أيّـام صوم وصلاة وإعطاء صدقات
{ متى 6: 1-18 }
تسبقُ الصوم الكبير بثلاثة أسابيع، وتلي وجوبًا الأحد الخامس للدنح
܀܀܀܀܀
تحتفلُ الكنيسةُ الكلدانية بشكل خّاص وبعد أيام ، 7-9 شباط ، بذكرى الباعوثة. وفيها نفكر بأهل نينوى كيف تابوا عن شرورهم وآسترحموا الله فآستجابَ لهم وأنقذهم من هلاكٍ محتوم . تذكُرُها أيضًا بتقوى أغلبُ آلكنائس الشرقية، إنما لا تحتفلُ بها مثل الكلدان. لماذا؟ أ تُرى لأنَّ نينوى في بلدهم؟. أكثر من ذلك. لأنَّ التأريخ سَجَّلَ لأبناء العراق، الموطن والمركز الذي فيه ترعرعت الكنيسة الكلدانية فتنَظَّمت، بلِيَّةً لم يُمتَحَن بها غيرهم في العصورالقديمة. إنتشر مرضُ الطاعون في شمال العراق، في مناطق باجرمي (كركوك)، وحدياب (أربيل)، ونينوى (الموصل)، ذلك في القرن السادس الميلادي، سنة 564-567م، حصد الوباءُ الناسَ بمئات الأُلوف، لم يكن يلحقُ الناسُ دفنَ موتاهم. ولم ينتهِ إلا لمَّا إستجابت السماءُ إستغاثةَ بعض القديسين، فأشارَت إليهم بالتوبة في الصوم والصلاة على غرارالنينويين.
لبَّت الكنيسةُ نداءَ السماء فآنقطع المؤمنون للتوبة وتقاطروا في المعابد، وهم صائمون، يقضون النهار في الصلاة والتوبة. فتوقفَ الوباءُ وآختفت آثارُه بعد أربعة أيام. وعُرفانًا بجميل الله ورحمته، وبقصد حماية المؤمنين من العودة الى الشَّر، طلب أساقفة المناطق المنكوبة أن يحتفلوا بذكرى الوباء والدعاء والشفاء، بإقامةِ، سنويًا،” ثلاثية توبة ” بالتفَـرُّغ للصوم والصلاة وإقامة القداديس والإعتراف والتناول. ولا تزالُ كنيسة الكلدان تُحيي سنويًا وتحتفل بهذه الذكرى، من 1455 سنة والى اليوم، وفي كلِّ العالم.
يبرز هنا سؤالٌ : كيف كتب عنها القديس مار أفرام تأملات تُرَتَّلُ الى اليوم، وهو سبق ظهور الوباء ومات قبله بمائتي سنة (+373)؟. إنَّ الكنيسة قيَّمت، من البداية، درس توبة أهل نينوى وقـدَّمته نموذجًا وضمانًا لكل توبة نصوحة. وربما تأثرت به وآختارته، خاصّةً في العراق ومصر، لوجود أكبر الجاليات اليهودية فيهما، فأقاما تذكارًا لقصة نينوى ويونان النبي للتقَرُّبِ من اليهود وتقريبهم من المسيح. فلا غرابة أن يتأمل بها مار أفرام، ولا غرابة أن تختار الكنيسة ميامره للتأمل معه، وتشَّجعَ على التوبة، وتطـرُقَ بابَ الغفران.
كان المحَّركَ الأولَّ لطلب عون السماء سبريشوعُ ، من كرخ جذان ورئيسُ ديرٍ فيها، ثم سيمَ أُسقُفا على لاشوم (داقوق)، جنوب كركوك. وربما ساعد هو على تعميمها على جميع مناطق تواجد الكنيسة الكلدانية عندما أصبح بطريركًا 595-604م، بحيثُ لمَّا تنَظمت طقوسُ الصلوات والأعياد والمناسبات سنة 650م على يد البطريرك ايشوعياب الحزّي، ثبتت فيه ثلاثية الباعوثة كجزء أساس، ثمَّ ثبَّتها وفرضَها ، بمستوى الصوم الكبير، البطريرك طيمثاوس الأول (780-823م).
مقدمة كتاب الصلاة !
