أهلا وسهلا بالأخ فوزي يــلدا.
قيلَ للأخ فوزي بأنَّ الغنى ليس خطـأً في المسيحية. لم يقتنعْ. لأنه قرأ في الأنجيل آياتٍ كثيرة تنَّددُ بالأغنياء ، وغيرها عديدة تنفي أن يكون للغِنى قدرة خلاصية، بجانب آياتٍ تدعو الى السعي وراء الغنى الروحي الذي لا يزول.
ما قالـه الكتـاب !
سردَ السائلُ جملةً من الآيات. هـي :
– حيثُ يكون كنزك هناكَ يكون قلبُك متى 6: 21
– لا يقدرُ أحدٌ أن يخدُمَ سيّدين… لا تقدرون أن تخدموا الله والمال متى 6: 24
– مرور الجمل في ثقب الأبرة أيسر من أن يدخُلَ غنّيٌ ملكوت اللـه متى 19: 24
– ماذا ينفعُ الأنسانَ لو ربحَ العالم كله وخسرَ نفسَه ؟. أم ماذا يُعطي الأنسانُ فـداءًا عن نفسِه ؟. متى16: 26
-: أولا : لو ركَّزنا ودقّقْنا في الآيات أعلاه لا نجدُ آية تدينُ ” الغِنى ” بذاتِه. تدين أشخاصا يتعاملون مع الغِنى. تدينُ خـدمةَ المال. تؤَّكِدُ أنَّ الحياةَ أو النفس أثمن من المال. أما الغِنى أو الثروة فلم يَدِنها يسوع. كيفَ يدينُها واللـهُ خالقُ الخيراتِ كلها، وقد صنعها لتخدمَ الأنسان؟. أ ليس الله هو الذي قالَ للأنسان :” أخضعوا الأرضَ وتسَّلطوا على السمك والطير والحيوان .. وكل عشبٍ وكل شجر..” (تك1: 28-29). من أين يأتي الغنى إنْ لمْ يكن من إقتناء هذه الخيرات ؟.
-: ثانيًا: وضَعَ الله كلَّ خيراتِ الأرض بين يدي الأنسان ليقتنيها ويستعملها لراحتِه وسعادتِه. إمتلاكُها إذن هو حَّقٌ أعطاه إياه الله. وما هو حَّق لا يمكن أن يكون خاطِئًا. ولهذا لم يرفض يسوع أن يدخل بيت زكَّا وقد جمَّعَ ثروة ً طائلة ، وبحرام!. لمَّا جَّمَعها بالغش والحيلة ، ولما كان يتشَّبثُ بها ، لم يمدَحْه الله. ولكنه لمَّا إستعمَلَها بشكل صحيح مدَحه الرب قائلا: ” اليوم نال الخلاص هذا البيت.. فإنَّه هو أيضا ابن ابراهيم “(لو19: 9). وكذلك كانت المجدلية غنية ومعها رفيقاتُها لمْ يدينهُنَ يسوع ، لأنهن كن يصرفن ثروتهن للخير أيضا ، ومنها مساعدة الرسل بأموالهن (لو8: 3). لم يًبعِدْهن يسوع بل كن تلك النساء أول شهود القيامة عند القبر.
عريانا ولدتُ وعريانا أموت !
وأيوب الذي ذكره السائل وكأنه قنوعٌ ومثالُ التجَّرِدِ من المال ، وهو يبدو فعلا كذلك ، إلا إنه إغتنى من جديد ولم يلُمه الرب. بل الرَّبُ هو الذي رَّدَ له ” ضعفَ ما كان له قبلُ .. وباركه أكثرَ من الأول “(أي 42: 10-15). لم يكن المالُ أصلا سببَ خسارتِه، ولا تأسَّفَ لها بل حزنَ لموتِ أولادِه وصَرَّح بقناعةٍ وإيمان :” عريانا خرجتُ من بطن أمي وعُريانًا أعودُ الى هناك. الرَّبُ أعطى والرَّبُ أخذ، تبارَكَ إسمُه “(أي1: 21).
