تتلى علينا اليوم القراءات : اش5: 8-11؛ تث4: 10-24 1كور15: 58-16: 4؛ لو13: 22-30
القـراءة : إشَعيا 5 : 8 – 11 :– قَلَّبَ اليهودُ مقاييس الحَّق والعدل. إقتنعوا بأنفسِهم فآعتبروا ذواتِهم حكماءَ وأقوياءَ دون الله. يدعوهم إلى الإعتراف بحكمته و قوَّتِه، ويُنذرهم ، إن لم يتوبوا، بعاقبةٍ سَيِّئة.
القـراءة البديلة : تثنية 4 : 10 – 24 :– لم يرَ أحدٌ اللهَ لأنَّه روح، لا شِبهٌ له ولا صنَمٌ يُمَثِّلُه. يحُّقُ السجودُ لله وحدَه لا للخلائق، يجبُ حِفظُ وصاياهُ.
الرسالة : 1 كورنثية 15 : 58 – 16 : 4 :– يُشَجِّعُ بولس الكورنثيين على الثبات في الأيمان والخير. يُرشِدُهم في جمع التبَرُّعات، وفي إحترام معاونيه.
الأنجـيل : لوقا 13 : 22 – 30 :– مَن يخلُصْ؟. ليس الخلاصُ بالإنتماءِ إلى شعبٍ مُعَّيَن، ولا بالرغبةِ فقط، بل بالأعمال التي يتطلبُها الأيمان وتنبعُ منه.
الصــدقــــات !
حدثت مجاعةٌ في فلسطين. وشمَّرت الكنيسة عن ساعدها لإغاثة المُعوَزين. ودعت إلى لَمِّ التبرُّعات المحَلية ومدَّت يدها إلى المؤمنين من كل الكنائس الفتّية. لما أيَّدَ بطرس صِحَّةَ تعليم بولس، وفي بدء رحلات بولس التبشيرية، لم يُكَّلفه بشيء سوى بأن” يتذكروا الفقراء” (غل2: 10). وربما كان يعقوب ابن زبدى قد جلب معونات للفقراء الى أورشليم عندما سجنه هيرودس وقتله (اع12: 2). وجمَّعَ بولس أيضًا الصدقات من كلِّ الكنائس اليونانية ليُرسلها أو يأخذها بنفسه الى أورشليم (1كور16: 2-4).
1. الصدقة في التعليم.
لقد وضع الرب يسوع الصدقةَ على مستوى الصلاة والصوم (متى6: 1-18).فالصدقةُ والصلاة والصومُ أركانٌ للحياة المسيحية، وقِوامٌ للسلوك التي تدعو إليه. الصلاة تنبعُ من الأيمان، والصوم من الرجاء بالحياةِ الأبدية، والصدقةُ من المحَّبة والرحمة. و” الأيمان و الرجاء هي الثلاثة الباقية. وأعظمُهن المحبة “(1كور13: 13). لأنَّ الله الذي، هو الوجود والحياة، هو محَّبة (1يو4: 8 و16). فكلُّ أعمال الأنسان، حتى إيمانه، إن لم تقترن بالمحَّبة فهي باطلة (1كور13: 1-3). والمحبة تتجه نحو الله والأنسان معًا. نعم محبَّةُ الله تقترنُ و تشترطُ محَّبة الأنسان (1يو4: 20).لأنَّ المحبةَ إمَّا توجَدُ أو لا توجد. وإِن وُجدَت فهي تمتَّدُ نحو الكل، ولا بديل لها يوازيها أو يقوم مقامها. وليس لها سوى وجهٍ واحد. وحيثُ آنوجدَ ما هو ضِدُّها ونقيضُها، كالكُرهِ والحقد، فهي مفقودة. إنَّها مثل النور: إمَّا يوجدُ فينير، أو لا يوجدُ فهو ظلام. والمحَّبة ليست بالقول واللسان، بل بالفعل والأعمال. ليست مَدحًا وثناءًا بل هي خدمةٌ وعطـاء. والصدقة إحدى أهَّم ثمار المحبة.
