تتلى علينا اليوم القراءات : اش32: 1-8 ؛ في1: 12-21 ؛ متى13: 24-30
الرسالة : فيلبي 1 : 12 -21
أخيرًا تحَقَّقَ حلمُ اليهود ونالوا من خصمهم اللدود فقبضوا على بولس وكادوا أن يُميتوه ضربًا لو لم ينقذه قائد الألف من حقدهم الدفين وثورتهم الجنونية. ولما فلت من أيديهم هاجوا على القائد الروماني ينضحون سمومهم ضد بولس صارخين : ” أزِلْ مثلَ هذا الرجل من وجه الأرض. إنَّه لا يستحِّقُ الحياة… وعلّوا أصواتهم، طارحين ثيابهم (إستعدادًا لعمل إجرامي، أع 7: 57-58)، ذّارين الترابَ في الهواء” من شدَّة هيجانهم في شَّرِهم الوحشي (أع21: 30-33؛22: 17-23). فبولس سجين، مُقَّيد بسلاسل، يتعَذَّب ومصيرُه غامض وهو مُغترِبٌ عن محبيه وبعيدٌ عن جميع رعاياه. لكنه لم يقدرْ، رغم ذلك، أن ينسَاهم لأنه متَعَّلِقٌ بحِّبِهم ، فيُتابع الأهتمام بهم، مُتقَّصيًا أخبارَهم، ومُزَّودًا إيَّاهم بلطف الكلام وحكمة النصائح، مُشّجِعًا ومُعَّزيًا ومُرشدًا ليتابعوا حُسْنَ مسيرتهم الأيمانية بأمانٍ وهدوء.
قيودي لم تُعِق البشارة !
لقد حافظ بولس، رغم كلِّ ما عاناه ويعانيه من ضيق وألم بسبب إساءة الذين يعادونه و يريدون القضاء عليه وإفشالِ جهوده التبشيرية، رغم ذلك حافظ على هدوئه وسكينة قلبه و فكره. لم تنل الشدائد من همَّته ولم تُقَّلل من نشاطه. حتى من السجن يبَّشر بالمسيح برسائله ، بل يوَّجِه الكلام المباشر إلى حُكّامه أو سجَّانيه. لقد تهَيَّأَ لذلك فالرب علمَّه مسَّبقًا أنه سيتألم كثيرًا من أجل إسمِه (أع9: 16)، وتدَرَّبَ على التبشير في أوقات الشِدَّة، منها في سجن فيلبي حيث بشَّر سجَّانه وعمدَّه مع أهل بيتِه (أع16: 16-34). وفي قيصيرية حضرَ أمام الملك أغريبا في دار القضاء وأسهب في الدفاع عن نفسِه، وآنسَّلَ منها الى تبشير الملك نفسِه حتى قال له الملك :” زِد قليلاً من الجهدِ تجعلُ مني مسيحيًّا ..” (أع26: 25-29). وفي طريقهم إلى روما، ولما كادت العاصفة تقضي على السفينة وركابها الـ 276، عندما يَئِسوا من النجاة ، إنبرى بولس يُطمئنهم بالنجاة بفضل إيمانه بالله وعبادته له، وظلَّ يُرشدُهم إلى أن تحطمت السفينة قبالة مالطة لكن المسافرين كلهم عبروا الى البر سالمين (أع27: 20-44).
بولس لا فقط لم تُرْعِبْهُ القيود والشدائد، بل بات يفتخرُ بها. ويقول بآعتزاز:” إنّ قيودي ذاعت لها شُهرةٌ في المسيح بدار الحاكم وفي كل مكان”. شُهرتها من شهرة صليب ربِّ بولس التي طبَّقت أصداؤُها آفاقَ الأرضِ كلَّها. يقولُ المثل بتهَّكم وآستصغار:” قَّبِحْ تُذكَرْ”!. تُذكَرُ الأمور غير العادية والمذمومة للتحقير أو التنكيلِ بمن حدثت له. المسيح كان بريئًا لكن الصلبَ كان مريعًا و”ملعونًا”. بهذه الوسيلة النكراء صار الناسُ ينجذبون أكثر إلى المُعَّلق عليه ليعرفوا عنه أكثر. بولس كان مقيَّدًا ومُتهَّمًا لكن سلوكه الأيماني كسبَ له وِدَّ حكامه وسجَّانيه وقاد هذا كثيرين منهم إلى الأيمان بالمسيح. لهذا إفتخر بولس بقيوده ” من أجل المسيح، وبروحِه “. و لا فقط بولس تعَّزى بقيودِه بل تلاميذ آخرون تشَّجعوا و” آزدادوا جُرأةً على التبشير بكلام الله غير خائفين”.
إذا كان على المسيح المعَّلم” أن يعاني الآلام حتى يدخل مجدَه “، وإذا كان بسببها ” يُدعى بآسمِه في جميع الأمم الى التوبة لغفران الخطايا” (لو24: 26 و 46-47)، فما على التلميذ إلا أن يقتدي به ويتحمل بفرح وهدوء صلبان جهاده من أجل خلاص العالم، سالكًا بذلك طريق المجد. ولهذا لن يترَّدد بولس في أن يُعلن في جميع رعاياه ليُشَّجعَهم على إعتبار ما يلقاه تلميذ المسيح من شِدَّةٍ و ضيق من أجل البشارة بالمسيح نعمة خاصّة من الرب، لأنها تجعله شبيهًا به (في3: 10-11)، فيقول:” أرى أنَّ آلام هذه الدنيا لا توازي القدرَ العظيمَ من المجدَ الذي سيتجَّلى فينا ” (رم8: 18؛ 5: 2 ؛ 2كور4: 17).
