أهلا وسهلا بالصديق الكريم وبكل القراء الأعّزاء.
سألني صديقٌ أبى ذكرَ آسمِهِ عن بعض المفردات المستعملة للدلالة على أقسام مختلفة لأزمنة معينة من السنة الكنسية. قال : نسمع في التوصية أو نقرأ في الأعلانات أو الكراريس ، و لاسيما في برامج الأحتفالات الدينية، أسماءَ وتعابيرَ ، مثل : سابوع، بشارة، صوم، صيف، ايليا وغيرها ولا نُدركُ فحواها. وطلب أن أساعدَه، إن أمكن، وأساعد القُرّاءَ الكِرام أن يقفوا على معاني تلك العبارات، ولعَّلَ في زيادة المعرفة ثقافةً وفائدة تُغْني. وأضاف: ومن حَّقِنا نحن المؤمنين أن نتعَّلمَ ما يعرفُه الآباء الكهنة. إذ أولاً ليس العلمُ حِكرًا على أحد، وثانيًا لأنَّ التنظيمَ المفهوم يساعد على الأستفادة المُضاعفة.
السنة الزمنية !
جاء في الكتاب المقدس : ” قال الله: ليكن في جلد السماء نَيِّراتٌ، تفصلُ بين النهار والليل، وتشيرُ إلى الأعيادِ والأيام والسنين .. فصنع الله الكواكب و النَّيِرَين العظيمين الشمسَ لحكم النهار، والقمرَ لحكم الليل،.. لتُضيءَ على الأرض .. وتفصلَ بين النورِ والظلام ..”(تك1: 14-19). هكذا بدأ الزمن وفيه : ثوانٍ ودقائق وساعات، وأيام وأسابيع وأشهر، وفصول و سنين. يقدر الأنسان بواسطتها أن يُنَّظمَ حياتَه وعمله وراحتَه حسب التقَّلُبات المناخية و البيئية المختلفة التي تتعاقبُ خلال المدة الزمنية الواحدة، السنة، وهي دوران الأرض حول الشمس لمرةٍ واحدة، قبل أن تكَّملَ دوَرانَها وتسجلَ سنة وراءَ سنة ، وهكذا يتواصلُ الزمن. وتقدُّمُ الزمن يُسجلُ بدءًا لكائنات أو أعمال، ثم نُمُّوًا ثم آكتمالاً وأخيرًا نهاية. وبهذا حُدِّدَت الأعمار وقيست الأشغالُ وقُـيِّمَتْ الجهودُ وأثبِتَت الأحداث و صُنِّفت الحياة.
السـنة الدينـية !
وعلى غرار السنة الفلكية إستغَّلَ الأنسان الزمنَ لتنظيم حياته الروحية وعلاقته بالله. عاملُ الزمن حيويٌ للأنسان لقضاء حياته الحسية الجسدية. أوحى اللهُ الى الأنسان المؤمن أنَّه بوسعه إستغلال الزمن لتقوية علاقته معه تعالى. فأوحى الى موسى تكريس يومٍ واحد من كل سبعة أيام للراحةِ والعبادة. وأوصاه تنظيم طقوس دينية في فترات معّينة ومحددة خلال السنة كي يستمرَّ الأنسان في تغذيةِ حياتِه من فكرالله وإرادتِه والتمَّسكِ بوصاياهُ وشريعتِه. فبعدَ تكريس يوم السبت ، يوم واحد من كل سبعة أيام، طلب الله تكريس سنةٍ واحدة من كل سبعة أيام لإراحةِ الطبيعة نفسها وإراحة البؤساء والوحوش بتوفير غذاءٍ لهم دون تعب. ثم أتبعَ ذلك طالبًا الأحتفالَ بأعيادٍ سنوية، ثلاث مراتٍ كل سنة : عيد الفطر أو الفصح في نيسان من كل سنة، وعيد الحصاد بعد جمع غلات الصيف، ثم عيد المظال بعد جمع غلات الخريف. يبقى الهدف منها الأحتفاظ بالعلاقة مع الله في عبادته بنوع خاص ولاسيما بعدم النسيان بأنَّ حياة الأنسان وخيراته كلها مكرمةٌ من الله ليس إلا (خر23 : 10-17).
السنة المسيحية !