لا يُمكن للأنسان أن يُحب ويرى مُعوَّزًا ويُهمله، ويدَّعي رغم ذلك أنَّه يُحّبُ المسيح. لأنَّ من يرفضُ أداءَ الصدقة للمحتاج يكون كالذي يرفضُ مساعدة المسيح نفسِه (متى 25: 41-45). لقد درج المؤمنون من بدايةِ المسيحية بالإنتباه إلى حاجةِ الآخرين وبالإهتمام بقضائِها
بقدر إمكانية كلِّ واحد: ” كان المؤمنون جميعًا مؤتلفين، يجعلون كلَّ ما لديهم مُشتَرَكًا بينهم. يبيعون أكلاكَهم وذخائِرَهم ويتقاسمون الثمن على قدر إحتياج كلٍّ منهم” (أع2: 44-45). و يضيفُ لوقا قوله الآخر الرائع: ” وكان جماعةُ المؤمنين قلبًا واحدًا ونفسًا واحدة، ليس فيهم من يَدَّعي مُلكَ ما يخُّصُه. بل كان كلُّ شيءٍ لهم مشترَكًا .. ولهم جميعًا حُظوةٌ كبيرة عند الشعب. ذلك بأنَّهم لم يكن فيهم محتاجٌ. بل كان كلُّ من يملكُ الحقول أو البيوت يبيعُها ويأتي بثمن المبيع فيُلقيه عند أقدام الرسل. فيُعطى كلٌّ منهم على قدر إحتياجِه” (أع4: 32-35).
2. بولس والصدقة.
هذا عندما كان المؤمنون قليلين ومتجَّمعين في منطقة واحدة، أورشليم وفلسطين. لكن المسيحية إنتشرت وضَمَّت غير اليهود. فظهرت الحاجةُ إلى تشكيل فئةٍ خاصَّة تشرفُ على عملية توزيع الأرزاق (أع6: 1-7). هذا ما يخُّصُ الكنيسة المحلية. ثم تعَدَّت فلسطين و آنتشرت بين الشعوبِ والبلدان حتى البعيدة. وقد وَصَّى” أساطين الكنيسة”، كما ذكرنا، أن يتذكر بولس وبرنابا الفقراء أينما يُبَّشرون. وهكذا دخل جمع الصدقات فأصبح جُزءًا مهِّمًا من رسالة الكنيسة. أينما تواجدت المسيحية فهي بجانب عبادتها لله في الحَّق تحملُ في قلبها كلَّ المؤمنين، ولاسيما المحتاجين منهم، فتهتم أن تسَّهلَ الحياةَ للناس وتوَّفرلهم ما آستطاعت الراحة الزمنية حتى يقدروا أن يُحِّسوا بمحبة الله من خلال مساعدتهم إخوةً لهم. وحتى تُذَّكرهم بهذا الواجب وضعت في كل كنيسة ” صندوقَ الفقراء”.
ومن خلال ما نقرأه في رسائل بولس نرى إهتمامه بجمع الصدقات لتوَّزع على المحتاجين. كتب للرومان :” كونوا للقديسين في حاجاتِهم مُسعِفين، وإلى ضيافةِ الغرباء مبادرين” (رم 12: 13). ويجمع بولس من كنائس غلاطية في تركيا ومن كنائس اليونان لمساعدة مؤمني فلسطين |(رم15: 25-28). لا أحد يعترضُ. بالعكس يبدو أنَّ البادرةَ أتت من المؤمنين أنفسِهم إذ دفعتهم غيرتُهم، من خلال الروح القدس العامل فيهم، إلى الإعتناء بالمحتاجين أينما كانوا:” سألونا بدافعٍ من أنفسِهم، مُلِحّين أن نمُّنَ عليهم، بالإشتراك في إسعافِ القدّيسين ” (2كور8: 2). ويفتخرُ بولسُ بذلك :” أنا أعلمُ رغبتَكم وأفخرُ بها عند أهل مقدونية وأقولُ لهم أنَّ أخائيةَ مستعِدَّةٌ منذ العام الماضي. وحَمِيَّتُكم قد حَثَّتْ أكثرَ الناس”(2كور9: 2).
3. لاهوتُ الصــدقة.
1- تقاسمُ الخـيرات ! لا يكتفي بولس بالمُبَّرر الأيمان، ما نُسَّميه العقائدي، أي المحَّبة.
