الأحد 2 للصليب / 5 لأيليا !

تتلى علينا اليوم القراءات : اش26: 1-9 ؛ في3: 1-14 ؛ متى17: 14-21

الرسالة : فيلبي 3 : 1 – 14

العلاقةُ بين بولس ورعية فيلبي نموذجية، هي علاقة بين أفراد الأسرة الواحدة، علاقة أُبُّوة وبُنُّوة، محَّبة متبادلة وتعاون مُستَمِّر تتحَّديان كل الظروف الزمنية. يستقبلُ بولس، وهو مُقَّيَدٌ في السجن، مبعوثَ فيلبي ليقومَ بخدمتِه، ويُرسلُ بدوره إليهم أحد معاونيه ليشكر رعايتهم له و يُطَمئِنَهم على أحوالِه ويُزيلَ همومهم ويُخَّففَ عن معاناتهم من أجل إيمانِهم. فرعية فيلبي و بولس يتبادلان الفرح والهَّم، ويتعاونان على البر والتقوى.

إِفرحوا في الرَّب !

يبدأ بولس كلامه فيدعوهم الى الفرح. وسيُكَّررهذا النداء بلهجةٍ أقوى :” إفرحوا دائمًا في الرب. وأقولُ لكم أيضًا ” إفرحوا” (في4:4). يعرفُ بولس أنَّ الغَّمَ والهَّم من أساليب الشّرير وعلامة إنشغالٍ بما يُقلق ويُؤلم ويُعَّذب. بينما ملكوت الله هو: ” بِرٌّ وسلامٌ وفرح في الروح القدس” (رم14: 17). لأنَّ ثمار الروح ” هي المحبة والفرح والسلام” (غل5: 22). ونحن نسلك سبيل الروح لا الجسد” (رم8: 4). فالفرح أحدُ مظاهر الأيمان والقناعة، والثقة بالله. لذا فهو عنصُرٌ أساسيٌّ للحياة المسيحية. فالذي يفرح يثقُ بنفسِه وبما يؤمن به ويحيا بوعيٍ وقرارٍ وغيرة. إنَّه مرتاحٌ في سلوكه الأيماني. إنَّه لا يستسلمُ للأهواء والمشاعر، بل يفعلُ كلَّ شيءٍ بدافعٍ من الأيمان بالله (رم14: 8). ولا يشعرُ بضيقٍ أو حرج، بل بالراحة.

لا يدعو بولس إلى أيِّ فرح كان. لم يدعُ ألى الرقص والغناء، والأكل والشرب، ولبس الثياب الفاخرة، بآقتناء المال والجاه، بل دعا الى الفرح بالرب، :” أطلبوا ملكوت الله وبرَّه، وهذا كلُّه يُوَّفرُ لكم” (متى6: 33). إفرحوا بالثبات في الحَّق لأنه شهادتكم أنكم أبناءُ الله. يدعوالى الفرح الذي يستند إلى القِيم الروحية وإلى الضمانات بمشاركةٍ مجد الله ونعيمه، الحياة الأبدية، التي وعدَ بها الرب يسوعُ المسيح للذين يسلكون سبيل المحبة ويكونون أوفياء لمبادئِه السلوكية. فقد قال الرب :” إفرحوا لأنَّ أسماءَكم مكتوبة في السماء ” (لو10: 20). في مثل هذا الفرح يذوب كلُّ هَّمٍ وغَّم. وفيه ينتعشُ كلُّ أمل وينمو كلُّ رجاء. أمام فرح الأيمان يهتَّزُ كلُّ شَّر و تنهَّدُ كلُّ قوَّة. من كان راضيًا من حاله ومرتاحًا في سلوكه يتهَّربُ منه المُجَّرِب.

إحترسوا الكلاب !