مع المسيحية ثبُتَ هذا النوعٍ من تكريس الزمن. وأخذ أبعادًا أوسع وأعمق. فقد ربطت الكنيسة الزمن بعمل الله مباشرة، وبتدبيره لخلاص الأنسان، من الوعد بإقامة المخلص، وآختيار شعب يحتضنه، وسنِّ شريعة تقود الشعب في سبل الله، وإقامةِ أنبياء وأولياء يعضُدون مسيرة الشعب، ويلمحون إلى كيفية مجيئه وحياته ومصيره، ومصير رسالته الأبدية بتشكيل مملكة الله على الأرض ، مملكة الحق والحب والغفران ، ومسيرة تلك المملكة ـ الكنيسة ـ في العالم. وأقامت الكنيسة أعيادًا وسَّنت أنظمةً وطقوسًا بها تُذَّكرُ أبناءَها بحياة المخَّلص ، بأحداث حياته وتعليمه لتبقيه حَّيًا في فكرهم و قلبهم، وتسندُ بذلكَ جهادَهم وتُعَّززُ شهادتهم.
السنة الطقسية !
لكل كنيسة نظام طقسيٌ خاص تعيش من خلاله، حسب بيئتها وحضارتها، التدبير الخلاصي من جهة، ورسالتها في مهمة الشهادة للمسيح ومساعدة الشعوب على الخلاص. هذه هي الرسالة الأزلية الأبدية التي كلَّفَ بها الله شعبَه قديمًا وجديدًا. قال قديمًا:” جعلتُك عهدًا للشعوب و نورًا لهداية الأمم “(اش42: 6؛ 49: 6). إنها رسالة المسيح الذي يحتوي الكون كله والتاريخ، فهو نفسُه ” نورٌ لهداية الأمم” (لو2: 32)، كان على شعب العهد القديم أن يُعَّرفَ به، وعلى شعب العهد الجديد أن يقودَ البشرية كلها إليه ،” وتكونون لي شهودًا في أورشليم واليهوديةِ كلها والسامرة ، حتى أقاصي الأرض “(أع1: 8). يسوع المسيح مركز التأريخ ، وعامل الخلاص الوحيد إذ ” ليس اسمٌ آخر تحت السماء وهبَه الله للناس نقدرُ به أن نخلصَ “(أع4: 12).
الكنيسة هي المسيحُ السّري وأبناؤُها هم تلاميذه رسُلُ كلِ زمانٍ و مكان. ومهمتها أن تثَّقِفَهم وتُكَّونَ منهم أشباه ليسوع، ممتلئين من فكره و روحِه، يقودون البشارة بعلمهم وينيرون دربَ الخلاص بشهادةِ حياتهم. فخططت لنظام يساعد أبناءَها على فهم شخص المسيح و آستيعاب رسالته وفهم مهمَّة الكنيسة والدخول في معمعتها وأداء جهادِها. وآتخذت السنة الزمنية لتُطَّعمَها بأحداث الخلاص التأريخية وتُغَّلفَها بثوب الأخلاق المسيحية وتقودَ المؤمن من خلالها الى العيش الملائم للتعليم اللاهوتي فتضمن له الحياة الأبدية. تعرُضُ الكنيسة على أبنائها وتذكرهم بأحداث وأوقاتٍ أساسية وتدعوهم الى الأغتذاءِ منها والأمتلاءِ من حضور المسيح فيهم. فيكون المسيح رفيقَ دربِ خلاصهم ويكون كل واحد منهم التلميذ الثاني على طريق عماوس يُكَّملُ مسيرة حياتِه معه (لو24: 13-17).
الطقسية الكلدانية !
نظَّمَ السنة الطقسية، بعد اختبارات وممارسات سابقة، البطريرك ايشوعياب الثالث الحديابي (650-658م) وقَسَّمَها على غرارالسنة البابلية أو الكلدانية الى ثمانيةِ أجزاء سَمَّاها سوابيع. وكل” سابوع ” منها يتكوَّنُ ، مبدئيًا، من فترة ” سبعة أسابيع”. من الممكن أنه إستوحى الفكرة من سفر الأحبار الذي يتحدَّثُ عن سابوع وسوابيع ،” سبعَ سنين سبعَ مرات”(أح25: 1-8). وتضافُ اليها فترة سابوعين كل واحد منهما من أربعة آحاد أحدهما في بداية السنة والآخر في نهايتها. وأعطى لكل سابوع اسمًا إستوحاهُ من مضمونه التعليمي اللاهوتي. أليك السوابيع :
1- سابوع البشارة { 4 أربعة آحاد ، صليبٌ الأيمان والجهاد في بدء السنة } يُضافُ اليها أحدان للميلاد.
