تتلى علينا اليوم القراءات : خر40: 1-16؛ 1مل8: 10-29 عب8-1-6 ؛ متى12: 1-21
القـراءة : خروج 40 : 1 -16 :– إكتملت خيمةُ الله ولوازمُها ويتلقى موسى تعليماتِ تكريسها وتكريس الكهنة القائمين على خدمتها.
القـراءة البديلة : 1 ملوك 8 : 10 -29 :– أَنجزَ سُليمان بناءَ الهيكل ويُدَّشنُه فيُباركُ اللهَ على إختيارِه شعبًا يُقيمُ بينهم وإنسانًا يقودُ الشعبَ بآسمِه.
الرسالة : عبرانيين 8 : 1 -6 :– يدورُ الحديثُ عن الكهنوت وعن الهياكل الحجرية التي هي رمزُ الحقيقة المتجَّلية في المسيح.
الأنجيل : متى 12 : 1 – 21 :– يقلعُ الرسلُ، يوم السبت، سنابلَ ويأكلون. يلومهم الفِرّيسيون. يُدافعُ يسوع عنهم: ليسَ عملُهم مُخالفةً، والسبتُ في خدمةِ الأنسان لا سيِّدُه. ويسوع هو ربُّ السبت فيتحكمُ هو بالتالي بالسبت أيضًا.
كيفية حضور الله !
دار الحديث عن ” خيمةٍ ” يحضرُ فيها الله وعن كهنوتٍ لخدمة الخيمة ليكون اللهُ مع شعبِه و يقودهم في حياتِهم، بواسطة الكهنة، كما يقودُ الأبُ أُسرتَه. كانت الخيمة ” متنَّقِلةً ” لأنَّ الشعب ما يزالُ يعيشُ حياة البداوة. ولمَّا تحَضَّرَ فآستقرَّ وأصبحَ أُمَّةً ذات كيانٍ وسيادة تطوَّرَت الخيمة فأصبحت” هيكلاً “، بناءًا ثابتًا مثل حياة الشعب. واللهُ أيضًا يُكَّيفُ حضورَه وإسداءَعونِه حسبَ متطلباتِ الحالة الجديدة الخاصَّة. ولمَّا جاءَ المسيح كشفَ حقيقة رموز الهيكل والكهنوت وأسَّسَ نظامًا ثابتًا أبديًا لا يتقلَّبُ مع تقَّلبات الأنسان. كان النظام الأول لموسى يتماشى مع حالة الأنسان وظرفِه فتطَّور مع تقَّدم الأنسان في سلم الفكر والروح فكان النظام البديل لداود، نفَّذه سليمان إبنُه . ولمَّا آكتملَ بلوغُ الأنسان في عقله وروحه وصار قادرًا على أن يرتفع الى مستوى حياة الله جاءَ المسيح وحقَّقَ خُطَّة الله في أن يحُّلَ الله في الأنسان نفسِه فيكون هيكلَه وكاهنَه.
الهيكلُ مسكنُ الله !