قدَّم كتابُ الصلاة الطقسية، الحوذرا، لِـ “رتبة الباعوثة ” بما يلي :
العلَّة الأولى للباعوثة هي ” باعوثة النينويين وتوبتهم ونجاتهم ؛
والعلّة الثانية هي أنَّها تقامُ في هذه البلاد بسبب وباء الطاعون الذي إنتشر في بلاد فارس (هذه المناطق) بسبب خطايا البشر الجَمَّة، والذي أباد بزمن قصير سكان باجرمي وآثور و نينوى. سُمع صوتُ الملاك يقول:” إفرضوا الصيامَ وأقيموا الطلب { باعوثة } فيتوَقَّفُ الوباء”. صدر حالاً الأمرُ بتجَمُّع شعب الله في الكنائس. في اليوم الأول ـ الأثنين ـ توَقَّفت الإصاباتُ، وإنَّما كان الموتى قليلين. ولمَّا وصلوا يوم الجمعة إشترك الشعبُ بذبيحة جسد المسيح ودمه المقدَّسَين فلم يعُد يموتُ أحدٌ حتى من المصابين. فنَظَّم الآباءُ أن تقامَ الباعوثة، كلَّ سنةٍ، في هذا السابوع.
كتب التأريخ !
روت التواريخ الكنسية خبر الوباء والباعوثة كما توارثوها عن تقليد الأقدمين. وأول مصدر هو كتاب ” المجدل” كما رواه ماري بن سليمان ، وهو يمتدُّ الى عهد البطريرك يهب آلاها الثاني، 1190- 1222م. ثم رواه صليبا مع عمرو ، ويمتد الى عهد البطريرك يهب آلاها الثالث 1283-1317م، في الباب الخامس، الفصل المخَصَّص لِـ ” أخبار فطاركة كرسي المشرق”.
طُبِعَ الكتابان في روما : نسخة صليبا عمرو سنة 1896م، نقلا عن مخطوطة لعمرو Vat.
Ar. 110 ذاكرًا أنَّه ينقل نص صليبا القس لسنة 1332م. ونسخة ماري سنة 1899م. نقلا عن مخطوطة لماري هي Vat. Ar. 109 ، و؛Paris , Bl. Nat. 190 .
جاء في نسخة عمرو (ص42-44) : حدث في أيام بط . يوسف (552-567) ” مَوْتانْ لم يصِرْ مثله حتى خلت البلاد جملةً. وفي عهد خلفه بط. حزقيال (567-581) ” بطل الموت. خليت مدن وقرى كثيرة من الناس. بقي الذهب والفضّة وآلأمتعة بلا أصحاب وليس من يأخذها. .. إستأجر كسرى رجالاً لدفن الموتى. وعَيَّن لهم عن كلِّ مَيِّت شيًا معلومًا. فحصل لهم في يوم واحد 450 دينارًا. عند المساء جلسوا ليقتسموا فماتوا في المكان وبقيَ المبلغ على الأرض. وبسبب توقف الموت أتفق مطران باجرمي وأسقف نينوى على عمل الباعوث …وسُمِيَّت هذه الباعوث ” صويمة نينوى”، لكونهم قالوا : نعمل مثل أهل نينوى، وتخَلَّصوا مثلهم برفع السُخطِ عنهم”.
وقال ماري (ص53-54) أنْ حدَثَ، في زمن بط. يوسف ، ” وباءٌ مفرط حتى كان الناسُ يمشون ويموتون. وخلت البلادُ من الناس، وخافت حتى كان الذي يُحَّضر القبور ليدفن المَيِّت يموتُ على القبر. وزاد الموت عن الحَّد حتى لم يكن من يدفنهم. وبقي الموتان هكذا ثلاث سنين ونصف.. ولمَّا إنقطع الموتان وقع على الناس الجوعُ. كانوا يأكلون ولا يشبعون . وصارت بعضُ المدن قبرًا لأهلها وآنخسفتْ “.
البطريرك يوحنا إبن عيسى !