2- سابوع الدنح { 7 سبعة آحـاد. إنما تقُّلُ حسب موقع عيد القيامة. وتُصبحُ أحيانا نادرة ثمانية آحاد عندما تقع القيامة بعد 20 نيسان، مثل سنة 2011، لمَّا وقع العيدُ في 24 نيسان !}
3- سابوع الصوم { 7 سبعة آحـاد ثابتة }
4- سابوع القيامة { 7 سبعة آحـاد ثابتة }
5- سابوع الرسل { 7 سبعة آحـاد ثابتة }
6- سابوع الصيف { 7 سبعة آحـاد. إنما يحدُثُ فيُدمَجُ الأحد السابع بالسادس ويُصَّلى معه، كما حدثَ سنة 2011 بسبب : أولاً تأخير القيامة، و ثانيًا بسبب عيد الصليب{14/9} ، و وجوب بدء سابوع ايليا التالي قبل عيد الصليب }
7- سابوع ايليا { 7 سبعة آحـاد ثابتة. يُدمَجُ معها آحادُ أربعة تُدعى ” الصليب”، و تبدأ من الأحد الرابع لأيليا وتُصَّلى معًا، ذلك بسبب رمزها }
8- سابوع الكنيسة { 4 أربعة آحـاد، صليبُ الرجاء والأنتصارفي ختام السنة الطقسية} ولكن عند تقَّدُمِ عيد القيامة نحو شهر آذار، خاصَّة إذا وقع فيه، يحصَلٌ فراغٌ بين سابوعي ايليا والكنيسة بسبب التقليل من آحاد الدنح، عندئذٍ نظمَّ الطقس إضافةَ عددٍ من الآحاد، حسب حاجةِ كل سنة ، ودعاها ” آحاد موسى”. إنَّ موسى وايليا تجَّليا مع يسوع و يُهَّيئان لآنتصاره النهائي. ولا يُصَّلى منها أكثرَ من 2008م عندما وقع عيد القيامة يوم 23/3 ! وهذا ما يحدثُ نادرًا جِدًّا جِدًّا.
.|*|. إذا وقع َ عيد الميلاد أو الدنح أو الصليب يومَ أحد يُعتبر ذلك الأحد الأول للميلاد أو الدنح أو الصليب تماما مثل عيد القيامة أو العنصرة، ذلك لأجل الأسبوع الذي يليه. .|*|. بالنسبة الى سابوع الدنح يُصَّلى منه عدد الآحاد المتوفرة بين الدنح والصوم توافقا مع عيد القيامة. عند حذف آحاد أو إضافة آخر يُتلى الأحد الخامس دوما في الثالث قبل الصوم وتليه الباعوثة مباشرةً.
.|*|. الباعوثة تُصَّلى دومًا ثلاثة أسابيع قبل الصوم، في الأثنين الخامس للدنح.
.|*|. عند إضافة أحد ثامن للدنح، بسبب تأخر القيامة، يُسَّبق الأحد السادس للدنح على الخامس ويُصَّلى قبله
.|*|. بالنسبة إلى سابوع ايليا يجب أن يبدأ دوما قبل عيد الصليب (14/9). إذا تأخر عنه يُسَّبقُ الأحد السابع للصيف ويُدمج مع الأحد السادس ثم يُصَّلى الأحد الأول لايليا يليه عيد الصليب ثم الأحد الأول للصليب ثم الثاني لأيليا فالثالث فالخامس…
.|*|. عند تقدم القيامة نحو شهر آذار و وجود أربعة آحاد قبل عيد الصليب تصَّلى آحاد ايليا الأول والثاني والثالث والسادس ثم يُعيَّد الصليب ثم الأحد الأول للصليب.
ويصلى الباقون.
.|*|. الأحد الأول للصليب/الرابع لأيليا يُصَّلى دوما بعد عيد الصليب. وإذا وقع عيد الصليب يوم أحد يُعتبر ذلك الأحد الأول للصليب لأجل صلاة الأسبوع الذي يلي العيد.