الربُ هو سببُ غِنى أيوب ، فهل يكون الربُ قد أخطأ لأنه أعطاه ثروةً طائلة ؟. فالغنى بذاتِه علامة بركةٍ من الله للأنسان الصالح. هكذا أغنى الله ابراهيم (تك12: 1-3؛ 15: 1-2). وهكذا طلب يعقوب لأبنِه يوسف :” بالقدير الذي يباركك. بركات السماء من فوق. وبركات الغمرالراكد في الأسفل ..” (تك49: 25). ويسوعُ نفسُه أكَّدَ أنَّ الله هو الذي يوَّفرُ للأ نسان قوتَه وحاجاتِه :” لا تهتموا فتقولوا: ماذا نأكلُ ؟ وماذا نشربُ؟ وماذا نلبسُ ؟… أطلبوا الملكوت وبِرَّه .. و تُزادون هذا كله ” (متى6: 31-33).
لا يُمكنُ خـدمةُ سَّـيدين معًا !
ليس الخـطأ إذن في الغِنى. بل هو في التعَّلقِ به وخدمتِه على حساب الحَّق وآستعمالِه ضدَّ مشيئةِ الله. الحديثُ عن خدمة سَّيدين. الله واهبُ الغنى. والغنى أداة و وسيلة للعيش الكريم.
لكن الغِنى يُغري. وقد يُهلكُ الأنسان إذا صارَ عبدًا له وتبعَ إغراءاتِه. كما لا يُمكن أن نخدُم بيتين في آنٍ واحد هكذا لا يُمكنُ أن نجعلَ المال هدفَ حياتِنا وندَّعي أننا مؤمنون بالله. الله هو الهدف والمالُ الوسيلة لنخدمَ الله وقضيَّتَه. كان القديس لويس التاسع ملك فرنسا ولم ينغرِ بالمال بل إستعمله للخير. كان كلَّ يوم سبت يجمعُ الفقراءَ في قصرِه يُطعمهم ويخدمُهم هو بنفسِه. يلبس الصدرية ويخدمُ المائدة فيقدمُ للفقراء الطعام ، ثم يكسو المحتاجَ منهم.
أما إذا أسأنا إستعمال الغنى ، وتبعنا أنانيتنا وشهواتنا ، ولم نصرفه على الخير ولم نهتم بالمحتاجين نكون عندئذ نتنكرُ لأيماننا بل لطبيعتنا ، كصورة الله، ونتقاعسُ عن فعل الخير وعن محبة القريب كأنفسِنا.
الأستعمال السَّيئ للغِنى !
وعن سوء إستعمال الغِنى تحَّدَثَ يسوع أكثر من مرَّة. تحَّدثَ عن الغني الغبي الذي أغَّلت له أرضُه خيراتٍ كثيرة. وعوضًا عن أن يتكل على الله للسنين التالية ويتصَّدق على الفقراء و المحتاجين قرَّر أن يخزن غلاتِه ويبَّطل عن العمل قائلا لنفسِه : ” إستريحي وكلي وآشربي و تنَّعمي “. قال له الله هذه الليلة ستموت فلِمن تبقى خيراتُك؟ (لو 12: 19-20). قال هذا مُحَّذرًا ضد الطمع وضد التصَّرفِ الغبي ، وأضاف :” لأنّ حياةَ المرء ، مهما أيسر، لا تضمنها أمواله ” (آية15).
وتحَّدثَ عن الغني ، الأناني والمتوَّحِش، ولعازر المسكين والمتألِم. كان الغني ” يتنعَّمُ كلَّ يوم أترفَ تنَّعُم “. وكان لعازر” يشتهي أن يشبعَ من فُتاتِ مائدةِ الغني ” (لو16: 19-21) ولا يُعطى له. و لما مات كلاهما تنَّعمَ لعازر ، وتعَّذبَ الغني. نالَ كلُّ واحد الجزاءَ الذي يستحقُه. فلو ترَّحمَ الغني على لعازر لما هلك. ولو لم يهتم فقط بشهوتِه بل دارَ إهتمامه نحو رفع الحمد والشكر لله وأحَّبَ قريبَه كنفسِه وصرفَ عليه وعالجَ مرضَه ، وهو متمكّنٌ من ذلك، لكان لقيَ هو أيضا مصيرًا مُشَّرفًا وهنيئًا.