حَذَّرَ بولس من ” الكلاب، عمَّال السوء، وذوي الجَّب “. ثلاثة نعوتٍ أطلقها بولس على أعداء البشارة بآسم المسيح. ليسوا ثلاث جماعات مختلفة. إنهم نفس الجماعة الواحدة. دعاهم عمال السوء لأنهم كانوا يقاومون البشارة ويحاولون إيذاء بولس لإسكاتِه. كانوا ” يُثيرون الشقاقَ و يعيثون الفساد”(رم16: 17). سمَّاهم ذوي الجَّب نكاية بهم لأنهم يُقَّدسون الختان، ولا يتقَّيدون بما يرمز إليه ويقتضيه. وقد أطلق لأول مرة لفظة ” الجَّب”، وتعني قطع وآستئصال العضوَ التناسلي، على مؤمني غلاطية الذين بعد إيمانهم بالمسيح أرادوا العودة الى شريعة موسى و ممارسة الختان بنوع خاص ، حتى نعتهم بالأغبياء لأنهم ” إبتدأوا بالروح ثم رغبوا الأنتهاء بالجسد ” (غل3: 4)، وصاروا يُحَّرضون الآخرين على ذلك حتى وقعت بلبلة وحيرة بين المؤمنين فكتب لهم بولس، يتهَّكمُ : ” ليتَ الذين يلقون البلبلة بينكم يَجُّبونَ أنفسَهم”! (غل5: 12). كانوا يستغلون البُسَطاء والجهلاء في كل مكان كي يمنعوهم من الأيمان بالمسيح. وأكَّد بولس للفيلبيين أنَّ المسيحي هو المختون حَقًّا. لأن الختان علامة مادية أن المختون مُلكُ الله يعبده بتنفيذ وصاياه. فالمؤمن بالمسيح هو الذي أصبح إبنًا لله و وارثًا لخيراتِه (غل4: 7؛ رم 8: 17)، لأنه يعبد الله” بالروح والحَّق” (يو4: 24). يعترف بولس أنْ كان للختان فائدة ” إذا عملتَ بالشريعة. ولكن إذا خالفتَ الشريعة صار ختانُكَ قلفًا ” (رم2: 25). ويسوع أكَّد للقادة اليهود انهم أهملوا أهَّمَ ما في الشريعة ” (متى23: 33)، بل” لا أحد منهم يـتقَّـيَدُ بالشريعة ” (يو7: 19). أما ” الكلاب”، إنَّها تعيش خارج البيت، فهي نجسة، وهكذا سمَّى اليهودُ الوثنيين َ(متى15: 26). واليهود أصبحوا هم خارج البيت الألهي ، مع المسيحيين الذين عادوا الى اليهودية ، فدعاهم بولس بنفس النعت، برَدٍّ عفوي!، لا يقبلُ الشَّك. حذَّر بولس من الأختلاط والتوافق مع هذه الفئات المذكورة اللواتي يعتمدنَ المباديء المادّية الدنيوية من المظاهر والتعَّصب والعنف حتى في عبادةِ الله، بينما يسلك المسيحي سبيل الروح ويفتخر بالمسيح ويتبنَّى روحيتَه.

أُعِّدُ كلَّ شيءٍ خُسرانًا لأربح المسيح !

إفتخر اليهود بالختان وبأمور حسِّية أخرى مثل : الشريعة، الشعب، السبط، المذهب، الغيرة على الأيمان والبِر حتى سيقول عنهم ” إلَهُهم بطنُهم ومجدُهم عورتُهم، وهمُّهم أمور الأرض” (في3: 19). أما بولس فيؤَّكدُ أنه ” يتقَدَّم أكثر أترابه من بني قومه في مِلَّةِ اليهود ويفوقُهم حميَّةً على سُنَن الآباء” (غل1: 14)، بل سبقهم في آضطهاد الكنيسة. لكنه لمَّا عرفَ المسيح بطَّل أنْ يعتمد على الأمورالبشرية. وكلُّ ما يعتبرُه الناسُ قيمَةً وعظمةً وفخرًا حسبه هو زبلاً مقابل إقتناء المسيح الذي يُحَّدِدُه ” بالربح الأعظم”، فتنازل عن قيم العالم جُملةً وتفصيلاً وجَدَّ وكَدَّ ، حَدَّ الجهادَ، من أجل التعريفِ بالمسيح والحصول على المجد الذي يوليه أحِّباءَه. فقال: ” من أجله خسِرتُ كلَّ شيءٍ، وعدَدْتُ كلَّ شيءٍ نُفايةً لأربحَ المسيح وأكون فيهِ” (آية8). ولا يكون أصلُ بِري” من الشريعة بل من الله نفسِه ، وعُمدَتُه الأيمان”. المسيح هو مركز الحياة. فهو اللهُ المُخَّلصُ. يُحاولُ بولس أن يذوب هو في المسيح والمسيحُ فيه. والمسيحُ دعا تلاميذه إلى الكمال. فيسعى بولس أن يبلُغَه بنفس أسلوب المسيح، بالموت عن الشر، والقيامةِ لحياة جديدة في المجد الألهي..

سبق فأخبرَ رعيتَه أنَّ ” حياتَه هي المسيح” (في1: 21)، لكنه يستدركُ هنا قولَه ليُوَّضحَه و يُؤَّكد أنه لم يُدرك الكمال بعدُ. ولا كمال للأنسان على الأرض. لكنه يسعى أن يصمدَ في درب الجهاد. لقد فاز عليه المسيح وغلبه الى جانبِه في معركة إضطهاد المسيح ( لا تقدر أن ترفس المهماز أع9: 4-5؛ 26: 14-15). والآن يسعى بولس بدوره أن يفوز بالمسيح في معركةِ إضطهاده من قبل أعداء المسيح. لم ينتصر بعدُ، لأنَّ المعركة مُستمِرَّة. ما يعمله هو أن ينسى ماضيَه الأسود، ويُلقي همَّه بعيدًا عنه، ويتَّكل على المسيح فيستمِرُّ في الإمتداد نحو الأمام وتقليل المسافة ، يومًا بعد يوم، بينه وبين إكليل المجد الذي ينتظرُه في السماء. ويعلن مبتهجًا أنَّ له ” رغبةً في الذهاب ليكون مع المسيح. وهذا هو الأفضل جِدًّا جِدًّا. غيرَأنَّ بقائي .. ضروريٌ لكم. … لأجل تقَّدُمكم وفرحِ إيمانِكم ” (في1: 23-25). ويُنهي كلامه بندائه :” لنواصل سيرَنا حيثُ بلغنا. إقتدوا بي !. (أية 16-17).