.|*|. عند وقوع عيد الميلاد والدنح والصليب يوم أحد تقامُ صلاتهم من كل بد، لأنَّ العيد الماراني يتغَّلب على الأحد. لكن الأحد بذاتِه يُعتبرُ الأول من سابوعه لأجل صلاة الأسبوع الذي يليه.
.|*|. إذا وقد عيد الميلاد يوم أحد فسيقع رأس السنة أيضا يومَ أحد. مثل هذه السنة 2016. في الميلاد يُحسبُ الأحدُ الأولَ للميلاد، وفي رأس السنة يُحسبُ الثاني للميلاد. وفي هذا الأحد يُحتفل بعيد التقدمة المعروف بشمعون الشيخ، بينما في رأس السنة يُحتفلُ بعيد الختانة. يُحتفلُ بالعيدين إضطراريًا معا لأنه لا يمكن تحويله الى الجمعة التالية كالعادة المتبَعة لأنه يقع فيها عيد الدنح.
رمز السـوابيع !
1*_ البشــارة: تبدأ السنة الطقسية بسابوع الـ ܀” ܣܘܼܒܵܪܵܐ سـوبارا “܀ وهو فترة ” البشارات السّارة ” ، السابقة للميلاد : بشارة زكريا ومريم ويوسف وسمعان الشيخ ؛ كما هو فترة لقاءات الأيمان مع : ابراهيم وشمشون وصموئيل واليصابات وبوحنا المعمدان. إنها مناسبةٌ ودعوة الى الفرح لأنَّ الله حاضرٌ بين شعبه، يعملُ من خلاله وعلى يده لخلاص البشرية.
تحاولُ الطقوسُ بقراءاتِها وصلواتها وترانيمها والتعاليم المُبَّطنةِ فيها، والتوجيهاتِ التي تُبديها، إدخالَنا الى هذا الجَّو المُشَّبع بالأيمان والرجاء والفرح بحلول الله في حياةَ الانسان بشكل حيويٍ محسوس بالتجَّسد، فتدعونا وتُدَّربُنا للأيتعداد للحدث الجليل وقبوله والتفاعلِ و التجاوبِ معه.
تضعُ الكنيسة أمام أعيننا الفكرة أولاً ثم الظلَ الرمز، ثم الصورة الحقيقية والتأريخية في شخص يسوع المسيح، بحياتِه وتعاليمه، ثم تُـؤَّوِنُها أي تُمَّدِدُ الحقيقة إلينا، عبرَ الأجيال بشكل سِّري وبقوَّةِ الروح القدس، الذي يجعلنا نعاينُها ونشتركُ فيها وكأّنها تحدُثُ أمامَنا ” الآن” في اللحظة القائمة. نعاينُها ونحياها بالروح ونقبلُها بالأيمان.
خلق الله الأنسان للراحةِ والسعادة مشاركًا إيَّاه في حياتِه وخيراتِه. أخطأ الأنسان و خسرَ نعمتَه. لم يُعاقبْه الله. بل وعدَه بأن يُخَّلِصَه على يد الأنسان ويعيده الى مجده وهنائِه. ثم هَيَّأَ لذلك. وها هو الآن يفي بوعده. لقد تَمَّ مِلئُ زمن الخلاص. وها هي الكنيسة ” تُبَّشرُ” العالم بذلك. إختار الله ابراهيم ليُهَّيِئَ بواسطته شعبًا يولدُ المخَّلصُ فيه. يُقيمُ بيتَ شعبِه على أساس الأيمان. ويبنيه بالأيحاءات والنبوءات، ويجري المعجزات على أيدي الأنبياء وقادةٍ أبطال ليُذّكيَ جذوة الأيمان فلا يُطفِئَها إلحادُ البشر وفسادُهم.
وكل الشخصيات المذكورة تنعمُ بفضل خاص من الله ويعملُ فيها الله بشكل إعجازي ليدُّل على أنَّ ما يحدث هو فعل الله مباشرة وبإرادته وقوتِه حتى لو انَّه يتحقَّق بواسطةِ البشر. و يُشيرُ بذلك الى أنَّ عملية خلاص الأنسان، مثل خلقه، هي فعلٌ ألهي محض. الفرقُ الوحيد أن الخلقَ تمّ بلا إرادة الأنسان وتعاونه، أما الخلاص فبقبوله وتعاونِه. هكذا ستقبل مريم أن تكتملَ فيها مشيئة الله وتتعاون هي معها حتى تكتمل، وكذلك يوسف والمعمدان.