نقلت المخطوطة Vat. Ar.157, f. 83r-93r رسالة كتبت سنة 290 هجـ /903 م تقول :
” تشاجر قومٌ مع أبي العباس الفضل بن سليمان في أمر الصوم المعروف بـ” النينوي”، في أيّام هذا الصوم في سنة ” تسعين ومايتين للعرب، وذلك في سنة الف ومايتين وأربعة عشر للأسكندر، في أحد عشر من كانون الثاني. فكتب أبو العباس الى ابينا يوحنا الجاثاليق، ذكرنا الله بصلواته، يسأله عن العِلَّة في صوم نينوى، والعِلَّة في هذا الصوم. وكانت نسخة المسائل والجواب على ما قد بيّن في هذا الكتاب *. هذه هي المسألة :
“ما العِلَّةُ، أعَزَّ الله أبانا الجاثاليق، في صيام الثلاثة الايّام المعروفة بصوم نينوى ( يقصُدُ الباعوثة )، وإجرائِها مجرى الصوم الكبير، والذي جرى في أمر نينوى وأمر يونس على الناموس العتيق. ولسنا أبناءُ آلبيعة ملزمين بالناموس العتيق؟. مَن أمرَ بذلك من الآباء ؟. ومن حتم به؟. فقد كان أعلمني شيخٌ، أتت عليه مائة سنة وكسر، قبل حوالي ثلاثين سنة، أنه وسائر أصحابنا بكشكر كانوا لا يصومون” نينوي” ، ويأكلون اللحم فيها. وهل على معتمدٍ مَن أكلَ اللحم فيها أو مُخطيء في أكله؟. حتى يجري ذلك منه على غير تعّمد قانون، وما نُحرجُه من الخطأ والحرم في ذلك “.
الجواب في ذلك ( رد البطريرك ) :
أولَ ما نقول أنَّا أجبنا عما سألتَ بالعربيةِ لأن كتابك ورد بالعربيِةِ، وليقف عليه من شاجركَ بلا حاجةٍ الى واسطة مترجم بما نكتبُ به. وأمَّا قولك، أسعدك الله، أنَّ أبناء البيعة ليسوا مأخوذين بالتمَسُّك بالناموس العتيق فقد صدقتَ في ذلك. وليس أنَّا نصومها الآن لأنَّ سببَها ذلك السبب. لأنَّ الآسم الواقع عليها مُستعارٌ. السببُ الحقيقي هو ما نشرحه. كان، أسعدك اللهُ، في زمن من الأزمنة السالفة حدث في بلاد باجرمي موتٌ جارفٌ أتى على الأكثر من ذلك البلد في أسرع مدة. وكان عليهم أسقف يُسَّمى سبريشوع، حفظ اللهُ آلبيعةَ بصلواتِه، فجمع رعيَّتَه لإقامة الباعوث. وشجَّعهم قال لهم : إن كان اللهُ عزَّ وجَّل برحمتِه رحم أهل نينوى و كشف عنه ما أجراهُ على لسان نبيِّهِ يونس من الخسفِ بنينوى بعد أربعين يومًا. فلما سمع ملك نينوى ما أتى به النبي رجع الى الله تباَركَ إسمُه بعد أن لم يكن ليعترفَ به بالحال المشروحة في كتاب يونس. وزالَ عنهم ما كان يوعدهم به النبي. فالحري أن يرحمنا ونحن شعبُه المؤمنين به وبمسيحه وروحه المقرونة على الحَّق والصدق. فسمعت هذه الرعية ما أمرها به الأُسقف وآجتمعوا وعملوا الباعوث على أحسن ما يكون من عمل مثله من فطام الأطفال والأغنام ولبس المسوح مما أثرُ ذلك باقٍ الى وقتنا. فدفعَ الله ذلك عنهم.
ولمَّا وليَ مارطيمثاوس الجثلقة، حفظنا الله بصلواته، أمرَ بعملِ هذا الباعوث. فآتَّخذ أصحابُنا منذ ذلك الوقت الى هذا وقتنا سُنَّةً أجروها مجرى الفرض عليهم. والواجب في هذه الباعوثه، وفي كل باعوث يُعملُ فيه صلاة ، أن يجريَ مجرى الصوم الكبير. وإذا كانت الباعوثه إنما هي توبة الى الله عزَّ وجلَّ وإقلاع عن المعاصي، فالواجب أن توفى حقوقُها بالصلاة والحميَّة تشاكلُ ما بداوا به من التوبة وليَسْتَـتِموا الرجوع الى الله جلَّ ثناؤُه. وآسمُ هذا الباعوث ” صوما غزيرايا ولَاو نينوايا : ܨܵܘܡܵܐ ܓܙܝܼܪܵܝܵܐ ܠܵܘ ܢܝܼܢܘܵܝܵܐ” { صومُ مُقَرَّر وليس صومَ نينوى }، وإنما جرى ذكر نينوى لِما قدَّمنا ذكرَه لمشاكلة الموعد والإنذار بآلآفات الحادثة وما لحق القوم أجمعين من خلاص ما تخَّوفوهُ. فمن تعَمَّد أكلَ اللحم فيها ألزمناهُ ما يجبُ على من تعمَّد على أكل اللحم في الصوم الكبير*.
النتيجة !
نستخلصُ من الرسالة ما يلي :
1*. ليست الباعوثة الحالية ذكرى صوم أهل نينوى ، بل إقتداءًا بها.