لمَّا إستقَّرَ المُلكُ لداود نوى أن يبني لله ” مَسكِنًا “، مكانًا يبيتُ فيه الله، يكون لائقًا بمقامه الألهي الجليل. وكان هذا كلامُه لناثان النبي: ” أنا مُقيمٌ في بيتٍ من أرزٍ، وتابوتُ العهدِ (رمزُ حضور الله) مُقيمٌ في خيمةٍ “؟ (2صم7: 2). لكنَّ خُطَّة الله كانت غبرَ ما نواهُ داود، وأفهمَه أن سليمان هو سيبني الهيكل المزعوم عندما يسودُ السلامُ المملكة ويستقِرُّ الشعبَ ويرتاح من الحرب. و رُبَّما أهَّمُ ما في كلام الله هو :” أَ أنتَ تبني بيتًا لسُكنايَ؟. ما سكنتُ بيتًا .. بل في خيمةٍ مُنتقِلا مع الشعب .. ولم أسأل أحدًا لماذا لا تُقيمُ لي بيتًا من أرز؟. أنا سأُقيمُ لك بيتًا ، ذرّية .. وأنا أُثَّبتُ عرشَ مُلكِه للأبد ” (2صم5: 7-13). مُشيرًا بذلك إلى أنَّ اللهَ لا تسعُه البيوتُ الأرضية، وأنَّ حضورَه هو مع الناس وفيهم. وقد إفتهمها جَيِّدًا سليمان، باني الهيكل، فقال: ” هل تسكُنُ يا الله حَقًّا على الأرض؟. حتى السماوات وسماوات السماوات لا تتَّسِعُ لكَ!. فكيف هذا الهيكل الذي بنيتُه لك”؟. إنَّه بالحري المكان الذي فيه يأتي الناسُ ليلتقوا مع الله بآلإصغاءِ إليه والصلاة. لذا يتابعُ الملكُ صلاته :” لتكن عيناك مفتوحتين ..على هذا الهيكل، الموضع الذي يكون فيه إسمُك .. وإذا صَلَّى أحدٌ إليك وتضَرَّعَ باسطًا يديه نحو هذا الهيكل فآسمع من السماء، ” من مقامكَ ، آغفِرْ .. وإذا صلَّى غريبٌ في هذا الهيكل فآسمَع من السماء، من مقامِك.. وإذا خطئوا إليكَ .. و تابوا.. وصلّوا إليكَ جهةَ الهيكل الذي بنيتُه لآسمكَ فآسمع من السماء، من مكان سُكناكَ، صلاتَهم (1مل8: 27-49).
وقد حسمَ يسوع موضوع سُكنى الله مُؤَّكِدًا على :” إذا أحَّبني أحدٌ حفظَ كلامي فأحَّبَه أبي، و نجيءُ إليه، فنجعلُ لنا عنده مَقامًا “(يو14: 23). لم يقُل ” نسكنُ في الهيكل أو الكنيسة “، بل أكَّدَ ” ها أنا مقيمٌ معكم طوال الأيّام إلى إنقضاءِ الدهر” (متى28: 20).
يسوع هيكلُ سُكنى اللاهوت !
وإذا كان الكهنوتُ القديم ورموزُه وقرابينُه ومواضعُه كلُّها ” صورةً وظِلاًّ ” لِما سيتّمُ على يد يسوع المسيح، فذلك لأنَّ حضور الله نفسَه بين البشر سيتغَّيرُ شكلُه وطريقتُه. مع المسيح لم يحُّل اللهُ في بناءٍ من صُنع أيدي البشر، بل في ما صنعه الله بنفسه، فـ” صارالكلامُ الألهي (واللهُ كان الكلمة) إنسانًا وعاشَ بيننا، فرأينا مجدَه، مجدًا يفيضُ بالنعمةِ والحَّق” (يو1: 14). اللهُ نفسُه صارَ إنسانًا ؛”.. الذي من أجلنا ومن أجل خلاصِنا، نزل من السماء، وتجَسَّدَ بقُوَّةِ الروح القدس” (قانون الأيمان). هذا ما سيُؤَّكدُ عليه يسوع نفسُه أنَّه هو الهيكلُ الذي حلَّ فيه اللاهوت: ” إهدموا هذا الهيكل وأنا أبنيه في ثلاثة أيَّام.. وكان يسوع يعني بالهيكلِ جسَدَه “(يو2: 19). نعم شاءَ الله أن يسكن في صورته (الأنسان/الناسوت) فيحُّلَ في المسيح يسوع اللاهوتُ كلُّهُ، تمامَ اللأُلوهية حلولا جسديًا ” (كو1: 19؛ 2: 9). فلا يتردَّدُ لوقا في القول: ” إنَّ ملكوتَ الله في داخلكم” (لو 17: 21). لقد أصبحَ اللهُ ، ” في الأنسان”، في هيكله الظاهري، في قلبَه وفكرَه.
المؤمنُ هيكلُ سُكنى الله !
