الأحـد الرابع للقيامة !

يـوم الدعـوات الكهنوتية والرهبانية

تتلى علينا اليوم القراءات : أع8: 14-25 ؛ اف1: 15 –2: 7 ؛ يو16: 16-33

الرسالة : أف 1 : 15 – 2 : 7

القيامةُ حدَثٌ واقعي، لا خيالٌ ولا أُمنية، إنَّها حياةٌ تتواصلُ وتتجَدَّدُ كلَّ يوم. أحداثٌ الزمان تعبُرُ وتعتُقُ وتبقى ذكرًى لا غير في بطون الكتب، بينما تُعاشُ قيامةُ المسيح وتُنعشُ نفوسَ المليارات من الناس، كلَّ يوم، من خلال ذبيحة القداس. فالقيامةُ حدثٌ حَّيٌّ تنشُرُ أنوارَها و يُعَّبقُ عطرُها الذكيُّ تلاميذ المسيح أينما وُجِدوا، إذ يسنُدُ جهادَهم في صِراع البشر مع الشَّرِ و عملائِه. وتُعتبَرُ القيامةُ، في الأيمان المسيحي ، لولب الوجود وحجر الزاوية الذي عليه يبني المؤمن أوّلاً صرحَ حياتِه الزمنية والأبدية، ويُقيمُ ثانيًا بُرجَ خلاص البشرية. و لولا القيامة لبقي المسيح فقط قائدًا ورمزًا دون حضور فعَّال، لا يقوى على غير تحفيز العقول بتعليمه مثل بقية عُظماء العالم. بينما يتمَتَّعُ المسيح بالسلطان في الكون أن يَأمرَ كلَّ ما يشاء فيتحَّققُ له. هذا ما أكَّدَه بنفسِه، بعدَ القيامة وكنتيجةٍ لها، لتلاميذه ، فقال : ” نلتُ كلَّ سُلطانٍ في السماءِ والأرض .. فآذهبوا وتلمذوا و عَمِّدوا وعَلِّموا..وها أنا معكم طوالَ الأيام، إلى إنقضاءِ الدهر ” (متى28: 19-20).

رفعَه فوقَ كلِّ شيءٍ رأسًا للكنيسة !

يتوَّجَه كلام المسيح مباشرَةً الى رسله وتلاميذه الذين قبلَهم إخوةً له وأَقامَهم شُركاءَ في مُهِمَّتِه لأجل الشهادة للحق، ولإبلاغ بُشرى الخلاص إلى الأنسانية جمعاء، في كلِّ مكان (أع1: 8)،” إلى إنقضاءِ الدهر”. ومن أجل أداءِ هذه المهمة شكَّل يسوع مع المؤمنين به فريقًا يعملُ بآتفاقٍ وتنسيقٍ وتنظيمٍ وتدبيرٍ وكأنَّ الفاعلَ شخصٌ واحد، إنَّه الكنيسة. مثَّلَ بولسُ هذه الجماعة ” بالجسم” ودعاها “جسَدَ المسيح ومِلْءَهُ “. فالكنيسة ليست مؤَّسسةً بشرية محضة. إنَّها مؤسسة إلهية ـ بشرية في آنٍ واحد. وإن كان الرسول قد دعا الكنيسة ” جسدَ المسيح”، وحَدَّدَ أنَّ المسيحَ رأسُ هذا الجسد، فلأنَّ المسيح نفسَه يواصلُ عمله الخلاصي، عبر الأجيال، عن طريق تلاميذه الذين يختارُهم و يُوَّجِهُهم في مُخَّططاتِهم وقراراتِهم، كما يُوَّجهُ الرأسُ أعضاء الجسم. وكما أن أعضاء الجسم الواحد لا تخطيط لهم بل يُنفذون إيعازات الرأس ويتقَّيدون بأوامِرِه هكذا أعضاءُ جسد يسوع، لا مشروعَ لهم خّاصٌ بهم. إنَّهم يواصلون عمل المسيح ، ويستوحون خطواتهم من مثال حياتِه، ويستنبطون أساليبَ العمل من تعليمه. فالمسيح الذي قام هو رأسُ الكنيسة الخفي يرعاها ويعتني بها، تمامًا، كما ” يرعى كلُّ إنسانٍ جسده، فيُغَّذيهِ ويهتَّمُ به ” (أف5: 39).

الكنيسة ملءُ المسيح !