لقد بَلَّغ الملائكة في العهد القديم إرادة الله وأعماله وتقَّيدُوا بتنفيذ أوامره. كذلك يستمرُّ الملاك في العهد الجديد في إبلاغ البشرية ما تفعله السماء وما تطلبه من البشرأن يتجاوبوا معه. أما الأنبياء فدورهم أن يُذّكروا بوعد الله فلا ييأس الناس ويكشفوا لهم زمن تحقيق الوعد وكيفيته فيستمروا في آنتظار الخلاص. ولما يولد الله إنسانًا تعلنُ الملائكة للناس أنَّ الوعدَ قد أوفيَ و المخلصُ الموعود حَّلَ بين البشر.
تمَّ الحدثُ في الزمن، خطأُ الأنسان وخلاصُه، مرَّةً واحدة، وفي مكان واحد. لكنه يمتَّدُ الى كل إنسان، في الزمان والمكان؛ :” كما ساد الموتُ البشربخطيئةِ إنسان واحد.. وآدم صورةٌ لمن سيجيءُ بعده. فكما قادت خطيئةُ إنسانٍ واحدٍ البشرَ الى الهلاك.. كذلك بِرُّ إنسان واحد يُبَّررُ جميعًا فينالون الحياة “(رم 5: 15-18).وكما لم تتكرَّر الخطيئة جسديًا وحرفيًا، بل إنتقلت بالطبيعة، هكذا لن يتكَررَ التجَّسُد في كل إنسان، بل تمتَّدُ ثمارُه الى كل واحد بالطبيعة الألهية التي يلبسُها الأنسان بإيمانه بالمسيح وآنتمائِه اليه بالمعمودية (غل: 3: 27). فـيتمُّ الخلاص بعلاقةِ الله المباشرة مع كل أنسان عندما يحُّلُ فعلاً فيه. لأنه عندما يتَّحدُ بالله المتأنس سوف يتألهُ هو إذ يشترك بحياة الله. فالأنسان هو في النهاية صورةُ الله والمسكنُ الأفضل للإقامةِ فيه (يو14: 23). واللهُ هو الهدفُ الأخير الذي فيه يكتملُ الأنسانُ الصورةُ في الجذع الأصيل. هذه هي عملية الخلاص الذي بشَّرَ به الملاك، وتنقلُه الكنيسة جيلا بعد جيل في تعليمها ولاسيما في طقوسها الليترجية.
2*_ الـدنــح: تنتقلُ الدورة الطقسية، مع عيد الدنح / عماد المسيح، الى فترةٍ جديدة هي السابوع الثاني من السنة. وكلمة ” الدنـح ” تشتَّقُ من܀ ” ܕܸܢܚܵܐ دِنْحا “܀ الكلدانية وتعني ” الشروق”. لما آعتمدَ المسيح ظهر على حقيقتِه وآنكشفت هويتُه فقد أشرقت شمسُ الحَّق والحقيقة للعالم. تجَّلى اللهُ في جوهرِ كيانِه الثالوثي الأبعاد. فهو الآبُ الوجودُ القدير، وهو الأبن الكلمة الحكيم، وهو الروحُ الحَّي الوديع.
تحَّددتْ في السابوع السابق، البشارة والميلاد، صورة يسوع أنه اللهُ المتأَّنِس ، وآبن الأنسان المخَّلصُ الموعودُ والمنتظر. لقد أعلنته السماء ، وعاينه الرعاة، وسجدت له ملوكُ الأرض. والآن يتجَّلى كشمس الحقيقة. وكما تُبَّددُ الشمسُ، بشروق أشِعَّتِها، كلَّ ضلالٍ وظلام وتخفي كلَّ نجمٍ وتحملُ الأمانَ والفرحَ والثقةَ والأمل، هكذا أشرقَ، بعماد المسيح، الحقُّ الألهي ، الأزلي والأبدي، والأملُ بخلاص البشرية، لأنَّ غيومَ الضلال السابق قد تبَّددتْ، وأمواجُ الفسادِ و الشَّر قد تكَّسَرتْ، وسلطانُ نجوم التعليمِ وقادةِ الرعب قد تلاشى. المخَّلِصُ قد سكن بين البشر وصار يُنَّورُ لهم طريق الفداءِ والحياة. وهذا الفداءُ يتمُّ بغفران الخطيئة (لو1: 77 ). والغفران يتطلبُ التوبة والتجديدَ. وقد دعا يوحنا إلى التوبة. ودخل يسوع، بآسم الأنسانية ، كخاطيءٍ مياهَ التوبة طالبًا الغفران للبشر، ثم دعا اليها . فالنداء الى التوبة هو أول كلامٍ وطلبٍ سَجَّلهُ الأنجيل على فم يسوع منذ فجر كِرازتِه.
