جاءَ خيرُ الشهور ” تقول ترتيلة خاصّة بشهر مريم. وقد تمَ تخصيصُ شهر أيار لتكريم مريم على يد البابا إينوسان 11 (1676-1689) رّدًا على الأفضال التي أبدتها مريم تجاه البشرية لاسيما المسيحيين. لقد أنقذت أوربا مرتين من خطر الغزو العثماني. كما سبقَ و أنقذتها على يد الرهبنة الدومنيكية من خطر هرطقات دينية عصفت بها كادت أن تُمَّزقَها.
تعطيني الطوبى جميعُ الأجيال ، لمــاذا ؟
مهما غالت البشرية في تقييم مكانة مريم وتكريمها ، إلا إنها لن تبلغ مستوى إيفاءِ دينها لها ولا تعظيمها أكثرمما يليق بها. ليس الأنسان مصدرَ تقديرها ولا الحاكمَ في قياس إستحقاقها. إنه الله الخالقُ نفسُه الذي مَّيزَها من دون البشر وشَّرَفها بمقام فريد من نوعه لا يقوى أحد حتى ولاعلى الحلم به. ” إنَّ القديرَ صنع بي عجائبَ “!. لقد تواضعت أمامه :” أنا أمة الرب “. أما هو فرفعها فوق الخلائق كلها، :” ستلدين ابنا يكون عظيما، ويدعى ابنَ العلي .. يملكُ .. ولن يكون لملكه إنتهاء “. منها يولد الله في جسدِ ناسوتِه. لقد أصبحت ” أمَّ اللـه “!. وهل يفوقه تكريمٌ ؟ بل وحتى يوازيه ؟. فما تكريمُ البشر لها إزاء العظمة التي منحها لها؟. وإن كان الله عظَّمَ مريم بهذا الشكل فمن يكون الأنسان حتى لا يُكَّرمَها؟. وهل له فضلٌ إذا فعله ؟ لا أظن. بل إذا لم يفعله سُيقَّصرَ لا فقط بحقها هي بل وبحق الله أيضا، بل وسيخطأ لأنه يُقَّللَ من شـأن من رفعه الله. ” الربُّ معك” قال لها الملاك!.
لم يكتفِ الله بهذه المنحة الفريدة والمتمَّيزة. بل حتى تتحقق كَّرمَها أيضا بما لم ينعم به على غيرها ألا وهي نعمة ” صيانتها من لكَّة الخطيئة الأصلية وجرحها ” بحيثُ تمَّ الحبلُ بها بدون أن تمُّسَها آثارُ خطيئة ابوينا الأولين ، فوُلِدَت في حالةِ البرارة الأولى مثل آدم وحواء. وأضافَ مكرمة ً ثالثة وهي نتيجة حتمية للأمتيازات السابقة ألا وهي أنه لم يدع جسمها يفسد ولا أن يبقى في القبر بل مجَّده حال وفاتِها ، كما حصل لجسد يسوع ، ونقله الى السماء. وهل مجـدٌ أبهى وأجَّلَ من مجدها ، عدا مجد الله ؟. وهل يقدرُ إنسان أن يطمع أو حتى يحلم بهذه الأمتيازات؟. رغم ذلك ظلت في حياتها على الأرض مختفية كزهرة البنفسج بين أعشاب الحقول؟. أما يحُّقُ لها أن يرفعها المؤمنون على مذابح المجد؟. مع ذلك لم يكن ما قالته مريم ، في نشيدها بأن سوفَ يعطيها الطوبى جميع الأجيال مُطالبة ً بحَّق ، بل رؤية نبوية بقوة الروح القدس بمكانتها وبسلوك المسيحيين نحوها.
يا آمـرأة ” هوذا إبنُـكِ ” !
إننا نؤمن أنَّ يسوع ” وحدَه الوسيطُ بين الله والناس ” (1طيم 2: 5) لأنه لا يوجد ” اسمٌ آخر تحت السماء أُعطيَـهُ الناس نستطيعُ به أن ندركَ الخلاص ” (أع4: 12). لكننا نؤمن أيضا كما أنَّ ” زَّلة إنسان واحد – آدم وحواء- جَّرت الهلاكَ على جميع الناس ، كذلك برُّ إنسان واحد – يسوع ومريم- يأتي جميعَ الناس بالبر الذي يهب الحياة ” (رم5: 18). الثنائي الأنساني الأول تمَّردَ على الله ، والثنائي الأنساني الثاني أطاعَ الله. الأنسان كله أخطأ ، والأنسان كله تابَ وكَّفر. لم تكن حواء فقط إبنة آدم بل شريكته أيضا في العصيان. لم تكن مريم فقط أمَ يسوع بل شريكته أيضا في طاعة الله والتألم بدفع ثمن الخطيئة. كما هيأت حواء جَّوَ العصيان وتعاونت مع آدم في المخالفة بالمقابل هَّيأت مريم جَّوَ الطاعة وتعاونت مع يسوع في التضحية. لقد أدت مريم الدور المطلوب منها لتُسَّهل مهمة يسوع الفدائية ، لذا فهي شريكته في فداء البشرية.
