعمالهم الصالحة ويُمَّجدوا الله ” (متى5 : 16)، فتكون شهادتهم صادقةً مُجزية.