التوبةُ تعني تقويمَ السلوكِ المنحرِف. وقياسُ التقويم والإصلاح هو” إرادةُ الله” وتعليمُه. و علامة التوبة وعربونُ الغفران هو المعمودية التي تشيرُ الى موتِ الحسّي الفاسد والسيطرةِ على الشهواتِ الغريزية، وتدُّلُ بالمقابل على القيامةِ بقوةِ الرب الى حياةٍ جديدة، الى تبَّني روحية تسمو بالأنسان الى كرامتِه الأولى، ونموذجُها اللهُ نفسُه في البِّر وقداسةِ الحَّق.
يسوع هو المتجَّددُ الأول في روح الله وأصبحَ هو معَّلمَ التجَّددِ الأمثل. لذا ترافقُ الكنيسة كلَّ خطواتِ يسوع، وتجلسُ عند أقدامه (لو10: 39-42) مصغيَةً الى كلامه وأمثالِه، منتبهةً الى أعمالِه ومعجزاتِه لتتعَّلمَ منه وتحملَ، بدورها، بشارة الأنجيل، مشعلَ نور الحق، وتعلنَه لكلِّ العالم شاهدةً للحق (متى 28: 19). وشهادة الكنيسة أن تُثَّقفَ أبناءَها وتُدَّربَهم على سلوك سبيل الروح (رم8: 4)، سبيل الحق والتجَّدد في روح الله (أف4: 22-24). ونحن كلنا قد إعتمدنا في الرب وبآسمِه وحملنا فينا وسمَه المقدَّس وآخترنا طريقَ التوبة، وقد أفاضَ علينا الروحَ القدس الذي حَّلَ عليه، لنؤَّديَ شهادتَنا، ولم يبقَ لنا سوى أنْ نحيا حسب تعليمِه مقتدينَ بنموذجِ حياتِه كما ترشدُنا اليه الكنيسة. وتقَّوي عزيمَتَنا شهادةُ المعلمين والقديسين والشهداء.
3*_ الصـوم: تنتقلُ الدورة الطقسية الى سابوع ܀ “ܨܵܘܡܵܐ صَوما “܀ ويعني ” الصوم “. إسمٌ على جسم. إنها فترة الصيام إستعدادًا لعيد القيامة. هذا السابوع يقودنا إلى إمتلاك الحياة الحَّقة. يُدخلنا الى رفقةِ يسوع والأجتهاد في التجَّدُد بتغيير السلوك على ضوء التعليم الذي تلَّقيناه منه، و الذي نستمِّرُ في الأغترافِ منه. نحاولُ أن نتبعَ يسو فنختلي معه في البرية، منقطعين عن مشاغل العالم وحاجات الجسد ومهتَّمين بتحقيق ذواتِنا الأنسانية بإشعاع صورة الله فينا. ننعزلُ فكريًا عن الجَّوِ الدنيوي وعن عالم الحواس ليسهل علينا التأَّملُ في كلام الله والأمتلاءُ من روحه فنستعمل الوسائل التي إستعملها يسوع ،” الصوم والصلاة والصدقة”. أى نخرج عن قوقعةِ شهواتِنا وحاجاتنا اليومية ونسلك طريق الحَّق والبر والسلام ، نعبُدُ الله ونساعدَ القريب، تلبية لنداءِ الرب وآقتداءًا به وبرسله الأوائل.