مريم هي ” المرأة ” الواقفة بجانب يسوع ، تعينه ، فترشدُ الرسل وتقودُهم اليه ، ومنه إلى الآب. ولا أحد يذهب الى الآب إلا بيسوع الذي هو الطريق إليه (يو 14: 6). ومريم هي الطريق الى يسوع. ولذا سَّلم يسوع إخوته المؤمنين ، في شخص يوحنا ، إليها فقال : ” يا آمرأة هوذا إبنُك “، مضيفا قوله ليوحنا :” هذه هي أمك “. كما إهتمت مريم بيسوع ، و يسوع يتابع رسالته الفدائية الى نهاية العالم ، هكذا ثبَّتَ مريم في وظيفتها أن تعينه حتى ينتهي العالم. إنها أُمٌّ أبدية وشريكةٌ تمتدُ خدمتها عبر الأجيال والأزمان. لذا لا نستغرب إذا كان المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني قد كَّرمها بوسام جديد فأجزلَ عليها لقبَ” أمّ الكنيسة “. وهذا هو ما يُفَّسرُ عناية مريم بالكنيسة وآهتمامها أكَّدته في ظهوراتِها عبر التأريخ. و لم يخلُ ظهورٌ دون أن تعطيَ توجيهاتٍ أو تذَّكرَ بتعاليم الرب. بالإضافة إلى معجزة الشفاءات العديدة لأنواع الأمراض التي تنهكُ الأنسانية ، لاسيما أمراض الأثم و الشر والفساد التي ندَّدت بها و وصفت دواءَها بالصوم والصلاة كما سبق و وصفه الرب نفسه (مر9: 29).
عــبادة > أَمْ < تــكريم ؟
يعترضُ البعضُ ويَّتهمون الكاثوليك بأنهم يُشركون مريم مع الله في العبادة. لما قالت الكنيسة أنَّ مريم شريكة في الفداء لم تقل أنَّها أصبحت ” إلهـة “. ولم تقل أنها هي فدت البشرية إذ صالحت بينها وبين الله. ولم تقل إنَّ مريم هي التي تحاسبُ الناس. بل قالت أنها تعاونت مع يسوع في عمله الفدائي فتابت وأطاعت و ضَّحتْ. قالت بأنَّ اللهَ مَّيزها وعَّظمها بآمتيازات كانت للمسيح فقط. ولاسيما أنها مهتمة بخلاص البشرية وتعمل كلَّ ما بوسعها لتحريرهم من قبضة الشر وتوجيههم نحو محبة الله فالحياة الأبدية.
هذا يستحق منا نحن الذين تصُّبُ إهتمامها بخلاصنا، أن نقَّدرَ موقفَها ومحبتها وحنانها و نقابلها بعرفان الجميل، لاسيما بالأقتداء بسيرتها. فمهما بلغَ تكريمنا لها فهو ليس عبادة لأننا لا نسجد لها كما لله ، ولا نضعها مكان الله. بل كل الصلوات والمدائح الرسمية تحاول ان تصف مناقب مريم وتشجع على السلوك مثلها و تسألها أن تهتم بنا كما بيسوع نفسه. تمجيدنا لمريم لن يبلغَ قط مستوى تمجيد الله لها. صلاتنا اليها لن تبلغ قط قوة سؤال الملاك لها هل توافق أم لا على مشروع الله بتجَّسده منها!. وإذا كانت كلمة ” عبادة مريم ” إستعملها البعض أو تصدرت عنوان بعض الكتب في زمن مضى فلم يكن مطلقا بمعنى ” عبادة السجود “. فإنَّ كلمة عبادة تعني أصلا في أغلب اللغات ” المحبة العظيمة “والتقدير حدَّ بذل الذات عوض المحبوب. وأن يُحبَّ المؤمن أمه السماوية بشدة ليس أمرا منكرًا ، وأن يعترفَ بفضلها أنها أدَّت دورها بدقةٍ وسُّمو ليس كُفرًا، وخاصّة أن يقتدي بها في محبة الله وحفظ وصاياه ومحبة القريب كنفسه، فتلك مشيئة الله نفسه.
