إسغربَتْ أمس مؤمنةٌ كلدانية عن سماعها بـ ” أربعاء الرماد”. إعتبرتْه مزحةً لأنَّها لم تسمع به قبلا في كنيستها. فخابرتني قلقة تستفسرُ عن الأمر. لاسيما وأنه قيلَ لها بأنَّ أمس كان بدءَ الصوم الكبير، وهي تعرفُ أنَ في طقس كنيستها كان الأحد 14/ 2 شباط الأحدَ الأول من الصوم. فآحتارت وطلبت النجدة لتعرفَ ما هذه اللخبطة؟.
متى يبدأ الصوم ؟.
كان الرسل يستعملون الصوم في مناسبات عديدة منها قبل العماد وقبل رسامةٍ كهنوتية (أع 13: 2-3ح 14: 23؛ 27: 33؛ 2كور6: 5؛ 11: 27)، بالإضافة الى يومين في الأسبوع على شريعة الفرّيسيين، ثم بدَّلوها بالأربعاء والجمعة، كما يشهد بذلك كتاب” الديداخى”، أي تعليم الرسل، من نهاية القرن الميلادي الأول. وكان الإضطهادُ يعصفُ بالمؤمنين ويُعيقُ التواصلَ بين الجماعات أو الكنائس العديدة المنتشرة حول حوض البحر الأبيض. فلم تظهر شريعة أو قوانين تُنَّظم الصوم. الى سنة 325م، في مجمع نيقية الذي ثبَّتَ عيدَ القيامةِ وبدءَ الصوم ونظامَه. إلى ذلك الحين تصَّرف الأساقفة ونظموا ما آستطاعوا فحددوا بدء الصيام وعدد أيّامه وطريقة تنفيذه. وأهَّم شيءٍ فيه أنَّه ثُبِّتَ بالعلاقة مع القيامة، لأنَّ الصيامَ إستعدادٌ روحي للعيد. وكانت قد تشَّكلت تقاليدُ محلية بل حتى وجهاتُ نظرٍ مختلفة، لا تمُّسُ الأيمان إنمَّا تختلفُ الكنائسُ فيما بينها بطريقة إعتبار الصوم. وشيءٌ ثانٍ مُهِّمٌ أن المجمع حَدَّدَ، كما يبدو، عدد أيام الصوم بـ” أربعين يومًا” بعدد أيام صوم المسيح. لكنهم إختلفوا في كيفية حساب تلك الأيام الأربعين.
الآحادُ أيام فرح ذكرى قيامة المسيح والخلق الجديد للأنسان فلا صيام فيه. تبقى ستةُ أيام من الأسبوع، أي 36 يومًا في ستة أسابيع. وعند إضافة أسبوع سابع تفضُلُ أربعة أيام. فالشرق حسبها شكل والغربُ شكل آخر. ولما كانت سبعة أسابيع تُكَّون 42 يومًا، بدون الآحاد، نقَّصَ الغربُ، الطقس اللاتيني، يومين منها فبدأوا الصوم يوم الأربعاء عوضَ الأثنين. أما أغلب الشرقيين فنقَّصوا من الأخير يومين هي جمعة الآلام وسبت النور. ولكن لا تحسب، كما نوَّهتُ، كلُّ الكنائس الشرقية الأُمورَ بهذه الطريقة. رُبَّما تكون أغربُها كنيسة المشرق الكلدوـ آثورية.
تعُّدُ الصومَ نعم “أربعين يومًا”، وتحسبُ الآحاد عدديًا من ضمنها رغم أنها لا تفرُضُ فيها الصوم إحتفاظًا لخصوصيتها أنها ذكرى قيامة المسيح وتجديد الخليقة. ويُشَّدد تعليمُها على الفرح والأبتهاج فيها، روحيًا ومادّيًا. الأحد الأول دُعيَ ” المدخل الى الصوم”. وقالت فيه الصلاة:” إخوتي هوذا صوم الرَّبِ دخل وحَلَّ في بيوتنا. لنخرج للقائه بفرح. بلغ صومُ رّبِنا وبيده إكليلُ المجد للذي يصومُه بنقاء ويُطَّهرُ الجسد والنفس”. ويرُّدُ عليها المؤمن: “أَّهلنا يا رب لنذعن لصومك بنقاء”. كان الصوم، أيّام الآحاد، جاريًا ومسموحًا به بهدف روحي إلى أن ظهرت هرطقة تُنَّجسُ الأحد إذ تَدَّعي أنْ فيه تقعُ نهاية العالم فـتدعو أتباعها الى الصيام و الحزن وآحتقارَ الأحد. فكان ردُّ فعل الكنيسة الرسمي سنة 430م أن حرمت الصيام في الآحاد، وقضت بذلك على الهرطقة. ولمَّا إنقرضت الهرطقة سَمحت كنيسة المشرق من جديد لأبنائها، في القرن الحادي عشر الميلادي، الصيام في الآحاد لظروف خاصَّة وبنيّةٍ روحية مستقيمة. وهكذا : حسبت الأسابيع الستة الأولى 42 يومًا فحذفت منها يومي الجمعة والسبت، فأصبحت 40 يومًا ودَعَتها رسميًا ” صومَ الرب “، حتى قالت صلاة ليوم جمعة لعازر” يا رب لقد بدأنا وأنهينا صومَكَ “. وكررتها في اليوم التالي. والأسبوع التالي أقامته صومًا للمؤمنين الذين تعَّلموا من معلمهم أن يصوموا ويتغَّلبوا على التجربة. فدعتهم الى الصيام قائلةً :” لنَصُم لله صومًا مُمَّيزًا “. وتعقُبه بطلبة :” ليكن صومُنا مُرضِيًا لحنانك “. إعتبرت السعانين عيدًا خارج صوم الرب. وفي ثلاثاء الآلام قالت الصلاة :” يا رب إقبَل صوم ساجديك من أجلك “. وفي سبت النور أنهت الصلاة بـ” يا مًخَّلِصَنا إقبل صومنا مع صوم الأنبياء والرسل “. هكذا صار الصوم خمسين يومًا، أربعين منها إحترامًا للمسيح ومعه، والتسعة الأخيرة إقتداءًا به وللتكفير عن الذنوب.
