الأحد الثالث للكنيسة

تتلى علينا اليوم القراءات: عدد7: 1-11؛ اش54: 1-15 عب9: 5-15؛ يو2: 12-22

القـراءة : عدد 7 : 1 – 11 :–  نُصِبَت خِباءُ الشهادةِ لتقديم القرابين وآستقَّرَ عليها الغمامُ نهارًا ، ينقلبُ ليلاً الى نارٍ تُضيءُ طريق مسيرة الشعب.

 القـراءة البديلة : إِشَعْيا 54 : 1 – 15 :–  عظيمةٌ رحمةُ الله على أورشليم، لذا سيُعيدُ اللهُ الشعبَ من السبي فينسى عذابَه ومشَّقاتِه.

الرسالة : عبرانيين 9 : 5 – 15 :–  يُقارنُ الرسولُ بين ذبائح العهد القديم وأحكامها ومفعولِها، وبين ذبيحةِ العهدِ الجديد بدم المسيح فِديةً أبدية لتنقية الضمير والقلب.  

الأنجـيل : يوحنا 2 : 12 – 22 :–  يرفُضُ يسوع ألإستهتارَ بقدسيةِ بيتِ الله، فيطرُدُ المخالفين، ويرُّدُ على مناوئيه بأنَّه هو نفسُه هيكلُ حضورِ الله.

رَبِّي و إلهـي !

هكذا إعترف الرسل بلاهوت يسوع بعد القيامة. ولكن يختلفُ الأمر قبل ذلك. ولمَّا نفَّكرُ بإيمان تلاميذ يسوع، لاسيَّما الرسلِ الأثني عشر، نتصَوَّر أنَّهم آمنوا به منذ البداية أنَّه ” إلَهٌ ظهر في الناسوت “، وأنهم كانوا يعرفون الكتاب المقدس كما نعلمه اليوم نحن وكما نؤمن بمن هو يسوع المسيح. صحيحٌ أنَّ بطرس أعلن، مَرَّةً وبآسم رفاقِه كلهم، كما قرأنا قبل أحدين، أنَّه ” المسيحُ إبنُ اللهِ الحَّي”. ولكننا نعلَم أيضًا أنَّه قال ذلك عفوًا ودون قناعةٍ واعية. ذلك لأنَّ اللهَ كشفَ له ذلك. كشفَ اللهُ له هويته المسيحانية لأنَّ بطرس كان شديدَ التوقِ الى مجيء المسيح المُخَّلص. و المُخَّلِص هو إبنٌ لله وعد أن يرسله من نسل الأنسان لفداء البشرية (تك3: 15). فرَدَّدَ بطرس ما تلَّقاه بالوحي دون أن يعيَ عمقَ الحقيقة التي أقَّرَ بها.

سِرْ خلفي يا شيطان !

إننا نقرأ في الأنجيل أمورًا كثيرة تُظهر أيضًا غباوةَ الرسل وتُشَّوِهُ هوية المسيح في أذهانهم،  وتُصَّعبُ إدراكَ كُنه طبيعة يسوع، وإدراك حقيقةِ بُعدِ رسالتِه. بحيثُ ما كاد متى يذكر إعترافَ بطرس بلاهوت المسيح (إبن الله !) وآعترافَ يسوع لبطرس أنَّه الصخرة التي يسندُ يسوع إليها كنيسته (متى16: 16-19)، حتى أضافَ بَعدَ قليل جهلَ بطرس بحقيقة هوية المسيح، وبالتالي حقيقة ما تفَوَّه به، وآستنكارَ يسوع ذلك :” سِرْ خلفي يا شيطان. إنَّ أفكارَك ليست أفكارَ الله بل أفكارَ البشر” (متى16: 23)، بمعنى أنَّ فكر بطرس كان مُشَّوَهًا يعكسُ الإعتقاد السائد بين الناس عن هوية المسيح، وكأنَّ يسوع يقول له :” إنَّك لم تُدرك بعدُ مَن أنا على حقيقتي”. كما سيُبدي الرسلُ ضُعفَ تواصلهم مع يسوع وقلَّةَ إدراكِهم لهويته ورسالته، وبالتالي قُصرَ إيمانهم ، حتى يثورُ يسوع في وجههم مُستنكِرًا غباوتَهم، فيقول:” حتى متى أكون معكم؟. وإلى متى أحتملُكم “؟ (متى17: 17).

