الأحد السادس للرسل

تتلى علينا اليوم القراءات :اش2: 1-9؛ تث4: 1-10 1كور10: 14- 32؛ لو13: 1-17 }

القـراءة : إشَعيا 2 : 1 – 9 :– يشيرُ النبي إلى زمن المسيح الذي يرُّدُ الأُممَ إلى الأيمان. تبدأُ البشارةُ من القُدس، يستتِبُّ السلام ، ويُـنـبَـذُ الخَـونة.

القـراءة البديلة : تثنية 4 : 1 – 10 :– يدعو موسى الشعبَ إلى سماع كلامِ الله و حِفظِهِ ، لأنَّ في ذلك حياتَهم.

الرسالة : 1كور 10 : 14 – 32 :– يدعو الرسول الى إِعتبار كلِّ شيء بجوهَرِهِ لا ِبمظهَرِهِ ، وبنتائِجهِ لا بمبدَئِيَتِه ، مع نبذِ الأنانيةِ وحُبِّ الذات. 

الأنجيل : لوقا 13 : 1 – 17 :– ليست الكوارثُ دومًا والأوبِئَة والأمراضُ عِقابًا من الله ، بل هي جرسُ إنذارٍ يدعو الى التوبة والإِهتداءِ الى الحَّقِ والبِّر.  

لا تدينــوا  !

إعتاد الناسُ على دينونة الآخر وتأويل وتفسير سلوكه، وأغلب الأحيان تفسيرًا سلبيًا. قلَّ ما يُفكرون أن يدينوا أنفسَهم، بل حتّى أن يفحصوا ذواتهم ليروا هل يسيرون هم في درب الحَّق؟. ويرى غيرُهم بسهولة عقابًا إلَهيًا عند حدوث وباء أو مرض أو سوءٍ أو وقوع شَّرٍ بليغ. و يُضيفُ البعضُ ويحكمُ على ضحايا تلك الشدائد بأنَّهم خطأةٌ ينالون عقابهم. حتى الرسل سألوا ايضًا يسوع عن من الذي أخطأ الأعمى أم أبواه فأصابه المرض (يو9: 2). وعند ظهور وباء كورونا في الصين إرتفعت أصوات تُعلن أنَّه عقاب لهم من الله على كفرهم و إلحادِهم. ولمَّا أُصيبَ أنفُسُهم به طلبوا النجدة من الصين!!. ويحدُثُ أنَّ كثيرين  ممن تمَّرضوا أو تأذَّوا تذَّمروا فآعترضوا على الله وعلى الناس مُدَّعين أنَّهم دون غيرهم مظلومون. لا يرون في مصائب البشر أنَّها نتيجة حتمية لتفاعل سلوك البشر وتضاربهم مع بعضهم أو مع الطبيعة. ولا يفقهون هشاشة الأمور الزمنية الماديّة التي إذا تعارضت مع بعضِها تُنتج كوارثَ وبلايا. على أيّة حال يُقيمون أَقَّلَ حساب لعنايةِ الله ويكادون ينسون محَّبة الله العظيمة ورحمته الواسعة. بعكس ذلك يُشَّوهون صورته إذ يرسمون عنه شكل ظالمٍ يُحابي الناس، وسَيِّدٍ قاسٍ يحصُدُ من حيثُ لم يزرعْ.

هكذا كان الناس أيضًا في زمن يسوع المسيح. وقد نوَّه الأنجيلُ الى ذلك مرّاتٍ عديدة. منها صاحب الوزنة الواحدة الذي قال عن الله :” عرفتُكَ رجلاً قاسيًا تحصُدُ من حيثُ لم تزرعْ. وتجمعُ من حيث لم تبذُرْ” (متى24: 25 ؛ لو19: 21). وأيضًا المثالان اللذان نقرأُهما في قداس اليوم عن وجوب التوبة وعن إصلاح الحال كما في التينة العقيمة (لوقا 13: 1-9). ليست قيمة الأنسان بالدينونة أو بإصدار الأحكام العشوائية عليه. قيمته في ما يُنجزه بنفسِه ثمرةً لسلوكه المخلص والمستقيم. مستقيم ومخلص بقدر ما يتقَّيد بإرشادات الخالق ويوفي