بل وأضافَ إليه إجتهاداتٍ لاهوتية تجعلُ الصدقة لافقط عنصُرًا فِدائيًا :” إذا جاعَ عدُوُّكَ فأطعِمْه. وإذا عطِشَ فآسقِهِ. لأنَّك بهذا تركمُ جمرًا على رأسِه ، والرَّب يُحسِنُ جزاءَكَ”
(أم25: 22؛ رم12: 20)، بل وشَريانًا دمويًا يُضفي الحرارةَ والإنتعاشَ على الحياة لدى المؤمن، إذ يشعرُ أنَّ لهُ حَقًّا ، وأنَّه ينالُه :” ليُشاطرْ من يتلَقَّى كلامَ الله معَلِّمَه جميعَ خيراتِه “( غل6: 6). وهذا الحَّقُ مُتبادَلٌ بين الخيرات الروحية والمادّية، نوع شبه مُقايضة، :” قد زرعنا فيكم الخيراتِ الروحية، فهل يبدو أن نحصُدَ من خيراتكم المادّية “؟ (1كور9: 11). إن كان هذا بين الرسولِ والمُهتدين، هناكٌ حَقٌّ أيضًا بين المؤمنين المُصَدّرين والوثنيين المُهتدين :” أجل قد حسنَ لديهم ذلك وهو حَقٌّ عليهم. لأنَّ الوثنيين شاركوهم في خيراتهم الروحية فكان من الحَّقِ عليهم أن يُسعفوهم في خيراتهم البشرية “(رم15: 27).
2- الفُقرُ والغِنَـى ! إنَّ المحَّبة والغيرة دفعت كنائس مقدونية إلى التبَرّع لمحتاجي
فلسطين بسخاءٍ فائق رغم فقر أبنائِها ” المُدقِع والضيق أو الشِدّةِ التي أُمْتُحِنوا بها “(2كور8 : 2). لم يعتبروا حالهم بل نظروا أولا الى ضيق غيرِهم والمنكوبين أكثر منهم، فحاولوا أن يتقاسموا خيراتِهم على قدر حاجة كلِّ واحد. فالصدقة لا تأتي من فيض المال بل من عمق الشعور بالأُخوَّةِ والمحَّبة. وهذا فخرٌ ومصدرُ فرحٍ للمتبرعين وللمُنتفعين. لأنَّ التصَدُّقَ بهذا الوجه ” على قدر طاقتهم، بل وفوق طاقتهم”، ليس سوى برهانٍ صادق على” صِدقِ المحَّبة “، وعلى أنَّهم لأم يفعلوا إلا ما فعله يسوع نفسُه ، الذي” إِفتقَرَ لأجلكم وهو الغني، لتغتنوا بفقرِه” (2كور8: 9). نعم يسوع خالقُ الكون ومالكه وسَيِّدُه لم يملك في ناسوته، ومن حُطام الدنيا، حتى ولا وسادةً ” يضعُ عليها رأسَهُ ” (متى10: 20).
3- إِتّـكلوا على الله ! من يُعطي بسخاء لا يتّكلُ على نفسِه، وعلى مالِه، بل على الله
الذي أعطاه هذا المُقتنى. فهو مُلك الله :” لله الأرضُ وما فيها ” (مز24: 1). وهذا الله لن يدعَه يجوع ويحتاج. وإذا جاع يرسلُ له من يُعينُه ويُنقذه بحيثُ يكون له ” كلَّ حين في كلِّ شيء ما يكفي مؤونتهم كلَّها، ويفضُلُ عنهم لكل عمل صالح ” (2كور9: 8). المُتصَّدق يُعطي من مُلك الله. ومُلكُ الله لا ينفذ ولا ينتقص. لذا فالعطاءُ من كلِّ القلب ” لا آسِفًا ، ولا مُكرَهًا. واللهُ يُحِّبُ من يُعطي مُتهَّلِلاً “(2كور9: 7).هذه الثقة بالله هي حجر الإستناد عليه في التصَّدُق، وليس ما يملكُه المُتصَدِّقِ. لن تأتي الصدقةُ عن حُبِّ الظهور، ولا بهذف زرع خيرٍ ليحصدَ عنه ربحًا وفيرًا. بل هو الأيمان الناطق بأفعال المحبة. إنَّه تجاوبٌ لدعوة المسيح أن نقتديَ به ” أَعطيتُكم قدوة..” (يو13: 15)، وتفعيلٌ للتخَّلُقِ بأخلاقِه (في2: 5).
4- المُســاواة في المصـير ! الصدقةُ عملٌ صالحٌ يرضى عنه الله وترتاحُ اليه الناس.