كنَّا نأملُ أن يُعتِقَ ..!

وحتى عند موت يسوع كان فكرُ التلاميذ عنه أنَّه يكون ” مَلِكًا أرضيًّا “، كما صَوَّرَه قادةُ الشعب . فصاروا يتوقعون منه تحريرَ الشعبِ من الأستعمار الروماني وتأسيسَ المملكة المزعومة (لو 19: 11). وأخذوا يستفسرون منه عن متى تكون نهايةُ سُلطةِ الهيكل وإعلانُ مملكةِ المسيح (متى23: 3). نعم آمنوا أنَّه هو” المُنتَظَر” كما أخبر عنه موسى والأنبياء والكتب (يو1: 45). و تمَسُّكُهم بمظاهر تلك الصورة الحِسَّية منعَهم من التعَّمقِ في سِرِّه وهويته، فجهلوا جوهر كيانه. تمَّسكوا بهذه النظرة إلى موت يسوع وأصدوا لها علنًا :” هو الذي كنا نحن نأملُ أن يُعتِقَ إسرائيل” (لو24: 21)، بل لم يترَّددوا حتى بعدَ قيامتِه التصريحَ بهذا الأيمان: ” ربَّنا، أَ في هذا الزمن تُعيدُ المُلْكَ لأسرائيل” ؟(أع1: 6).

إنَّ تسَّلُطَ فكرة المُلْكِ الزمني حجبت عنهم شُعاعَه الروحي وسَدَّت عليهم رؤية العُمقَ الألهي المستور إلى ما بعد القيامة. وإنجيلُ اليوم يؤَّكد عليه بصراحة. لمَّا طرد يسوع الباعة من الهيكل وتفَوَّه بعبارتِهِ الشهيرة، الدليل على لاهوته، :” إهدموا هذا الهيكل وأنا أُقيمُه في ثلاثةِ أيام”، لم يَع ِ التلاميذُ البُعدَ الحقيقي لكلامه. لم يفهموا الأمرَ إلا بعد القيامة. فلمَّا حلَّ عليهم الروح القدُس عندئذٍ فقط إستوعبوا كلَّ ما حَمَّلَ يسوعُ العبارةَ من معنًى. وليست هذه المرَّة هي الأولى يذكرُ الأنجيلُ ذلك. لمَّا دعا يسوعُ الرسلَ الى السهر والأستعداد لمواجهةِ مِحنةِ صلبِه وموتِه تَّوهموا أيضًا وظنُّوا أنَّه يدعوهم الى التزوُّدِ بالسلاح ليُدافعوا عن أنفسِهم فقالوا :” ههُنا سيفان” (لو22: 38). بل وآستعملَ بطرس السيفَ للدفاع عن معَّلِمِه وكأنَّ حربَ التحَّرُر والأستقلال قد بدأتْ (يو18: 10). وفي كلتا الحالتين ردَّهم يسوعُ خائبين.

