سألني صديق : ” ما رأيك في مسيحيين يرفضون تسمية– النصارى-؟ ويطالبون بآستعمال حرف الـ ” م ” (مسيحيون) في التظاهرات عوض حرف الـ ” ن ” (نصارى)؟.
أقربُ الناس موَّدةً اليكم : النصارى !
لقد كتب الأرهابيون على بيوت المسيحيين في الموصل حرف ” ن ” ، إشارة الى أنهم ” نصارى ” أى ” مسيحيون ” وذلك حسبَ المصطلح القُـرآني. ولكن قبل أن يولدَ الأسلام كان المُصطلح معروفا ومألوفًا، كونه يعني” أتباع الناصري”. وكان شائعا بين العرب الحنفيين وحتى بين مسيحيي الحيرة. وتشهد على ذلك إحدى أقدم الترانيم، الخاصّة بالسعانين، تقول : قوموا جميعَ النصارى وآنهضوا فرحًا : بحملِ أغصانكم وآمضوا الى الطـورِ(شعب المسيح).
هكذا إشتهرَ مصطلحُ النصارى إسمًا للمسيحيين في شبه الجزيرة العربية وجوارها. وكان آخر كاهن ورئيس للنصارى ورقة بن نوفـل ، وكان من بني هاشم.
يسوعُ الناصري !
لم يأتِ مُصطلح “الناصري” جُزافًا. إشتهرَ يسوع بهذا اللقب لا فقط كونه أحد مواطني الناصرة. بل لكون الناصرة قرية صغيرة لا إسمَ لها بين الأسماء اللامعة للمدن الشهيرة. بل وأدنى من المستوى اللائق بشهرة يسوع نفسِه. أسمُ شخص شهير بنعت مكان حقير!. وهذا ما أثارَ حيرة القادةِ :” إبحَثْ هل يقومُ من الجليل نـبـي “؟ (يو7: 53). لكن يسوع لم يتنكَّر لأصله الوضيع بل إفتخر به علنا. لما ذهبَ الجندُ للقبض عليه ، وهم لا يعرفونه بالوجه ، بادرهم يسوع بالسؤال ، على دفعتين: ” من تطلبون ” ؟. أجابوا في المرَّتين : ” يسوعَ الناصري”. قالَ لهم :” أنا هو” (يو18: 5-8).
أتبـاعُ يسـوع !
وإن كان تلاميذ يسوع قد إتخَّذوا لأنفسهم شُهرة نابعة من رسالة يسوع كونه المسيح الفادي، وجرى ذلك لأول مرة في أنطاكية بين سنة 47-50م، أى بعد مقتل اسطيفانوس حيث تشتت المؤمنون (أع11: 19-26)، إلا أنَّ المسيحيين عُرفوا قبلها بـ ” شيعة النصارى ” وبولس زعيما لهم كما وصفه قادة اليهود في شكواهم عليه لدى الحاكم فيلكس(أع24: 5). وفعلا إنَّ أولَ من عرَّفَ أتباعَ يسوع بـأتباع الناصري هم اليهود وأطلقوه على بطرس وزملائه الرسل، وعند آلام المسيح بالذات ، لما أرادوا قتل بطرس أيضا فآتهموه قائلين:” هذا الرجل كان مع يسوع الناصري “(متى26: 71) ، ” أنت أيضا كنتَ مع الناصري ، مع يسوع ” (مر14: 67).
ن (نصراني) أم م (مسيحي) ؟
حرف الـ ” ن ” إستعمله في الأيام الأخيرة ، محفورا على قمصانهم ، المتظاهرون الذين إستنكروا ما فعله الأرهابيون بـ ” نصارى ” الموصل وطالبوا من قادة العالم ، المتشَّدقين بالدفاع عن الحريات الدينية والثقافية والقومية ، بأنَّ فرصتهم أمامهم ليقرنوا الفعل بالقول و يدافعوا عن الحق والعدالة الأنسانية ويُوقفوا المجموعات الغوغائية المنحرفة ويمنعوها عن الإساءة الى الآخرين على أساس الهوية المختلفة.
يبدو أن إستعمال حرف الـ “ن” أغضبَ بعضَ الجهلة من قومنا فآستنكروا أن نستعملَ حرفًا إستعمله غيرنا لإهانتنا. أو أصبحَ أقله سبب ألم ومرارةٍ للمسيحيين قاطبةً شرقا وغربًا. و آقترحوا تبديله بحرف الـ ” م ” أى إشارة إلى كوننا ” مسيحيين” وليس” نصارى”. كلُّ إنسان حُّرٌ في ما يفّكرُه ، وكل مسيحي حُّرٌ في ما يكتبه أو يدعو إليه. إنما لا يحُّقُ لأيّ ٍ كان أن يفرضَ وجهة نظرهِ على غيره ، ولا أن يدَّعي حقًا ما يجهله، و دون أن يبرهن عليه. كما ليس ضيقُ الأفق الحَّلَ الأمثل ، ولا دواءًا لجروحنا.
