أهلا وسهلا بالأخ أ. ب
إختار السائل الكريم رمزًا لآسمه وكتب يقول :” جاء في أولى وصايا الله : لا يكن لك آلِهةٌ أخرى غيري، لا تصنع لك تماثيل منحوتة ..لا تسجُدُ لها ولا تعبُدْها، لأني أنا الربُّ إلهُكَ إلَهٌ غيور لا أنسى ذنوبَ الآباء في البنين الى الجيل الثالث والرابع من الذين يُبغضوني” (تث5: 9؛ خر20: 5-6). ثم ذكر سفر التثنية :” لا يُقتَلُ الآباء بخطيئة البنين، ولا البنون بخطيئة الآباء. بل كلُّ إنسانٍ بخطيئته يُقتَل “(تث24: 16؛ حز18: 4 و20). فهل ينقضُ الكتابُ نفسَه؟. لاسيما وأن إشَعْيا أكَّدَ أنَّ المسيحَ حمل، وهوالبار، خطايا البشرية إِذ يقول : ” مجروحٌ بسبب معاصينا. ومسحوقٌ بسبب خطايانا. ..ألقى عليه الربُّ إثمَ جميعِنا” (اش 53: 5-6). والعهدُ الجديد أكَّدَ على أن يسوع جاءَ ليُكَّفرَ عن خطايا الناس (1يو4: 10)، و مات كَفّارةً عنا، نحن أولاد آدم، بعد ملايين الأجيال (1يو2: 2). فقد ذكر ذلك مار بولس (رم3: 25؛ 1كور15: 3؛ غل1: 4) ومار بطرس (1بط2: 27). ذلك بناء على تصريح الرب يسوع نفسه :” .. هذا دمي .. الذي يُسفَكُ من أجل أُناس كثيرين لغفران الخطايا ” ( متى26: 28).
فالسؤال:” هل ينقض الله ، او الوحيُ نفسَه؟. أم كيف نفَّسر هذا التناقض الحرفي” ؟؟.
العدالة في المحاسبة ونتائجُها !
من يُبغضُ الله ويرفضُه ويصنع آلهةً لنفسه لا يمكن لله أن يُرغمَه على محبته، رغم كل ما أحسَن به عليه من وجود وتوفير متطلبات الحياة وتوجيهات لسلوك درب الحق من أجل التمتع بخيرات الله حتى الأبدية. بل يُحاسبُه لأنَّه ناكر للجميل ومُفسِدٌ لصورة الله المطبوعة فيه. هذا مفهوم. أمَّا الإعتراض فهو على إشراك أولاده، وحتى أولاد أحفاده، في المحاسبة السلبية كأنهم هم ايضًا ضد الله وأخطأوا بحَّقِه من خلال ابيهم أو جدِّهم، كما أخطأنا من خلال آدم. علاقتنا بآدم أصلية حيوية أي وجودية كالغصن بالجذع. أما مع أفعال والدينا فتبقى مستقلة تتبع حريتنا ولا تتحمل نتائج غير إرادة الفعل الشخصي. لا يتردد قادة البشر في خلط الأوراق. فكم أب وأخ وإبنة أُدينوا بجرم آبائهم؟ كثيرون أبرياء دفعوا ثمنًا باهظًا بسبب غيرهم؟. أمَّا الله فعادل أمين يحاسبُ كلَّ واحدٍ بذنبه.
لا ننسى أن الآباء هم من يذخرون لأولادهم الكنوز الزمنية او الروحية (2كور12: 14). كلُّ ما يملكُه الأب سيرثه الأبن. وإذا أجرم الأب وحُوكم وصودرت كل أمواله وأملاكه و تلطخت سمعته ماذا سيرث عنه إبنه غير الفقر والذل؟. وهذا يسبب له بطبيعته صيتًا سيِّئًا وضيقًا ماليًا يُسَّببُ ألمًا وكأنه هو المجرم. لا يدفع من حياته عن ابيه إنما يشترك في مصيره ويتحمل رغمًا عنه نتائج إثم ابيه وكأنه هو المخطيء.