ألأنسانُ وحدَه ” صورةُ الله”. وهو وحدَه مدعوٌّ إلى التنَّعم مع الله في مشاركةِ حياتِه، مجدًا و نعيمًا وراحةً. لقد تنازلَ الله عن مجدهِ وآتّخذَ صورة العبد/ الأنسان وقاسمَه حياته : شَقاءَه وتعبَه (في2: 6-7)، ليتعَرَّفَ الأنسان على حبِّه وقدرته ويتعَّلقَ به حتى يرفَعَه الى مقامه الألهي ويتبَّناه إبنًا له (يو1: 12؛ غل4: 6-7؛ رم8: 14-17). قال الله :” أنتَ إبني وأنا اليوم ولدتُك” ، في المسيح (عب1: 5؛ مز2: 7). هذه مشيئة الله من الأزل فأوحى في المزمور:” أنا قلتُ أنَّكم آلِهة، وبنو العلِيِّ كلُّكم” (مز81: 6). هذا هو العهدُ الجديد الذي أقامه الله مع البشرية على يد إبنه يسوع (عب8: 8-12)، بدمه (1كور11: 25). إنَّه فعلاً أمرٌ جديدٌ لم تحلمْ به الأجيال السابقة. إنَّه تعليمٌ جديدٌ ألقاه يسوع ” بسُلطان” (مر1: 27؛ متى7: 29). لقد زالت الصورة والظِّل (عب 8: 5؛ 9: 9، 24). قال الرسول: ” قد زال كلُّ شيءٍ قديم، وها هوذا كلُّ شيءٍ جديد” (2كور5: 17). ما أوحاه الرب ليوئيل النبي قد تحَّقَقَ في يسوع المسيح (يو3: 1-5).
أنتم في المسيح خليقةٌ جديدة ! 2كور5: 17؛ غل6: 15
والجديدُ في الأنسان أنَّه لن يبقَ بعدُ “عبدًا” للجسد، أسيرًا للحواس والشهوات، بل حرَّره المسيح إذ جعله نورًا وقوَّة، صورةً أصيلة لله، فصار حبيبًا (يو15: 15). لن يبقَ بعدُ عُرضَةً لأهواء الجسد الغريزية ولا فريسة سهلةً لأبليس. لقد إستعاد كرامته بآنفتاحه على الفكر والروح. وزوَّدهُ الله بطاقةٍ إضافية تحُّلُ فيه. سيفيضُ في المؤمن بالمسيح روحَه القدّوس الخلاّق وقوَّته الألهية التي بها يقوى على كلِّ شيء ( في4: 13). هذا الروح يناله المؤمن في سرِّ التثبيت المُعطى مع سر العماد. والروح القدس يعمل في الداخل عملَ الله. كما كان اللاهوت يعمل في جسد المسيح هكذا تُصبحُ أجسادُ المؤمنين هياكل للروح القدس (1كور6: 19). و” لأنَّ روحَ الله حالٌّ فيكم ، فأنتم هيكلُ الله ” (1كور3: 16). ولهذا أقَّرَ بولس: ” نحن المسيحيين، هيكلُ الله الحَّي” (2 كور 6: 16). ويُعَّددُ مواهبَه الكثيرة والمختلفة التي يُغدقها على المؤمنين (1كور12: 4-11؛ رم 12 : 6-9) لتُسَّهل حياتهم ويُنصِرَهم على ابليس وعلى الغريزة، المُحَّرضين على الشر، و يجعلهم يسلكون كأبناء لله في الحَّق والمحَّبة. فإِنَّ روح الله الذي يُقيمُ فيهم ويوَّجهُ سلوكهم هو ” روح الحَّق الذي يقيمُ معكم، وهو فيكم” (يو14: 17). وهو ليس عونًا محدودًا أو عابرًا أو إغاثةً تسُّدُ حاجة محَّددة. بل هو رفيقٌ ملازمٌ له ” يبقى معه الى الأبد” (يو14: 16).