والذهابُ الى كذا أفكار ليس سوى زيادة الطين بّـلةً!. فإنْ عُرفنا بحرف الـ” ن” أو بالـ” م ” ليس هذا مُهّمًا. ما هو مهم بل أهم أن تكون سيرتنا مطابقة لتعليم” المسيح، يسوع الناصري” ، وأن نشهد ” ليسوع الناصري” كما شهد له الرسل (أع2: 22؛ 4: 10)، والكنيسة عبر الأجيال. وهذا يعني أن نعيش في الحَّق ( يو18: 22؛ يا رب قدِّسهم في الحق. يو17: 17-19) والمحَّبة (يو13: 37-38) ، بكل أبعادهما. ولا ندَع العقليات الضيقة والمصالح الزمنية تقودُ خطواتِنا. ولا نخلطُ المصالح القومية والوطنية بالأمور الألهية. إذا كان الأضطهادُ قد وقعَ علينا بسبب إيماننا لا بسبب قوميتنا إذن لندافعْ عن أنفسنا بالأيمان لا بالشعارات الرَّنانة و المشبوهة. ولا نستعملْ شعارَنا بوجهين متناقضين أو بصيغةٍ نجُّرُ فيها الأيمان تحتَ نير الأمور الأرضية. وإذا كان الضيمُ من باب القومية فليُشهره السياسيون ويعالجوه.
للتمييز بين الـ ن والـ م جذورٌ غير سليمة !
قضية الـ “ن” والـ “م” ليست وليدة اليوم بل طفت على سطوح المنابر من سنين، ربما لغاية في نفس يعقوب!. إنَّ عملية زرع الزؤان بين المسيحيين والمسلمين هدفٌ لأعداء الله والقيم الأخلاقية، وهم يريدون أن يحَّطموا، بأي ثمن كان ، الرباط الأخوي بينهم ، كما بين الشيعة والسنة، ليشعلوا الفتن ويهدموا السلام الذي وفَّق بينهم آلافَ السنين. وحرف ” ن” أصبح لهم وسيلة ليُكَّرهوا الأسلام والمسلمين، مستغلين بعض الأحداث التأريخية المؤلمة بل المأساوية التي كان المسيحيون ضحيتها وبعض المسلمين أربابها مدفوعين من عملاء الشرير وأشرار كل زمان.
الـ ن كالصليب دربٌ الى المجد !
وإذا إعتبرَ البعضُ ” ن ” علامة ” إهانةٍ وكُـرهٍ وآلام، فلا أرى غرابة في ذلك البتة. كما سبق ورأى حكماء العالم في” الصليب ” حماقة وجهالة (1كو1: 18). و حسبه اليهودُ لعنةً لأنه مكتوبٌ :” ملعونٌ من عُّلقَ على خشبة “(تث 21: 23). ومع ذلك ” لا يستند إيماننا لا الى حكمة الوثنيين، ولا الى شريعةِ اليهود بل الى قدرةِ الله ” ولا نعرفُ مسيحًا “غيريسوع المسيح المصلوب” (1كور2: 2-5). بل ونفتخرُ بالصليب (غل6: 14)، حتى لا فقط نرفعه على كنائسنا ومؤسساتنا، بل ونعَّلقه في بيوتنا وحول أعناقنا وعلى صدورنا.
وهكذا إذا كان الـ ” ن ” ضايقنا وآلمنا فنحن نفتخر به لأنه طريقٌ يقودنا الى النصر والمجد. أما قال مار بولس أنَّ ” آلامَ هذا الدهر لا تقاسُ بالمجد المزمع أن يتجَّلى فينا “(رم8: 18)؟. بل أما قال الربُ نفسُه :” من أرادَ أن يتبعني، فليزهدْ في نفسِه ويحمل صليبَه ويتبعني!.ومن يريدُ أن يخَّلصَ حياتَه يفقِدُها ، وأما الذي يفقِدُ حياتَه في سبيلي يجدُها “(متى16: 24-25)؟. لسنا مستعدين أن نفقد حياتَنا الأبدية بسبب تعيير قذفَهُ علينا عميان لا يرون غير النجاسة و الشر. ونحن عيوننا مفتوحة على روح الله ونرى في الـ ” ن ” نصرًا. في قمة الآلام دُعي بطرس نُصرانيا ، وفي قمة الآلام دُعينا نصارى. نعم نحن ” نصارى ونفتخر” ! لأننا أتباع الناصري القدوس ” كلمة الله وروحٌ منه “، ولا نتبع قطَّاع طرق ولا نعبد حجارة صَّماء!!.
نعم نحن ” نصارى ونفتخر”: من يلومنا بخيانةِ بلداننا أو يُعَّيرُنا بهتك الأعراض؟. من منا رفع السيفَ على أبرياء ، ومن منا أنزل المقصلة على رقاب وطنيين؟. يكفينا هذا فخرًا. وقد تعلمنا الحبَّ من الناصري وقد تدَّربنا عند أقدامه على الغفران والمسامحة. و إن كان هو <<ــــ ناصريا ــــ>> فنحن تلامـيذه : ـــــ>>> النصــارى <<<ــــــ !.