تبشير بإخلاص أو بخبث !
لكنَّ فخر بولس بقيوده يشوبه غَمٌّ لم يقوَ على إخفائِه. وهذا الغَّم يؤلمُه لأنَّ بعضًا من تلاميذ المسيح، ومن الذين إهتدوا على يد بولس نفسِه، نَحَوا منحًى لا يُمْدحون عليه. إنَّهم يُبَّشرون بالمسيح، نعم. ولكن لا عن غيرة ومحَّبة، ولا تعاونًا مع بولس، بل” حسَدًا منه ومُنافسَةً له “، ليُشَّوهوا سمعة بولس وينالوا من نجاحِه. فيهم من يبشرعن ” نيةٍ مستقيمة “، فلا ضير منهم أو عليهم. إنَّهم يتصَّرفون كمعاونين لبولس ومكَّمِلين لعمله. يفرح بهم بولس ويمدحُهم. أمَّا الذين يبشرون بنيَّةٍ سيِّئة، ” عن حسد ومنافسة وبدافع الكيد”، فيفضحُ نياتهم قائلا: ” يظُّنون أنهم يُزيدون قيودي ثقلاً”. إنهم يتصَّرفون حسبَ المثل القائل:” إذا وقعَ الثورُ حُدَّتْ السكاكين “. لمَّا كان بولس حاضرًا لم يتجَرَّأوا على منافسته خوفًا من ألا يُفَّشلهم ببلاغةِ كلامه وبقوَّة إيمانه وسلامةِ سلوكِه. أما وهو غائبٌ ولاسيما سجينٌ يُقاضَى ، وربما يُحكمُ عليه بالموت ، فهي فرصةٌ لهم سانحة ليبرزوا ويمحوا ذكرَ بولس من الأذهان. أما هكذا يفعلُ قادة الشعوب عادةً : يمحون ما يُذَّكرُ بأسلافهم فلا يذكر الشعبُ إلا فضلهم هم ليمدحوهم؟. ويبدو الأمرُ في وضع بولس أتعسَ وأقبح، لأنَّ منافسي بولس يبغون إيلامَه بآسم الله والزيادة في عذابِه عن طريق البشارة، لأنَّ مجدَه في نجاحِه سدَّ الطريق أمامهم ليشتهرواَ فيتمَّجدوا.
لكن بولس يبدو جبلا لا يُهَّد. إيمانه أنقى وأقوى من أن يُؤَّثرَ فيه سلوكُ الآخرين. لم يطلب المجد من الناس ولا إتَّكل عليهم حتى ييأس أو يثأر لحَّقِه. بولس يعيشُ مُتَّحِدًا مع المسيح. لا يهُّمه ما يفعله الناس، لاسيما الأشرار أو ضِعافَ النفس. لا يبشر بولس بتكليف وتخويل منهم. المسيح هو الذي أرسله مُدافِعًا عن البشارة، التي كان سابقًا يقاومُها، خاصَّة بين الوثنيين. فما يهُّمه هو أن يسمع الناس عن المسيح، عن حياته وعن تعليمه، وأن يؤمنوا به ليخلصوا. إنه يتابع عمل المسيح. ويفرح أن يكتملَ هذا العمل بأيِّ شكل كان، وعلى أيدي أيٍّ كان. حتى لو تمَّ بنياتٍ غير مستقيمة. الله قادرٌ على أن يُخرج من شَرِّ البعض خيرًا لغيرهم. أما قتل اليهود المسيح وبموته خلَّص الله البشرية من الهلاك؟. أما فعل ذلك مع يوسف الصديق الذي ببيعه عبدًا رفعه الله الى سلطة حاكم مصر فأنقذ شعبَ الله المختار من وباء القحط والمجاعة؟. هنا أيضًا يؤمن بولس أن التبشير” بسوء نية ” يقود الى معرفة المسيح. فيعلن بولس راحته في ذلك قائلاً: ” ما ضَرَّني كيدُهم وخبثُهم. حسبي أنْ يبَشَّر بالمسيح في كلِّ حال، إمَّا بخبث وإمَّا بإخلاص. فهذا ما يسُّرُني. ولا يزالُ يسُّرُني لأني أعلمُ أنه يؤولُ الى خلاصي”.
يعزو بولس إنتشار البشارة وصمودَه هو في الحق والعمل رغم قيوده إلى نعمة الرب وعونٍ منه. وآلتفاتة الرب نحوه وعضده تأتي إستجابةً لأدعية المؤمنين ليسند الرب بولس في جهاده وقيوده. لا يخاف بولس ولا يتهَّرب من الأضطهاد، ولا من الموت، إنما يطلب فقط أن يصمد بجرأة في كل أمرٍ” يتمجَّدُ فيه المسيح”، في تبشيره أو عذاباته، كان حيًّا أو مَيِّتًا، لأنَّ ” الحياة عنده هي المسيح “.