إنفتاحُنا على غيرنا يقودنا الى محبةِ الله والأتحّاد به مع محبة القريب والأهتمام به. بالأبتعاد عن مغريات الجسد وملذاتِه وعن جاه العالم وخيراتِه نتحَّررُ من ضغط الشر علينا ونزدادُ صلابَة في مقاومة الخطيئة. هذا من جهة. ومن أخرى يدفعنا قربنا من الله والقريب الى علاقة جيدة وبنَّاءَة. ليس الصوم بمادتِه فقط أى بالأنقطاع عن الأكل. بل الصوم بهدفه وهو مقاومة الشر والتخَّلصُ من التصرفات الفاسدة التي نسلك فيها، ومن روح العالم المادي الذي يُغَّوشُ فيسودُ فكرنا ويملأ قلبنا. الله نفسُه أشار على الأنسان ، منذ زمن موسى، بآستعمال الصوم تكفيرًا عن الآثام وتذليلاً للنفس المتكَّبرة(أح 23: 26-32). ولاسيما للأهتمام بكرامةِ الأنسان الآخر وبخيره كما قال في إشعيا :” الصوم الذي أُريدُه هو أن تُحَّلَ قيودُ الظلمِ، و يُطلقَ المنسحقون، ويُنزعَ كلُّ نيرٍ عليهم. وأن تفرُشَ للجائع خبزَكَ، وتدخِلَ المسكين الطريدَ بيتَك، وأن ترَى العريان وتكسُوَه، وألا تتهَّرَبَ من مساعدةِ قريبِك”(اش58: 3-8).
فبالصوم إذن تدعونا الكنيسة، بنو متمَّيز في هذه الفترة، إلى الأنقطاع عن مغريات الجسد ، إماتتِه، للتغَّلبِ على التجاربِ التي نعنرضُ سبيلَ سلوك كما يريدُه الله. لا نتبع مشيئة رغبتنا ولذّتنا بل نقبل بمشيئةِ الله، لأنها هي الأحَّق والأفضل لتضمن حياتَنا. وبهذا نسلكُ كأبناءِ الله دربَ القداسةِ التي يدعونا اليها (1تس4: 3و7؛ طي2: 3)، والتي بدونها لا نستطيع أن نرى الرب (عب12: 14). فالصومُ أصبحَ وسيلة فعَّالة لضمان الحياة الأبدية مع الله. نمارسُ بالصوم الأرتفاع عن الحَّسيات للتشَّبثِ بالروحانيات والتشَّبهِ بالله، لأننا روحٌ مثلَه ومنه.
يتطَّلبُ منا الصوم الأنقطاع عن الطعام، والتطهير من الشرور فالتذَّلل (أح16: 29-32) و التوبة (متى3: 2؛ 4: 17؛ 6: 16) والصلاة والصدقة (متى6: 1-13؛ لو18: 1) ولاسيما التجَّددُ ” روحًا وذهنًا” بقوةِ الروح القدس (طي3: 5)، فنخلعَ منا الأنسان الشهواني ونلبسَ الجديدَ الروحاني المخلوق على شبه الله (اف4: 22-24). نستطيعُ أن نكَّملَ بالصوم مشيئة الله وأن نرضيَه، ونستَعِّدَ بذلك بشكل جيد، لأدراكِ سِرِّ الفداء. ونتعلم من يسوع كيفَ نموتُ عن ذواتِنا لنموتَ عن الشر، وكيف نحيا معه أبناءَ لله لنتقاسمَ معه مجدَه الأبدي.
يُذَّكرُنا الأحد الأول بأنَّ الصيام هو طريق الحياة ؛ والأحد الثاني بأنَّ الصلاةَ توأمُ الصوم وعربون الحياة ؛ والأحد الثالث بأنَّ الصوم دربُ التوبة وضمان النجاة يوم الدينونة ؛ و الأحد الرابع بأنَّ الصومَ نورٌ يضمن لنا معرفة الحق والبر الأصيل ؛ والأحد الخامس بأنَّ الزمن فرصةٌ لتصفية حسابنا مع الله بتقديس ذواتنا فنكون” دوما متيَّقظين وأحقاؤُنا مشدودة” ؛ والأحد السادس بأنَّ الموتَ حدٌّ فاصلٌ بين الخلاص والهلاك فيدعونا الى إضاءَة مصباح حياتنا بزيت المحبة والرحمة اللامحدود ؛ والأحد السابع، عيد السعانين يفتح أمامنا باب الفرح والرجاء إذ يفتتح أسبوعا كله أعيادٌ خلاصية نحياها بالأيمان والألم معًا.