ونحن كيف نؤمن بالمسيح ؟

والسؤالُ يتوَّجه اليومَ إلينا نحن تلاميذ المسيح ورسلَه. كيفَ ننظُرُ الى المسيح يسوع”. هل نؤمنُ به حَقًّا كما هو، أي أَدرَكنا جوهر هويتِه، أم نؤمن به حسبَ قناعتنا، أو كما صَوّرَه لنا ذوونا و مجتمعاتُنا وحتى أحيانًا بعضُ قادتِنا الذين لم يفهموه في جِلدِه بل في جلدِهم، فرسموا عنه صورةً تتماشى مع مصالحهم الدنيوية؟. فالسؤال هو: أَ ما لنا نحن أيضًا قناعةً بنيناها على سوء فهمنا للأنجيل؟. نحن أيضًا بشر مثل بطرس ورفاقِه، ولنا ثقافةٌ دينية حول المسيح ورثناها من أهلنا وبيئتنا وظروفنا وإمكاناتنا؟. نحن أيضًا ندَّعي أننا نعرفُ المسيح، نعرفُ عنه من ولادته وإلى موته وقيامته وصعوده!. ولكن أَما ننتظرُ من مسيحنا أن يُلَّبيَ مطاليبَنا فيُعاقبَ أعداءَنا، ويحمينا من كلِّ وباءٍ وكارثةٍ وآضطهاد، ويدافعَ عنَّا بأن يُشهرَ سيفَ جبروتِه بوجه من يؤذينا أو يتعَّرض لأيماننا؟.  نحن أيضًا نُقِرُّ أنَّ يسوع هو ” المسيح إبنٌ لله الحَّي”. ولكن كم نسمع الى كلامه، وكم نُطّبق مبادِئَه على سلوكنا؟ وكم نلتزم بأن نشُّعَ أقوالَه وأعمالَه من خلال حياتِنا و تفاعُلِنا مع المجتمع؟.

الرسل ونحن. إعتقدوا أنَّهم عرفوا المسيح وآفتهموه. ونحن أيضًا نعتقدُ أننا نعرف المسيح ونتبعُهُ . لكن الرسل إعترفوا أنهم كانوا مخدوعين، وتبعوا أفكارَهم الخاصّة، وليس مُعطياتِ الكتاب المقدس، فأَخضعوا صورة المسيح وحقيقتَه لمقاييسهم وتطَّلُعاتِهم الزمنية وأحلامِهم. وأخطأُوا. و هل نعترفُ نحن أيضًا فعلاً أنَّ لنا مسيحًا مختلفًا عن يسوع الناصري لأننا نريدُ منه أن يكون مسيحًا يُجاري أفكارَ أهل العالم ويُؤَّيدُ طُرُقَنا البشرية المُشَّوَهة؟. أما نعلن للمسيح حقوقَنا القومية والوطنية والدينية رافضين السير في درب الآلام، ومُتشَّكين من الأضطهاد، ومتذَمِّرين بسبب ظلم العالم علينا؟. أَ  لم ننهزم كثيرًا فتجَنَّبنا صليب المسيح؟. أَ  لم نُبَّدِلْهُ بالحقدِ والتشَّفي والأنتقام ممن لا نُحِبُّهُ؟. أَ  لم نُحَّلل السيفَ والقتل بحجة الدفاع عن حقِّنا و نفسِنا؟. أَ  لا نستشهِدُ بقول المسيح:” مَن لا سيفَ له فليبِعْ  رداءَه ويشترِهِ”؟ (لو22: 26). وكم نقبل أن نتقَّيد بـ” من ضربَ على خدِّكَ قَلِّبْ له الآخر”؟(نتى5: 39). وكم إعتنينا بالفقير؟ وكم إحترمنا الضعيفَ والمذلول؟. ترى مدى فهمنا لكلام الأنجيل؟. هل فكرنا جِدّيًا بمدى تأثير ما نتعَّلمه من الشارع والسوق والعمل والمدرسة على حساب ما نتعلمه من المسيح؟. وكم نتقيد بعرف المجتمع وننسى أنَّنا نور وملحٌ وخميرة لنغَّير مباديء العالم ونُطعِمَه بتعاليم المسيح ؟. إننا ممتلئون من ذواتنا ومقيَّدون كثيرًا بالحاجات الزمنية. إننا بحاجة الى التغيير.

الروح لم يكن أُعطيَ بعدُ !

