بعد عيد الصليب صلينا، إلزامًا، أحدَه الأول والرابع لأيليا. نتابع الآن صلاة الآحاد المؤَّجلة والتي بعد العيد، حسب النظام الطقسي.
تتلى علينا اليوم القراءات : 30: 15-22 ؛ 2تس2: 15-3: 5 ؛ متى13: 1-8
الرسالة : 2 تسالونيقي 2 : 15 — 3 : 5
بعد تقويم فكرة أهل تسالونيقي الخاطئة عن نهاية العالم والتأكيد على أنَّها تحدث فجأة ولا أحد يقدر أن يعرف موعدها الصحيح دعاهم بولس إلى الثبات في الأيمان والأستمرار في السلوك الذي أوصاهم به إمَّا مكاتبةً أو مشافهةً. لا يسن بولس شريعة جديدة. بل يتقَّيد حصرًا بشريعة المسيح نابذًا كلَّ شريعةٍ معارضةٍ لها. وشريعة المسيح يُجَّسدُها عمليًا في الأفعال والتصَّرفاتِ اليومية، منَّظِمًا بذلك حياتهم العائلية والإجتماعية والدينية. يسعى بولس أن تجري كلُّ الأمور بـ” أدبٍ ونظام ..لأنْ ليس اللهُ إلهَ الفوضى، بل إلهَ السلام” (1كور14: 39 و 33))، وأن تتِّمَ بروح الأيمان لا على ما هو عادةٌ موروثة. فقد ألغى المسيح نظام الأخلاق الحرفي العتيق،” وأصبحنا نعمل في نظام الروح الجديد” (رم7: 6). لم يشاهد أهل تسالونيقي يسوع المسيح و لا الرسل الـ 12 ليتعَّلموا كيف يسلكون. بولس نفسُه عرفهُ من الرسل، وهو يُجَّسدُ أخلاق المسيح. والمسيح جسَّد الآخلاق الألهية عارضًا علينا نفسَه قدوة نقتديَ بها (1بط2: 20). كما قدَّس يسوع نفسَه في الحق من أجل المؤمنين به (يو17: 19) هكذا فعل بولس فقال:” لم نسِر بينكم سيرة باطلة .. أردنا أن نجعلَ من أنفسِنا قدوةً تقتدون بها ” (2تس3: 9). وهكذا ينبغي أن يكون، في الأيمان، رسُلُ كلَ زمان ومكان.
أُثبتوا في الأيمان !
هذه الآداب يُعَّلمها بولس”في كلِّ مكان في جميع الكنائس” (1كور4: 17). وهدفُه أن يخرجَ المؤمنين بيسوع من قوقعة عاداتهم وتقاليدهم القديمة غير السليمة، ولاسيما من ضعفهم أمام الإشاعات المُرهبة، ليُفَّعلوا فيهم حضورالروح القدس فيتغَّيروا ويتغَّلبوا بقُوَّتِه على كلِّ عائق يُعارضُ مسيرتهم الجديدة الروحية. فالأيمان بالمسيح يتطلبُ نمطًا جديدًا في السلوك. فإِنَّ اللهَ وحدَه يضمن للأنسان، بالمسيح، الراحة الأبدية في السعادةِ والمجد. يريدُ بولس لمن آمن بالمسيح أن يعيش حياته كاملةٍ زمنيًا وأبديًا. كما قال المثل:” إعمل لدنياك كأنك لا تموتُ أبدًا، وآعمل لآخرتك كأنَّك تموتُ غدًا “. وبقدر ما يُطالبُ الثبات على الأيمان بالمسيح، يُطالبُ أيضًا أن يحيوا حياتهم الزمنية فيشتغلوا بحيثُ سيُندِّدُ بمن لا يعمل، ويطلبُ مقاطعته (2تس3: 10: 15). يطلبُ أن يعيِشوا بآستقامةٍ ، أُناسًا مؤمنين، يُحِّبُون الله والقريب، ويسمعون كلامَ الله ولا يؤذون القريب، ويتكلّون على الله دون أن يحتقرَوا القريب. وبآختصار أن” يُصَّوروا آدابَ المسيح في سلوكِهم اليومي”. يبدي بولس في الختام ثقته بأنهم سيلتزمون بوصاياه، فـيدعو لهم أن يهديَ” الربُّ قلوبَهم الى محبة الله ، وإلى الثبات في { سلوك } المسيح”.
أُدعوا لنا !