وفي حادث ثالث سأل شابٌ غنيٌ عن الطريق الذي يقودُ الى الحياةِ الأبدية ، وأكَّدَ على أنه يحفظُ كل وصايا الله. ولما توَّخى فيه يسوع الصدقَ والأمانة طلبَ منه أن يبيعَ كلَّ ما يملك ويتصَّدق بالمال على الفقراء. حزنَ الشاب لأنه كان غنيا جدًا، وكان قلبُه متعَّلقًا بالغِنى أكثر مما بالله فأطلقَ يسوع قوله الشهير:” ما أعسرَ دخولَ ذوي الغِنى ملكوتَ الله. لأنْ يدخُلَ الجملُ ثقبَ الأبرةِ أيسرُ من أن يدخُلَ الغنّيُ ملكوتَ الله “(لو18: 24-25).
المغــزى !
في كل مثال من الثلاثة المذكورة لم يَدِن الرَّبُ ” الغِنى”. بل أدان الأشخاصَ الذين أغواهم الغنى أكثر من الحَّق ، وتبعوا مغريات الغنى ونسوا الله والأنسان. لم يتعَّلقوا بمحبة الله الأب الذي كَّرَمهم بالخيرات ولم يستعملوها على وجهٍ صحيح ، بل إنقادوا لتجربة ابليس بآتباع شهوةِ الفكرِ والعين والبطن ، مثل آدم وحواء. فلو عرفوا أن يُقاوموا التجربة مثل يسوع وسمعوا صوتَ الله لكانوا تمَّجدوا للأبد. لكنهم دخلوا تحت نير الطمع والأنانية وحب المال، وكُلها من مباديءِ أبليس وعملائِه، لذا لامهم الرَّبُ دون أن يدين الخيرات في ذاتِها. إذن يحُّق للمسيحي أن يغتني ، ولكن عليه أن ينتبه فلا يصيرُ عبدًا لها تقودُ سلوكَه وتُنسيه حبَ الله وحبَ الأنسان.
بَيَّن يسوع قيمة الغِنى وقالَ بأنه ، في ذاتِه ، باطلٌ لا قيمةَ له لا إيجابية ولا سلبية. إنه وسيلةٌ فقط يمكن إستعمالُه للخير أو للشر. ومستعمِلُه هو الأنسان. طاقات كثيرة وخيرات وهبَها الله للأنسان يمكن أن يستعملها بشكل جيّد وصحيح فيبني حياتَه للأبد ، أو يُسيءُ إستعمالَها فتُهلِكُه. شيءٌ بسيط ” النار”. لا تُقَّدر قيمتُها إذا إستعملناها للتدفئة و الطبخ ولتشغيل أجهزةٍ خاصة. حتى لو أحرَقنا بها المزابل. أما إذا لم نتحَّذر منها وأشعلناها في بيتٍ أو غابةٍ فسوف تسيءُ إذْ تُحرقُ الدار أو الغابة وتسببُ خسائرة كبيرة. أو إذا ألقينا كتبًا ثمينة أو ملابس أو حتى بشَرًا في فرنٍ يتّقِد فسوفَ يُحرِقها ويُبيدُها. لم تتصَّرف النارُمن ذاتِها. ولا هي إختارت ما تقوم به. نحن البشر أوعزنا اليها ماذا تفعلُ.
الغِنى بركةٌ من الله ، لكنه سيفٌ ذو حَّدين ، ونحنُ نحَّددُ له قيمتَه. إنه نعمةٌ و وسيلة ، وإذا أسأنا إستعماله فيُصبحُ نقمةً علينا لأننا نعتبرُه قيمةً في ذاتِه في حين قيمتُه في إرادتِنا و إيعازِنا. أغنياءُ كثيرون إستغَّلوا ثرواتِهم للخير فنالوا المديحَ والتكريم. وغيرُهم عاشوا عبيدًا للمال فلم يعرفوا الله فأصابهم الهوان والشقاء. ولذا قالَ يسوع: ” إتخذوا لكم أصدقاءَ بالمال الباطل ” (لو16: 9)، و” لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض، بل إكنزوا لكم كنوزا في السماء ” (متى6: 20-21). بالمال نعينُ الفقراء والمحتاجين. بالمال نقيمُ مشاريع ومؤسساتٍ خيرية تخدُمُ البشرية. بالمال نبني البيوت للمهَّمشين. بالمال نحمي الضعفاء والبؤساء. وهذه كلها ، وغيرها مثلها ، هي ثمارُ المحبة والأيمان الذي يُرشُدنا الى أنَّ المالَ الفائض عن حاجَتِنا ليس مُلكنا بل مُلكَ القريبْ والمُعوَّزين.