ورماد الطقس اللاتيني من أين جاءَ ؟
ذكر الكتابُ المُقَّدس عن أصوام رافقها إستعمالُ ” المِسحِ والرماد”. إستعملها دانيال(9: 3) والشعب في زمن نحميا (9: 1)، وأهل نينوى (يو3: 5-8)، وحزقيال (27: 30). ودعا إليها إرَميا (6: 26؛ 25: 34). إنما أتت كلُّها في وقتٍ محدد ولمرة واحدة، ولم تتكَرَّر ولا نُظِّمت كرتبةٍ يُعاد إستعمالها كلَّ سنةٍ. توجد رتبَةُ صوم جماعية ليومٍ واحد دون رمادٍ أو مسوح، إنمَّا مع التذلل والصلاة في يوم” الغفران” أو” كيبور” أي التكفير عن الخطايا (أح 16: 6-22؛ 23: 26-32). عدا هذه أتت كلُّ الأصوام حزنًا وندامةً على وضعٍ سَيِّءٍ قائم، وتوبةً لعَّل اللهَ يُجَّنبُ شَرًّا يلوحُ في الأُفق أو يُهَّددُ أشرارًا، شعوبًا ومُدنًا بالإِبادةِ. وتُستعمل و سائل التوبة، تواضُعًا وتذَّلُلاً، كالآتي: المِسحُ يَلبسونه عوض الملابس الفاخرة، والترابُ يَذُّرونه على الرأس عوضَ الدهون والعطور، والرمادُ يجلسون عليه ويتمَّرغون به عوض الأرائك و العروش، يسبحون فيه عوض الحمَّام. لم يذكرْ أيُّ نَّص من المذكورة ذَرَّ الرماد على الرأس.
إِنطلاقًا من روحية التواضع والتذَّلل والندم والتوبة أدخل البابا غريغوريوس الأول، سنة 591م في الخدمة الألهية، عادة تكريس رماد أغصان الزيتون المستعمل للسعانين في السنة السابقة، ومزجها مع الزيت، بها يرسم المحتفل بالذبيحة الألهية صليبًا على جبين المؤمنين ” ليفهموا أنَّهم مؤَّقَتون” ضيوفٌ على الحياة الزمنية ينتظرُهم الموت، وأنَّ عليهم” أن يهتدوا بتغيير الفكر و الحس”، لأجل نيل الحياة في المسيح. ويقولُ ” إِهتدوا، وآمنوا بالأنجيل” (مر 1: 15 )، أو ” تذَّكر أنَّك ترابٌ وإلى الترابِ تعود ” (تك3: 19). وأول صلاةٍ لتكريس الرماد ترتقي الى القرن الحادي عشر، زمن البابا أوربانوس الثاني (سنة 1091م) الذي طلب أيضًا تعميم العادة على كل الكنائس اللاتينية الكاثوليكية، ربَّما حتى الشرقية منها. و كانت العلاقة في ذلك الزمن مقطوعة بين روما والكنيسة المشرقية المنعزلة في طقوسها فلم تتبَّنَ رتبة الرماد في صلاتها عند بدء الصوم. تحوي صلاتها فقرات توبوية طوال الصوم وليس فقط في اليوم الأول. ومنذ الأحد الأول للصوم تنادي المؤمنين ” صوموا وصَّلوا و آعطوا صدقة “. وعن الصيام عن الشر، العنصرالضروري والمُكَّمل للصيام عن الطعام، قالت ترنيمة في منتصف الصوم :” أعِزّائي: صومُنا آنتصَفْ، نَصِّفوا الذنوب : لمَّا ينتهي تُنهون العيوب * بالصومْ والصلاةْ، أزيلوا الخطوبْ : والرَّبْ يُعينْ مَن، بالصِدقِ يتوبْ “.