كذلك في الأخلاق كم أبٍ ملحدٍ ومجَّدف وشِّرير زرع بذرة سلوكه في نفس أولاده وحتى أحفاده وبذلك وَضَعهم على طريق بغض الله ورفضِه. فعندما قال الله لا أنسى هذا الشر فلا يعني أنه هو الذي يُحاسبُ الأبناء بخطيئة آبائهم. بل يعني أن الخطيئة تتأصل في الأنسان وتتوارث عن الآباء بسهولة، مع تداعياتها المؤلمة، لأنها ” الباب الواسع والسبيل الرحب والمغري”، ولأنَّ الآباء نموذجٌ للبنين. منذ آدم أب البشرية دخلت الكبرياء والأنانية وتجَّذرت في الأنسان بحيث لم يُقضَ عليها بعد ملايين الأجيال. مفعول الخطيئة أضعَفَ طبيعةَ الأنسان فأصبحت ميَّالة إليها أكثر مما الى البر الذي تستثقله. وكثيرون يتأَذَّون من ذلك. فمسؤولية الآباء كبيرة ومردودُها ثقيل. وهذا ما يريد اللهُ أن يُشَّددَ عليه.
أما الله فقد عالج هكذا حالة بالدعوة الى التوبة عارضًا ” غفرانه للإثم والمعصية والخطيئة ..” (خر34: 7)، ومُعلنًا رحمته ” لأُلوف الأجيال للذين يُحِبّوُنه ويحفظون وصاياه ” (تث5: 10؛ خر20: 6). لأنَّ الله لا يريد موت الخاطيء بل أن يتوب ويحيا أمامه فيقول:” إِرجعوا إليَّ وآحيوا “(حز18: 32). وقد أعلن بفم حزقيال النبي :” ما بالكم ترددون هذا المثل في إسرائيل: الآباء أكلوا الحصرم وأسنان البنين ضرِسَت.. لن ترددوا بعد الآن هذا المثل”(حز 18: 2-3).
لا يُناقضُ اللهُ نفسَه. فالوحيُ كاملٌ لا يشوبه لوم. إنما لا يقتصرالوحيُ ولا تتحدد مشيئةُ الله وتتوقف على عبارةٍ واحدة معزولة. أن يتواصل عقاب الشر في البنين و يقاسون الألم والضيق، بسبب خطيئة الآباء، شيءٌ ،وأن يعاقبَهم الله مباشرةً شيءٌ آخر. فالله لا يريد حتى عقاب الخاطئين بل يمهلهم فرصة التوبة لأنه يريد لهم الحياة (حز18: 23).
المسيح والكَـفّارة !
دفع المسيح ثمن خطايا البشرية لا عقابا بل تضامنًا وعلاجًا للشفاء، لآنقاذها من الهلاك
الأبدي. لم يأتِ المسيح ليتألم ويموت. بل كاد أن يرفض الألم الكفّاري، ” لتعبر عني هذه الكأس”، لولا طاعته للتصميم الألهي وهو أحدُ أركانه (متى26: 39). لقد أُرسل الى العالم ليفضحَ شرَّ الخطيئة في التمرُّد عليه، وليشهد للحق والبر:” أنا ولدتُ وجئتُ الى العالم حتى أشهد للحق “(يو18: 37). فقد ” جئت الى العالم نورًا “(يو12: 45). فالمسيح ” نورالعالم .. النورالحَّق، جاء الى العالم لينير كلَّ إنسان “(يو8: 12 ؛ 1: 9). ودعا أتباعه أيضًا ” نور العالم ” (متى5: 14). وكلَّفهم بأن يشهدوا لنوره (أع1: 8). وقد عاش يسوع، فقال وعمل، شاهدًا للحق، ولا أحد ثبَّتَ عليه خطيئة (يو8: 46). لكن العالم وأهله أبَوا الأيمان به ورفضوا نور الحق وفضَّلوا عليه ظلام الشر والفساد (يو3: 19)، كما إعتادوا عليه وتقلَّدوه من” آبائِهم” نابذين وصية الله (مر7: 8) فجهلوه وتنَّكروا له ولمرسله ( يو8: 19).
قبل أن يخلق الله الأنسان عرف بخطيئته وسقوطِه من كرامته فخطط لآنقاذه وإعادته الى مجده وضمان حريته وآختياره الشخصي لكل فرد. قرر تأَّنسَه ليُعَّلم الأنسان زميله كيف يطيع الله. تخَّلى عن مجده وقبل حالة العبد ليعيش على ضوء نور الحق، مثل الله في تواضع ومحبة، معطيًا لنا نموذجًا لنقتدي به (يو13: 13-15؛ 1بط2: 21). فالحق هو طريق الخلاص. جاء الرب فدعانا أولا الى التوبة عن سلوكنا السَّييء (متى4: 17). ثم الى سلوك سبيل الحق مثله لنتحَّررَ من الضلال والشر(يو7: 31-32).