و الــورديــة ؟
وصلاةُ الوردية أحَّبُ صلاةٍ اليها. لا لأنها مُوَّجَهَة ٌ اليها وتمدحُها، بل لأنها تأملٌ في حياةِ إبنها. ولأنها تحّـيةٌ سماوية أدّاها الملاكُ ، وتحّية أرضية أدَّتْها الكنيسة. ومن لا يفتخرُ بتحية السماء له وهل ينزعجُ من تكرارها؟. وإنَّ عدد السلام ، البالغ حاليا الى 200 ، ليس تكرارا بقدرما يُشكلُ أجزاءَ صلاةٍ واحدة. المسبحة كلها ، في أقسامها الأربعة ، تشَّكلُ إكليلا واحدًا يُضفرُ حولَ هامةِ مريم. وكلُ سلامٍ فيه زهرة ٌ مختلفة عن جاراتها لها لون خاص وعطرٌ مُمَّيز. فلو قَّبَلَ طفلٌ أمه مئاتٍ المرات لا فقط لا تنزعج الأم بل تهنأ وترتاح. لأنَّ كلَ قبلةٍ تحملُ اليها كمية جديدة من الحب الصافي البريء. هكذا حال السلام الذي يُرَّددُها المُصَّلون فهو عطرٌ جديد يحملُ نفحا خاصًّا من المحَّبة. ويتكَّون هكذا اكليلُ مجد مريم من حُّبِ أبنائِها المختلف الألوان والأشكال.
وقد عَّبرتْ مريم رضاها عنه وآرتياحها اليه. ففي ظهوراتها خاصة في لورد وبرتغال كانت مريم ترافق الرؤاة في تلاوة أبانا الذي .. والمجد للآب .. أما عند تلاوة السلام الملائكي فكانت تبتسمُ مضمومة َ اليدين. وأكثر من ذلك هي طلبت من الرؤاة أن يبَّلغوا الناس لتلاوة الوردية وألَّحت على ذلك. فمن ينزعجُ من تلاوة الوردية ليست مريم ، بل هم أولئك الذين لا يتذوقون تلك الصلاة ولا يفهمون عمقَ تعليمها الكتابي عن يسوع. أو هم الذين لم يتذوَّقوا حلاوة طعم أمومةِ مريم ولا عرفوا يومًا هذه الأم السماوية !. يا للخسارة !!!.
مريم سلطانة السلام !
وما أحوجَ عالمُ اليوم الى السلام. نالت مريم هذا اللقب بعد أن نالت للكنيسة والعالم السلام بإنهاء حروبٍ وإسقاطِ أنظمة عادت المسيح وأضطهدت المسيحية. فسنة 1571م أنقذت روما من هجوم الجيش العُثماني على يد السلطان سليمان القانوني. وبعد مائة عام اى سنة 1683م أنقذت فيينا من الحصار العُثماني. وبعد أقل من ستين عامًا آخر أى سنة 1741م أنقذت مريم الموصل من الهجوم الفارسي. وبعد ذلك بمائتين وخمسين سنة أى سنة 1990م سببّت إنهيارَ الألحادِ الرسمي وعودة روسيا الى الأيمان. كانت قد وعدت بذلك سنة 1917م وطلبت تلاوة الوردية على تلك النية.
وإن نسينا أمرا فلا ننسى كيفَ أنَّ الصلاة الى مريم في عشية عيد ولادتها7/9/2013 أنقذت سوريا من حرب مؤكدة كانت معداتها تتطاير بين أيدي المحاربين وأسلحتها تلعلع وتؤَّززُ على مشارف الحدود. لقد وصفت مريم نفسها في إحدى ظهوراتها أن أمر السلام قد أوكله اللهُ إليها.
خيرُ الشــهور !
يذكرُنا شهر أيَّــار بهذا كله. فهو حَّـقا خيرُ الشهور. لأنه يضعُنا على الدرب المستقيم في إيماننا ، ويقَّدمُ لنا أفضلَ نموذج ، حياة مريم ، لسلوك آدابٍ إنسانية ومسيحية من شأنها أن ترفع البشرية الى مستوى حياة الله. ولاسيما يُطلعنا على عناية مريم الوالدية بنا وبحاجاتِنا الى حَّدِ إجراءِ آلاف المعجزات لسند إيماننا وتبريرِ رجائِنا بالحياةِ الأبدية. وإن كان الرب يسوع قد قال : ” لا تدعوا أحدًا أبًا لكم على الأرض ،لأنَّ لكم أبا واحدا هوالآبُ السماوي” (متى23: 9)، فالكنيسة تقول لنا : لا تُهملوا أمكم السماوية لأنها وحدها تقدرُ أن تغيثنا ، و
“بإمكاننا أن نودعها كل همومنا وطلباتنا. فهي تصَّلي من أجلنا ” (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ، رقم 2677).
! لنتأملْ حياتَها ، ولنتعَّلمْ منها ، ولنقـتدِ بسلوكها ، ولنلتـجيءْ الى عـونها !
// لنُحّبها حبًا بنويا ، ولنُكَّـرمْها إكراما عفـويا ، ولنُصغِ إليها جِـدّيًا \