والهياكل الحجرية ؟
هكذا يتشَّبه المؤمنُ بالمسيح “أخيه البكر” ونموذج إبن الله وهيكله (رم8: 29) في الناسوت، و ضمانه في التأَّلُهِ والتمَّتُع بالخيرات الألهية (يو1: 12-14)، فيُصبحُ هو مسكنًا لحضور الله بحيثُ لا يحتاجُ الله الى بيتٍ حجري يتواجدُ فيه. كان كلام يسوع ” عنده نجعل مقامنا” واضِحًا و صريحًا أنَّ المؤمن – المُحِّبَ لله والحافظ وصاياه – هو يُصبحُ ” مسكن الله “، وأنَّ من ” يأكلُ جسدَه ويشرب دمَه” هوالذي يحصلُ على مشاركة حياة الله ومقاسمةِ خيراته الأبدية (يو6: 54).
أما الهياكلُ الحجرية ـ الكنائسُ ـ فتبقى، كما قالَ سُليمان الملك، المكان الذي فيه تجتمعُ الجماعة المؤمنة ، عائلة الله الواحدة، فترفعُ فيه تسابيحَها وتماجيدَها وتراتيلَها وتضَرُعاتِها وآسترحاماتِها . إنها المكانُ المُقَّدسُ والمُكَّرَس للقاء الجماعي معًا لأبناء الله مع أبيهم السماوي. فيه يتعَّبدون لله روحيًا وليس للترفيه الجسدي. فيه يتلَّقون توجيهات السلطة الأيمانية وإرشاداتها الروحية حسبما تتلقاها من الله بوحي من الروح القدس لتقودهم في دروب الخلاص. فالمؤمن الذي أصبح هيكلَ الله هو الكنيسة الحقيقية الروحية لآلتقاء الله. فكلُّ مؤمن بار كنيسةٌ لله. ولهذا قامت أولى الكنائس في بيوت المؤمنين (أع2: 46؛ 12: 12؛ 20: 8-12؛ رم 16: 5)، يُعلن الله له ذاتَه فينقلها بدوره لغيره.
فالخيمة التي نصبها موسى ليستلم فيها من الله تعليماته تطوَّرت فأصبحت هيكلاً، ثم ” كنيسة ” حجرية أو روحية فردية. لا ينتظرُ الله المؤمن في الكنيسة ليوحي اليه إرادته، بل يكشف له نواياه من خلال تواصل المؤمن في حبه له وحفظه وصاياه. يريد منه أن يستكن الى كنيسته الباطنية فيغلق باب ذاته (متى6: 6) ويُصغي إليه سادًّا على نفسِه شبابيك العالم وكواه الخارجية ليتفَرَّغ الى الحديث معه، فيوحي اليه ما يشاء ويتقَّبلُ عبادته وصلاته ويستجيبُ طلباته. ثم يذهبَ الى الكنيسة الحجرية المكان المقدَّس ليلتقي إخوته في العبادة الجماعية أونيل الأسرار التي من خلالها يعيش المؤمنون ” وحدتهم ” في الأيمان ويتعاونون في معرفة الحق والبر كله. بذلك يتضامنون في تلَّقي حقائق العهد الجديد في المسيح وإيصالِها الى العالم أجمع. تبقى الكنيسةُ هكذا البيتَ الأبوي العائلي الذي يحتضنُ جميعَ أبناء الله، ويوَّفقُ بين أمالهم وأمانيهم وبين واقع الحياة الحاضرة، لتكون سفينة الأمان لقيادةِ شعب الله الى بَّرِ الأمان.
كانت عبادةُ العهد القديم وطقوسُه ماديّةً حرفية. لأنها كانت فقط ” صورة وظلًّا ” تقود الى الحقيقة في المسيح. تحَّولت مع المسيح الى روحية، فالله يُعبَدُ ” بالروح والحق” (يو4: 23). لقد تحَّرر الأنسان من الجسد ودخل عالم الروح، فيتعامل مع كلِّ شيء” بروح وحياة ” (يو6: 63). في المسيح عرف الأنسانُ اللهَ فتأَّله مثله في سلوكه كما يليق بأبناء الله (رم8: 4-14). فلا ننسى أننا ” أبناءُ الله … وهيكلُ الله الحَّي” !.