تمَّسك العالم وأبناؤُه بكبريائهم وشهوتهم، وقرروا التخَّلُصَ من ” شاهد الحق “، فلا يوَّبخ ضمائرهم، ولا يقلق راحتهم. لم يمنعهم الله من شرِّهم. وثبت المسيح في موقفه مستعدا أن يموت من أجل الحق، قارنًا الفعل بالقول. والله يعلم بكل ذلك. فالمسيح تطوَّع للشهادة للحق بالخضوع لمشيئة الله التي إتَّخذها طعامًا له وسبيلا لسلوكه (يو4: 34). ترك الله الناس لجهلهم وهو يعرف كيف يُّحَّولُ الشَّر إلى الخير ويقود نتائج فعل أهل العالم الى خير أعظم، كما سمح أن يباع يوسف الصِدّيق عبدًا لمصر ليصبح هناك ملكًا ويُنقذ شعبَه من فناء محَّقق ويُعَّلم شعبه الأستقلال والنظام والأدارة والسيادة ، فيتحرر من االبداوة ويتحضَّر. فشَرُّ قتلِ المسيح قاده إلى المجد، وكسب لآخوانه البشر الذين يؤمنون به ويسلكون طريقه التحرر من خطيئة آدم ونيل حرية سلوك درب الخلاص الأبدي. وهكذا شهادة يسوع للحق قادته الى الموت ، وموتُه قاده الى المجد، وصارت آلام موته ثمنًا دفعَ بها الفدية التي أرادها ابليس. لكنه لم يدرِ أنَّ خسارته كانت أعظم لأنَّه خسر سيادة العالم والأنسانية، والأنسانُ تمَجَّد في المسيح :” إنَّ سَيِّدَ هذا العالم آتٍ وليس له يدٌ عليَّ ” (يو14: 30)، لأنَّه ” قد حُكِمَ عليه ” (يو16: 11). والحَّقُّ الذي كشفَه وتقيَّدَ به للموت إنتصرَ في النهاية، وآستعادَ اللهُ الأنسان الى مجده في عبادته وحفظ وصاياه.
كان هذا فعلَ محَّبةٍ من المسيح وقد” أحَّبَ خاصَّته بلا حَّد ” (يو13: 1)، وآختياره ، لا محاسبَةً ولا عقابًا. لم يُجْبَرْ على الموت كفَّارةً عن خطايانا ،” لا أحد ينتزعُ حياتي مني، و لكني أبذلُها برضاي” (يو10: 18). بل تطَّوعَ وقبل ذلك تتميمًا للمخطط الألهي، لأَّنَّه ” هو والآب واحد” (يو10: 30)، ولأنَّه :” لا حبَّ أعظم من حُبِّ من يُضَّحي بحياته من أجل أحَّبائِه. وأنتم أحبائي إذا عملتم بما أوصيكم به ” (يو15: 13-14). برهن اللهُ على حُبِّه لنا. هكذا تحَّولت آلام يسوع من مأساة إلى فخر وآنتصار وفرح ومجد للبشرية جمعاء. هنا علا الحَّقُ ولن يعلوَ عليه شيء، وأدَّى الى فداء الأنسانية. وبآعتلاء الحق ذُلَّ الباطلُ وزهق. و ابليسُ خُذِل وصار عبدًا للأنسان.
لم يـأتِ المسيح ليموت، وهو ربُّ الحياةِ وحاميها ومعطيها :” جئتُ لتكون لهم الحياة، بل مِلءُ الحياة ” (يو10: 10). جاءَ ليرفع راية الحياة بإطلاق السبيل للحق أن يُحاربَ سَيِّدَ الشر والفساد. ولا زال الحقُّ يسود ويحكم. ولكن مع ذلك لن ينفعنا موت المسيح الكفاري إذا لم نرافقْه على درب الحق. والحَّق أن نسمع كلام الله ونتقَّيد بمشيئته مثل المسيح. فتكون شهادته للحق قد قادَتْنا الى الخلاص بغفران خطايانا عن طريق إيماننا بالمسيح وتوبتنا على يده وآقتدائنا بسيرته، كما علَّمنا.