4*_ القـيامة: ننتقلُ مع عيد القيامة الى سابوعٍ جديد هو ܀ ” ܩܝܵܡܬܵܐ قْيـامْتا ” ܀ ، ويعني القيامة. تقَّدمُ لنا الكنيسة يسوع منتصِرًا ممَّجَدًا. لمْ يقوَ عليه لا الأشرار ولا الموت ، وجَدَّدَ خِلقةَ الأنسان إذ أعاده الى الفردوس المفقود إبنًا عزيزًا وملكًا مجيدًا يخضعُ له الكونُ كله. نتأملُ حقيقة قيامةِ المسيح وتداعياتِها ومتطلباتِها. نلجُ نفق أضوائها ونستحِّمُ في نبع خيراتِها. فالقيامة تعني ” حياة جديدة لا تزول”. فتدعونا الدورة الطقسية، في الآحاد السبعة التالية حصرًا، الى حياةٍ جديدة ، حياةٍ حقَّة في المسيح ومعه. لقد تضامن المسيح مع الأنسان الخاطيء، ومات تكفيرُا وتعويضًا عن خطاياه. عكس أبينا آدم لم يطلب شهوة قلبِه بل أطاع الله، شخصيًا وبآسم البشرية كلها. صلبَ في جسده خطيئة الأنسان ومَزَّقَ صكَّ تمَّرُده على الله وقَوَّمَ إعوجاجَ إرادته الميَّالة الى الشَّر وحَرَّرَه من كلِ قيدٍ للسوء. وعَّلى راية المحبة والخير والغفران وعَلَّم الأنسان محَّبة الله والثقة به و الأتكالَ عليه. لقد صالح مع الله الأنسانَ والكون كله (أف 2: 15-16). أعاد للأنسان كرامتَه وبراءَته ضامنًا لكل واحد فرصة الأختيار، مضيفًا اليها خبرةَ الجهاد وقوة الأنتصار.
بقيامتِه المجيدة أقام المسيح الأنسان من سقطته و وَفَّرَ له الفرح والهناء منعِمًا عليه حياة جديدة هي حياة أبناء الله الذين يتقاسمون حياته تعالى وخيراتِه الأبدية، والتي لا أحد يقدر أن يحرمهم منها. ” هذا هو اليوم الذي صنعه الرب فلنفرح ونتهلل به “!. في البدءِ نفخ الله في الأنسان صورَته الروحية الخالدة (تك2: 7). وفي القيامة نفخ فيه روحَه القدوس وسلطانه (يو20: 22-23)، حياته الألهية فصار إبنًا و وارثًا (غل 4: 5-7؛ رم8: 17). إن كان آدم قد قوقعَ نفسَه ونسله على ذاتِه إلا إنَّ آدمَ الثاني، المسيح، فتح آفاقَه بالقيامة على الله وعلى الآخرين،” كان آدمُ الأنسانُ الأولُ نفسًا حيَّة ، وأما آدمُ الآخرُ فكان روحًا مُحيّيًا .. وكما لبسنا صورة الأرضي كذلك نلبسُ صورة السماوي”(1كور15: 45-49). لقد رفعنا المسيح معه الى المجد السماوي. هذا هو الجديد الذي حقَّـقتْه القيامة وختمته، هذا هو الخلاص الذي ضمنته.
كانت دعوةُ الأنسانِ منذ خلقِه أن يكون نديمًا لله وجليسَ مجدِه. خسر تلك النعمة بعدم تقديره محبة الله وتجاوبه معها. الآن إسترَّدَ بقيامةِ يسوع المسيح ذلك الأمتياز. ما فقده بالتمَّرد الأول إستعاده الآن بالطاعة. وكما ” جَرَّت زَلَّةُ إنسان واحد الهلاكَ على جميع الناس، كذلك بِرّ إنسانٍ واحد وهبَ جميع الناس الحياة “. لقد زال الضلال الأول وأشرق نور الحق. لقد جليَ الجهلُ وأشرقت المعرفة، ” كانت معرفتنا ناقصة ونبوءاتُنا ناقصة. فجاءَ الكامل وزال النا.