وبعدَ أن وصَّاهم وبَرَّرَ وصاياه، لا بجودتها فقط بل بضرورةِ التقَّيُدِ بها، ومدحهم بإبداءِ ثقته بهم، شَجَّعهم بطلب صلاتهم من أجله، بهدفين: الأول: كي يتابع نشر أخبار الخلاص في المسيح فيُعينه الرَّب في ذلك، حتى يلمس بولس ثمار جهودِه بآهتداء كلِّ الناس الى المسيح و قبولهم تعليمه في كلَّ مكان. سيُصَّرح يومًا برغبته هذه أمام الملك أغريبا وهو سجينٌ في طريقه الى روما، ليُحاكم أمام قيصر نفسِه، فقال: ” أنا لا أرجو من الله لك وحدَك، بل لجميع الذين يسمعوني اليوم أن يصيروا إلى ما أنا عليه، ما عدا هذه القيود” (أع26: 29).
الثاني : كي ينجوَ هو وأبناء الرعية من أذى” الناس الضّالين الأشرار” الذين يرفضون الحَّقَ، ولا يملون من حياكة المكائد والدسائس للأيقاع به، بل وحرموه العيش في تسالونيقي (1تس2 : 15-16 ؛ أع17: 1-10 ؛ أنظر الأحد 6 للصيف). أكَّد بولس لقُرَّائِه أن الله صادقٌ في وعودِه ولن يسمح بأن يُجَرَّبوا فوق طاقتهم (1كور10: 13)، بل سيُؤَّيدُ صمودَهم وسيحفظهم من الشَّرير(آية3). لم يعِدَهم بولس بألاّ يُصيبَهم ضيقٌ وشِدَّة بسبب إيمانهم، لأنه متيَّقنٌ من أن الله وهبَ المسيحي لا فقط أن يؤمن بيسوع المسيح بل أن يتألم أيضًا مثله بسبب الحق والبر(في1: 29)، فيشترك في آلامه حتى يحُّقَ له المشاركة في مجده (في3: 10-11)، ولاسيما لأنَّ المسيح يتابع فيُكَّمِلَ آلامَه من أجل العالم من خلال المؤمنين به (كو1: 24). لهذا لا يَعِدُهم بالراحةِ والبطرنة. إنَّما يؤَّكدُ لهم بأنَّ ما يُعانيه هو وما سيُعانونه هم من أجل إيمانهم لن يكون كابوسًا بل بركةً من الله وطريقًا الى المجد. هذا بالنسبة إلى المسيحي.
ليس الأيمان من نصيب كل الناس !
أما بالنسبة إلى الأشرار الذين يضايقون المؤمنين فلكي لا يترك شَكًّا عنهم دعا بولس ألا يستغربوا ذلك عندما نوَّه بأن وجود الأشرار المضطهدين للحق الألهي لا نصيب لهم في الأيمان. وأنَّ مُضايقتَهم تخدم الإيمان. ربما يُفَّسرُ البعض ذلك بأنَّ الله شاءَ لهم هذا الموقف السَّييء فـ” قضى وقدَّرً لهم الشر”. لا. حاشى الله أن يختار بعضًا من الناس للشر والهلاك ، وهو الذي خلق كلَّ الناس للحياة لا للموت. نعم يختار الله بعضًا لخدمة ملكوته، كما إختار يسوع إثنا عشر رسولا يُتابعون عمله الخلاصي، منهم يهوذا الأسخريوطي أعمدةً في بناء ملكوته، لكنه تخاذل وعبد المال عوضَ الله، وآستسلمَ الى شهوة الحِسِّ والمال ومجد العالم. فاللهُ يعرض ملكوته على كل إنسان، ولا يفرضه. ومن قبله وسار في دربه يعضُدُه. ومن ترك درب الله وسار على خطى ابليس يحترمُ الله أيضًا حريته، و يدعُ له بابَ العودة مفتوحًا ، ولن يُرغمه على التوبة، إنَّما يُنَّورُه ويدعه يختارُ مصيرَه. أمثال هؤلاء لا نصيب لهم في الأيمان. ربما عرفوا المسيح، و بعضٌ منهم أمنَ به لكنهم توقفوا عند هذا الأعلان دون أن يعيشوا ما يطلبه الأيمان من سيرةٍ بارَّة وقدّوسة. فهؤلاء إيمانهم باطل. وإذا قاوموا الحق والبر يزيدون في الطين بِلَّةً. وعندئذ يتركهم الله لغَّيهم ولن يمنعهم من الشر والإساءة الى المؤمنين، دون أن يغلقَ في وجههم باب التوبة فالخلاص. ويحمي في المقابل المؤمنين و يجازيهم بالمجد والنعيم في فردوسِه الألهي.