التغيير يحتاج الى قوة تسند الجهود. القيامة هَزَّت الرسل ” كان هذا حَقًّا إبن الله”. تبعها حلول الروح القدس الألهي عليهم فغَّيرَ باطنهم، فكرَهم وقلبهم، حتى أصبحوا صورة من يسوع في غيرة نشر الحق والبر والشهادة ليسوع بجرأة وحماس غير مبالين برَّد فعل أهل العالم عليهم من مضايقةٍ وتعذيبٍ و حتى قتل. كانوا قد تحَّولوا الى صورة للمسيح نفسِه، لأنهم وثقوا به وأحَّبوه فتَشَّبهوا بذُّلِهِ وصبره وجهادِه. تجَّردوا عن ذواتهم وصَمَّموا أن يعيشوا كالمسيح شهودًا حَيَّةً عن الحَّقِ والبر، متابعين بذلك رسالته. لقد فهموه وآختبروا قوَّته معهم ، وشعروا أنَّه هو يعمل من خلالهم حتى قال بولس:” حياتي هي المسيح” (غل2: 20) و” أقوى على كلِّ شيء بالذي يقَّويني ” (في4: 13).

نحن أيضًا آمنا بقيامة المسيح، ونلنا الروحَ القدس الألهي يوم عمادنا ليعمل فينا، يرشدنا ويسندُ جهادَنا، فلماذا نتبعُ فكر العالم وروحَه وننسى المسيح ونسُّدُ الباب بوجه الروح؟. هل نخافُ من شيء؟ الرب قال للتلاميذ بعد القيامة :” لا تخافوا “. لقد إنكسرت قوَّةُ الشرير وتقدرون أن تغلبوه (لو24: 38؛ متى28: 10؛ يو16: 11). هل نشعر بأننا معزولون عن المسيح ومهملون منه بل هو وعد” ها أنا معكم طوال الأيام ” (متى28: 20). هكذا شعر التلاميذ الأولون حتى قال أحدهم     

” ما أنا الذي أحيا بعدُ بل المسيح يحيا فيَّ” (غل2: 20). شعورنا بوجود المسيح معنا، وسماع إيحاءات الروح يُسَّهلان لنا الحياة ولا يسمحان للعالم أوالجسد أو لأيِّ شيء آخر أن يفصلنا عن يسوع المسيح. وما يساعدُ على الحفاظ على وحدتنا مع المسيح، إذا ” رغبنا في الأمور التي في العلى لا في الأمور التي على الأرض. لأنَّكم قد مُتُّم (عن الحسِّيات) وحياتُكم محتجبة مع المسيح في الله. فإذا ظهر المسيح الذي منه حياتكم، تظهرون أنتم أيضًا في المجد معه” (كو3: 2-4). و حتى تكون وحدتنا مع المسيح حيوية قوية يجب أن نُحِّبَ المسيح ونحفظ كلامه (يو14: 23). و   سنُحب المسيح إذا آمنا وآعتبرنا أنفسَنا ” أغصانًا في جذع الكرمة، ومنه تأتينا الحياة ”                                                                                                         

(يو15: 5-15)، فنحمل حياته في عروقنا ونبُّثَها للعالم من خلال ثمارنا. نكون قد آمَّنا بالمسيح إذا لم نتعَّلق بالعالم، لأننا ” لسنا من العالم”(يو17: 14-16). العالم لا يضمن لنا الحياة بخيراته. نحن مُرسَلون من قبل المسيح الى العالم (يو20: 21؛ 17: 18). نكون قد آمَّنا بالمسيح إذا لم ندِنْه بل عملَنا من داخله لنُخَّلِصَه (يو3: 17؛ متى28: 19-20). نكون قد آمنا بالمسيح إذا عرفنا أن نُحَّول حياتنا الى صورة منه وآقتدينا به في المحبة والخدمة والبذل والغفران (يو13: 14-15 ، 34؛ 15: 13؛ 1بط2: 21؛ متى6: 14-15)، وآلتزمنا بوصِّيَتَه وجعلنا من أنفسنا قدوةً لغيرنا في التقَّيُد بكلام الرب (1طيم4: 12؛ طي2: 7).