واجباتِه تجاه الله و القريب. أناسٌ كثيرون يرتقون مناصب عالية، وغيرهم يتمتَّع بخيراتٍ خيالية، ولكنَّهم، كما تقول إحدى الصلوات الطقسية ،” لا يستحَّقون أن تُشرقَ عليهم الشمس حتى ولا يومًا واحدًا” .هناك أبرياءُ وفقراءُ وبؤَساءُ يرزحون تحت وزرِ الأمراض والضيق والتهميش والتجريح ويئنون تحت شدَّةِ الألم والإهانة والظلم ومع ذلك يرفضون أن يؤذوا أحَدًا أو يرتكبوا شَّرًا ما حتى ولو لآستعادةِ حقوقِهم. يحكمُ المجتمعُ البشري اليوم على الأوائل بالتأييد والتبجيل ، وعلى الأخيرين بالإستصغار والتحقير والنبذ والإهمال. لكن إيمانهم لا يتزعزع لأنهم يعرفون من يتبعون. يتبعون الذي علمَّ البساطة والنقاء والسلم ولاسيما المحبة للجميع دون إستثناء حتى الأعداء، والمحبة الى حَّد الغفران والمسامحة. و الذي وعد حياة المجد والسعادة للأبد عنده في السماء.

دعوا الزؤان والحنطة ينموان معا !

أنذرنا الرب من مغَّبةِ التعامل مع الناس ومع أحداث الحياة بحسب مظاهرها. دعانا الى التغلغل الى العمق وفحص كلِّ شيء بمنظار الله الحَّق. هناك أمورٌ مُحَّيرة للأنسان. الشَّرُ والخير متواجدان {الحنطة والزؤان}. القوة والضعف يتفاعلان {الكهرباء سالبٌ وموجب}.  الصغير الضعيف ينفع الكبير المتسَّلط { الفأرة والأسد}. الماء يُطفيءُ النار ويوَّلدُ الكهرباء.   وغيرها. والأنسان مطلوبٌ منه أن يكون خّيِّرًا مثل خالقِه لكنه مُعَّرَضٌ ايضًا للوقوع في الشر. والأنسان مطلوبٌ منه أن يستعمل” البارود” للأعمال البَنَّاءة، لكنه يستعملها أيضًا للقتل والدمار. والأنسان يخضع لنظام العقل والحرية ليستعملها لبناء الحياة وتجميل الكون حتى يفتخر به الخالق على أنه أفضل وكيل.

العقل يحتاج الى التنوير بمشيئة الله، والحرّية الى التهذيب والتقويم لتسلك سبيل الخير. وهذا متعَّلقٌ بقبول الأنسان فكرَ الله والإجتهاد المتواصل لعدم الأنجراف وراء ما هو أسهل، وما ألَّذ، وما يفعله كلُّ الناس. أكثر من نصف البشرية لا تعرفُ اللهَ بعد على حقيقته. وعلى من آمن بالمسيح أن يشهدَ لتعليمه ويتقَّيدَ بسلوكه، فيكون نورًا للعالم. فإن كان ما جاء في المثالين الأولين يقينا من شَّر الحكم على المظاهر، ومن سهولةِ التهَّرب من واقع الحياة، فمثال التينةِ يدعونا الى أن نعيَ دعوَتَنا الأنسانية والمسيحية والتخَّلق بآداب بناء الحياة ـ الأخلاق الألهية ،في2: 5؛ يو 13: 15؛ 1بط2: 21 ـ أي بتقليد المسيح وإعطاء الثمر بعمل الخير فنكون مِلحًا نعطي الحياة طعمًا ولَذَّةً إلهية فيرتاح الناس ويهنأون. ولا ننسى أنَّ كلَّ مؤمن غصنٌ في كرمة المسيح. وحياتنا منه. وبدونه لا نستطيع شيئًا. ومن لا يُثمر يُقطع ويلقى في النار، مثل التينة (يو15: 1-6؛ لو13: 7)، ليحترق ولا يُشَّوهَ الحياة.     

ليس الله إنسانًا ليخطأ فيندم ! (عدد 23: 19)