سُمِّيتْ كذلك، كما جاء في الحوذرا، لا تذكارا لما ذكره الكتاب المقدس عن قصّة يونان و نينوى، بل تخليدًا لذكرى ما حدث في العراق، بين سنة 564 و567م ، من كارثة إنتشار وباء الطاعون الفتّاك وتوبة المؤمنين وإقامة الصلاة والنجاة من خطر الوباء. غلبَ عليه لقب” باعوثة نينوى” تيَّمُنًا فقط بقصة العهد القديم وتشَّبُهًا بما حدثَ فيها ونتجعَ عنها. فقال عنه البطريرك ” اسمٌ مستعار” للباعوثة، كما دعاها كتاب المجدل ” صويمة نينوى”.
2*. سبقَت الكنيسة الباعوثة وآحتفلت بذكرى يونان ونينوى.
مَيَّز صاحبُ السؤال بين” صوم نينوى وهذا الصوم” أي الباعوثة، وكانوا في ذكرى نينوى يأكلون اللحم، بينما هو ممنوع في الباعوثة. ولا تزال بعضُ الكنائس الشرقية تقيمُ ذكرًى ليونان و نينوى دون أن تحتفل مثل الكلدان برتبة خاصّة للباعوثة. بينما لليزيدية ذكرٌ بآسم الباعوثة.
3*. إحتفظت الكنيسة بذكرى أحداثٍ مهمَّة من العهد القديم لتعليمها الألهي البليغ في الأيمان والأخلاق مثل يونان ونينوى وشموني والوصايا، تواصُلاً مع العهد القديم الذي يبقى جُزءًا من الوحي ، وتشجيعًا للمؤمنين على سلوك درب القداسة كما يتطلبه الأيمان (أح19: 2 ؛ متى6: 10؛ 1 بط 1: 16 ؛ 1تس4: 3؛ 2تس5: 23). فلا نستغرب أن يكون القديس مار أفرام كتب تأملاته وصلواته، قبل باعوثتنا بمئات السنين، لأنهم كانوا يُقيمون ذكرًى لقصة يونان ونينوى، ويتحَلَّون بدرسها الأيماني. يبدو من ميامر مار أفرام أنهم كانوا يُقيمون رتبةَ توبةٍ تجاوبًا مع نداء الأنجيل ” توبوا فقد إقترب ملكوت السماوات”، فيها يصومون و يُصَّلون، إنما يأكلون فيها اللحم. كانت آثارُها بعدُ قائمًة في القرن العاشر بدليل الخلط بينها وبين باعوثة القرن السادس التي لا يُؤكلُ فيها اللحم. وقد إعترضَ على ذلك مؤمنون و أوصلوا شَكواهم الى البطريرك.
4*. تتبع الباعوثة نظامَ الصوم الكبير.
أما الصوم الكبير، فعلى غرار المسيح نفسِه، وصوم الباعوثة على غرار صوم الرسل منذ البداية الذين عرفوا أن الشَرَّ لا يُقاوَم إلاّ بالصوم والصلاة (متى17:21؛ مر9: 29)، كما بها أيضا تحُّل البركة والعون الألهيين (أع13: 3؛ 14: 23؛ 27: 9؛ 2كور6: 5)، فلجَأُت الكنيسة إلى الصوم والصلاة في أوقات ضيقها ومِحَنها. إنما مَيَّزت، كما يبدو، صومها عن صوم اليهود. فبينما صوم اليهود نوعٌ واحد، كان صوم المسيحيين منذ البداية على ثلاثة أشكال : صيامٌ قطعي عن الأكل والزفرين، أو صيامٌ عن الطعام واللحم، أو إنقطاعٌ فقط عن اللحم كما في صيام الأربعاء والجمعة طوال السنة، عدا ما يقع فيها عيد أو تذكار.
وذكر البطريرك أن الباعوثة هي من قرار وفرض كنسي خاص تلجَأُ اليها في حالات معَّينة ، و” تجري مجرى الصوم الكبير” الذي كان يقوم، إلى قبل ستين سنة، على آلإنقطاع عن الفطور والزفرين معًا طيلة النهار، فترة الصوم كله. وسمَّى البطريرك الباعوثة بـ ” صَوْما كزيرايا ” أي الصوم الذي قطعته الكنيسة على المؤمنين دون أن يتعَّلق بأحداثٍ كتابية. و هذا من صلاحياتها في إدارة شؤون أبنائِها الروحية.