يسمو بولس كثيرًا في فكره حتى يقولُ بأنَّ الكنيسة هي تُكَّملُ المسيح. كما لوكان المسيحُ ناقصًا ولا يكتملُ من دونها. المسيح موجودٌ، كمسيح، فقط في مهمته الخلاصية. ولأجل تلك المهمة تجسَّدَ الكلمة الألهية. وإنسانية المسيح، حسب رؤية بولس، ليستْ شخصًا واحدًا. إنها البشرية جمعاء، وبنوع خاص من إنتمى إليه ولبسَه في المعمودية (غل3: 27)، كما لبسنا هو. فالمسيح يستمِرَّ يحيا فيعمل في المؤمنين، ومن خلالهم، في العالم. لقد إختبر بولس هذه الوحدة والعمل بين المسيح والمؤمن به فلم يترَدَّدُ القول َ:” مع المسيح صُلبتُ، فلستُ بعدُ أنا الحي، بل المسيحُ يحيا فيَّ ” (غل2: 20). و قد أصبحَ المؤمن بالنتيجة مسيحًا آخر يشترك في خلاص البشرية، حتى قال بولس أيضًا:” أنا الآن أفرحُ بالآلام، لأني أُكَّملُ في جسدي ما نقُصَ من آلام المسيح في سبيل جسدِه الذي هو الكنيسة “(كو1: 24). تتكرَّرُ في المؤمنين بالمسيح آلامُه، صلبُه، وقيامتُه وتتواصلُ إلى إنقضاءِ الدهر. ومن هنا تنكشِفُ جلِيًّا هوية المؤمن. إنه مسيحٌ آخر يُتابعُ، برغبة المسيح ونعمتِه، عملية خلاص البشرية. إنَّه مُرسَلُ المسيح،” كما أرسلني الآب أُرسلُكم أنا ” (يو20: 21)، لأنه سبقَ المؤمنُ ومات مع المسيح وقام في المعمودية (رم6: 3-4). ولمَّا أصبحَ صورَته، كما كان المسيح صورة الآب (عب 1 : 3)، أرسله المسيح ليتلمذ ويُعَّمذ ويُعَّلم طريق الخلاص لأهل العالم.

فاقت نعمة الله في الرأفة !

مهمَّة المسيح الخلاصية ساميةٌ. إنها عملُ الله نفسُه. فيُصبحُ التلميذُ في عملِه ” إِلَهًا”. قال الرب:” كثيرٌ من الأنبياءِ والملوك تمَّنوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا. وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا. هنيئًا لكم ” (لو10: 23-24). لأنَّ الروحَ القدس أوحى بها إليهم. وكلُّ مدعُوٍّ ومؤمن يفتخرُ أن يكون مسيحًا آخر. وربما يتباهى بها البعضُ أيضًا، أو حتى يرى ذلك مِن حَّقِه ما دام هو خلقةَ الله. فحتى لا يقع المؤمن في هذا الفخ الشيطاني ذكَّرَ بولسُ قارئيه بأنَّنا جميعًا كنَّا، قبل معموديتنا، ” أمواتًا بزّلاتِنا وخطايانا.. نعيشُ في شهواتِ الجسد و نتبع رغباتِه وأهواءَه ..”. ثمَّ يَكشفُ أنَّ ما نلناه من نعمةٍ كانَّ من ” سِعَةِ رحمةِ الله و تفَّوُقِ محَّبتِه.. بجاه صلب المسيح وموته وقيامتِه “. وما دعانا إليه وأشركنا بسلطانِه لم نستحِقْه بل ” هو هِبَةٌ من الله، ولا فضلَ فيه للأعمال حتى يحُّقَ لأحدٍ أن يُفاخِرَ”.

عظيمٌ ومَهيبٌ أن يشتركَ الأنسان في عمل الله رغم ما يعانيه من ضُعفٍ. لم ينسَ بولس ما كتبه لأهل روما أنه إنسان خاطيء ” بيعَ للخطيئة ” وأنَّه ليس بآستطاعتِه، كإنسان، سوى أن يعمل الشر(رم7: 21). لكنَّه لا ينسَ أنَّ الله وَسَّعَ معه رأفتَه ولذلك فهو ” يقوى على كلِّ شيء بذاك الذي يُقَّويه ” (في4: 13). فمشاركة عمل الله ليست من رغبة الأنسان ولا تطَّوُعًا منه. إنَّها محضُ دعوةٍ من الله يكفلُ معها نجاحَها بشرط أمانة الأنسان المؤمن لدعوتِه. في المسيح خلقَنا الله من جديد. ومن جِدَّةِ خِلقَتِنا أنه أحيانا وأقامنا للقيام بالأعمال الصالحة وقد ” أعَدَّها اللهُ لنا مِن قبلُ لنسلكَ فيها ” (أف2: 10).

{ أنظر أيضًا تأمل الأحد الثامن للدنح ، 24 / 2 / 2019 }