عندما يخطأ الناس يكذبون ليتستروا على سمعتهم، وعندما يتوهمون بالقرار فيغلطون يندمون ويُغَّيرون رأيًا كان أو فعلاً أو تصَّرفًا. ويحاولون دومًا تبرير موقفهم. لكنهم قلَّما يخرجون عن هذه الدّوامة وكثيرًا ما يُصلحون أخطاءَهم بآرتكاب أخطاءَ جديدة. أمَّا الله فلا يتوَّهم ولا يخطأ ولا يخجل من عملِه لأنَّه ” حسنٌ” ولا يندم ولا يكذب حتى يُبَّررَ موقفَه. هو بعيدٌ عن كلِّ خطأ. ويدين الشَّر مهما كان ومِن قِبل مَن كان. يريدُ الله الخيرلأولاده فلا ينسى حَّق أحدٍ ولا شَّره. لأنه يعتني بالجميع ولا يُهملُ أحدًا إلا الذين يرفضون الله ويقاومونه مثل ابليس وأعوانه. يريد الناس أن يتحكموا بنتيجة أفعالِهم. فيهملون الفطنة والصبر. يريدون عدالةً آنية حرفية وسريعة فيتورطون ويظلمون. أمَّا الله فعدالته لا تظهر حالا رَدًّا عنيفًا للشر. بل يهتَّمُ بفضح الشر وإيقافِه من جذرِه لا فقط من فروعِه. الله أبٌ يحبُّ جميع أبنائِه حتى العاقين وهو رحومٌ تجاههم. ولا يريد هلاكهم بل يريدُ أن يتوبوا ويحيوا أمامه. لذا فهو يُمهِلُ الأشرار فرصة التوبة لكنَّه لا يُهملُ حَّقَ من ظلموا. الله واثقٌ من نفسِه. الله  صاحبُ الحَّق وموجِدُ الحياة فهو يهُّمُه أن تسير الحياة بسلام وأمان، ولكنه لا يُسَّلم مصير الحياة بيد الأنسان، فمنعَه من إتلافها ” لا تقتل” كما منع الظلم ” لا تسرق” كما منع الفساد ” لا تزنِ”.  وعلَّم مقابلها تحَّدي كلِّ شر بعمل الخير الذي دومًا يبني : أحبُّوا أعداءَكم، سامحوا ظالميكم ، أحسنوا الى المسيئين اليكم، إِغفِروا ليُغفَرَ لكم. الله يُغَّلبُ محبَّتَه ورحمتَه على عدالتِه. علَّمَ ونبَّهَ وحَذَّرَ وعرض عونه قائلا :” إقرعوا يُفتَحُ لكم، إسألوا تجدوا، أُطلبوا بإيمان تجدوا”.

أنتم لا تعرفوني ، ولا تعرفوا أبي !

إنَّ معرفة الأنسان ناقصة، كذلك تكون أحكامُه وأفعالُه. ولن تكتمل معرفة الأنسان إلا عندما يعرفُ اللهَ خالقَه ويفهَمُ حكمتَه. ولن يتمَّ هذا إلا في الحياة الأبدية. قال مار بولس :” اليومَ أعرفُ معرفةً ناقصة. وأمَّا يومذاك { في لقاء الله الأبدي} فسأَعْرِفُ مثلما أنا معروفٌ” (1 كور13: 12). ومأساة الشعبِ اليهودي أنَّهم لم يعرفُوا لا المسيح ولا اللهَ أصلا (يو8: 19؛ 16: 3)، ولا حفظوا وصاياه بل سَنُّوا لأنفسِهم شريعة إنسانية دستورًا لحياتهم (متى15: 3 و9؛ مر7: 7؛ يو7: 19).

ومن جهته يستمِرُّ نظامُ الحياة : تواجد الخير والشر، الجوهر والمظهر، فيما الكون يتجِّهُ نحو إكتماله. وخلال مسيرته تبقى أحداثُ الحياة المؤلمة والكوارث والأوبئة وقساوة البشر وضُعفُهم وتُؤَّدي دورَ جرسِ الأنذار تشتَّدُ من حين لآخر لتقول لنا : لا تثقوا كثيرًا بأنفسكم. أنتم لستم كاملين. الكمالُ لله وحدَه. أمَّا أنتم فآجروا في طريق الكمال (متى 5: 48) وتعَّلموا من إبنه يسوع المسيح. لا تتبعوا مشورة أهل العالم. أنتم لستم من روح العالم بل من روح الله. وتحَّذروا من ابليس لأنه كَّذابٌ ومَّكار وقاتل. مَّلِكوا المحَّبة في حياتِكم. ليس فيكم واحدٌ أفضلَ من غيره بل : ” تواضعوا وفَضِّلوا الآخرين على أنفسِكم، ناظرين لا الى منفعتكم بل إلى منفعة غيركم. كونوا على فكر المسيح” (في2: 3-5). و ” طوبى لكم إذا عملتم بهذا ” (يو13: 17). نعم طوبى لمن يعي نفسَه، ورسالتَه، ويتقَّيدُ بما فعله الرب وعَلَّمَه، فتكون أحكامُه تتماشى وتتطابق مع” ملءِ قامةِ المسيح”. لنكن دومًا مستعّدين و واثقين به. لننظر إلى المسيح مُرسَلِ الله فهو وحده نموذجنا ودليلُ حياتِنا.