لأنَّه تَتِمُّ بها بين البشر” الأُخُوَّة والمساواة”. فالإخوة يتقاسمون ميراث والدهم بالتساوي. و كلُّ الناس إخوة وأولادُ أبٍ واحد، الله. فيتشاركون في خيرات أبيهم. ليست المساواة في أن يشعرَ الواحدُ بالآخر كما بنفسِه، ويعمل له كما لنفسِه. وفي الدهر، كما يقول المثل:” يومٌ لنا ويومٌ علينا “. فلمَّا يكون الدهرُ معنا نساندُ من يخونهم الدهر. وعندما يكون الدهرُ علينا نمُدُّ يدنا لمن معه الدهر، لا مصلحَةً أو قرضًا بل محَّبةً وسخاءًا، كما يقول الرسول: ” لا أعني أن تكونوا في عُسْرٍ حتى يكون غيرُكم في يُسْرٍ. بل أعني أن تكون بينكم مساواةٌ. فإذا سَدَّتْ اليومَ سِعَتُكم ما بهم من عَوَز، سَدَّتْ سِعَتُهم عوزَكم غدًا. وهكذا تحصلُ المساواة ” (2 كور 9: 13-14 ). فلا تقاسُ الصدقة بكثرتها أو قلَّتها بل بالدافع إليها من إيمان مثل فلس الأرملة ( مر12: 42-43) ومن محبة مثل كأس التلميذ (مر9: 41).
5- ا لخــيرُ للخــير ! وليس باطلاً القولُ ” إعْمل الخيرِ وأَلْقِه في الشَّط”، أي لمجهول.
فالخيرُ يراهُ الله يستفيدُ منه الأنسان. ولا يهُّمُ أيُّ إنسان. أيًّا كان سوف يدعو لك بسبب ما أسعَفتَه به. ويرضى عنك الله، يباركُكَ على إستقامةِ نيَّتِك وحرارةِ إيمانك وشِدَّةِ محَبَّـتِك و يُجازيكَ عليها. هكذا تصَرَّف الله مع الأنسان لمَّا رآه ذليلا فقيرا فانجده قبل أن يطلب منه و دون أن يعتذر منه. فقال الوحيُ: ” لا تمنع الخيرَعن أهلِه… ولا تقُل لأحدٍ : إذهب وعُد غدًا أُعطيك، والشيءُ عندك ” (أم3: 27-28). هكذا فعل المسيحيون الأولون إِذ باعوا أملاكهم لإسعاف من لا يعرفونهم أصلاً. أرسل الممنون من مناطق نائيةٍ ليشتركوا في مقاسمة تحَّمل مسؤوليات الكنيسة تجاه حاجاتها وبهدف إغاثة المعوزين. ولا يزال المؤمنون اليوم، وفي أنحاءِ العالم، يتصَدَّقون، ويرصدون الأموال والحاجات المنزلية لمن سيُصابون بنكبةٍ ما.
4. و أخيرًا
نتذكرُ قول الرب: ” إذا أحسنتَ إلى أحد فلا تُطَّبِل ولا تزَّمر .. كي يمدحك الناس. أمَّا أنتَ .. فلا تعلمُ شمالك بما تصنعُ يمينك .. ليكن إحسانُكَ في الخفية ” (متى6: 2-4). حتى يقبلَ الله تقدمتنا لا يريد أن يعرفَ بها غيرُه. يريدُ أن ننطلقَ من حُبِّه الحال فينا لأننا صورتُه. لا تكن صدقتنا، تبَرُّعنا، حسب روح العالم للتباهي والدعاية. ليست الصدقة واجبًا دنيويًا من فكرها و روحها. العالم يعلم الأنانية والإحتكار والعزلة. الصدقة من طبيعة الله ومشيئتِه. إنها توجيهٌ إلهي لتقوية أواصر الأُخُوَّة والمحبة والتعاون بين البشر، لتبقى البشريةُ كلُّها عائلة واحدة مترابطة ومتضامنة. إنها ثمرةُ المحبة وإشعاعُها. إنها قناة المشارة مقاسمة الحياة نفسِها. إنها مبادرة شخصية من الروح الإلهية التي فينا ، ومن العقيدة الأيمانية.
تقولُ ترتيلة طقسية ” دْقلتا ” للأحد الثاني لأيليا :” إذا قرعَ الفقير لاتقُلْ له ” الله يُعطيك”. إنه يطلب أن يأخذ لا أن يتعَلّمَ أنَّ الله يُقيت* مُدَّ يمينك نحو المحتاج بقلب صافٍ ، وسيِّدُك يُجازي الواحد بثلاثين وستّين ومائة * ” (مر4: 20).