أهلا وسهلا بالأخ فادي سركيس.
كتب الأخ فادي سؤاله كالآتي: جاء في الأنجيل أن يسوع كان ينمو بالقامة والحكمة. أ لا يُشبه هذا الأمرُ ما يعتقد به بعض الفلاسفة حول ” الأتحادية ” إذ يرتقي الأنسان ليتحّدَ بالله؟
نمو يسوع في القامة والحكمة ! لوقا 2: 52
ذكر لوقا هذه العبارة مرتين : الأولى بعد تقدمة يسوع الى الهيكل، حسب شريعة موسى (لا12: 3-6) في عمر أربعين يوما (لو2: 40)؛ والثانية هنا وليسوع إثنتا عشرة سنة، بعد جداله مع معلمي الشريعة في الهيكل، وردِّه على أمه ” أما تعرفان أنه يجب أن أكون لما هو لأبي”؟.
بينما ذكر لوقا في الأولى أنَّ الطفلَ يسوع ” كان ينمو ويتقوَّى ويمتليء بالحكمة، وكانت نعمة الله عليه”، مرَّكزًا بذلك على نموه الطبيعي كأي طفل إنسان محض ومشَّددًا على أنَّ الله مَّيزه بعناية خاصّة، شدَّدَ في الثانية على أنَّ نموه كان كاملا إنسانيا وإلهيا فقال” عند الله والناس”. إنسانيا بمعنى أن يسوع لم يبرز بشكل غير طبيعي ، أسطوري يجري الخوارق كما ذكرت بعض المصادر المنحولة، بل حسبما يقتضيه نظام الطبيعة البشرية وعلى أكمل وجه بدون نقص أو خلل ؛ وإلهيا بمعنى أنه كان يعي لاهوته، يعرف أنه واحد مع الآب (يو10: 30) ، وكرَّس حياته لأداء رسالته منذ البداية. لم يأت ليعملَ نجارا ،أو ليتخَّرج مهندسا أو طبيبا، أو ليتخذ مسلك معلمي الشريعة التقليديين. جاءَ ليعالج الخطأ الذي وقع على الطبيعة البشرية ، ويُغَّير المسيرة ، فبدأ أولا بمناقشة أصحاب السلطة الأيمانية مزعزعًا بذلك ثقتهم بأنفسهم و ثقة الشعب بهم ، فاتحا بذلك الطريق أمام نور الله ونعمته.
الأتحّــادية !
إن تعليم الفلاسفة الأتحاديين ينطلق بشكل طبيعي من ناسوت يسوع. يرونه إنسانا طبيعيا مثلهم ، ولا يرون أبعد من الحواس. يشهدون سلوكه يتسامى على سلوك غيرهم بآتجاه الروحانية ، مبتعدا عن التعَّلق بحاجات الحواس مثل بقية الناس و متجّهًا نحو سلوك إلهي. فرأوا في ذلك إرتقاءًا من الأنسان نحو الله وتقبُّلا من الله وإضفاء مسحة إلهية خاصة عليه. وكأنه موَّظفٌ لاحظ فيه رؤساءُه ذكاءًا وهمَّة وإخلاصا في العمل فرَّقوه شيئا فشيئا الى أعلى مرتبة ممكنة فأصبح صاحب الأمر والنهي، كما فعل الفرعون مع يوسف (تك41: 39-43).
إنه إرتقاءٌ مبني على إكتساب الأنسان مؤهلات روحية لم يبلغها غيره ، ويكون التأله بالمقابل مكافأة ، وآعترافا بإمكانية أن يرتقي أناس آخرون ويُصبحون آلهة!.
وأخـلى ذاته وآتخذ صورة العبد !
هذه الفكرة ينفيها الكتاب المقدس تماما ونهائيا. أولا نصنا هنا لا يتحملُ هذه المقولة. يسوع عمره إثنتا عشرة سنة يُصَّرحُ لأمه ألا تنسى ما قاله لها الملاك يوم بشارتها :” يكون ـ إبنُكِ ـ عظيما وآبن الله العلي يُدعى، ويُعطيه الرب الأله عرش أبيه داود (2صم7: 12-16)،.. ولا يكون لملكه نهاية “(لو1: 31-33). ولما يقول ” أكون لما لأبي” يؤكد بأنه المسيح الموعود والآله المتجَّسد ، وليس الأنسان المتأله!.
ثانيا تدعوه الرسالة الى العبرانيين ” بهاء مجد الله وصورة جوهره، يحفظ الكون بقُّوة كلمته ” (عب1: 3). ويكتب عنه مار بولس :” هو في صورة الله. لم يعتبر مساواته لله غنيمة. بل أخلى ذاته وآتخذ صور العبد، صار شبيها بالبشر وظهر في صورة الأنسان” (في2: 6-7). إذن يقوم الأيمان المسيحي على أنَّ يسوع هو الله ، مساوٍ للآب في الجوهر، ” تنازلَ الى مستوى الأنسان”، وآتحَّد بالناسوت فصار إنسانا حقيقيا، لا خياليا، يعيش كإنسان ويتصَّرف كإلـه. فالطبيعة البشرية يُحييها وينميها الشخص الألهي. هذا الناسوت رفعه الله، ” فيسوع المسيح هو الرب تمجيدا للاهوت “(في2: 11).
يمكن أن نفَّكرَ مع الفلاسفة بحالة القديسين والمتصَّوفين الذي يرتقون عن السلوك الحسي المحض ويتحدون بالفكر والروح الألهيين بحيث يتسامون في سلوكهم وأفعالهم عن بقية الناس. إنها حالة الأنخطاف كما يدعوها مار بولس أول المنخطفين (2كور12: 1-6). ذلك هو فعلا إرتقاءٌ وتسام ٍ في الطبيعة البشرية دون أن تفقد الشخصية البشرية و دون أن يكون إتحادها بالله جوهريا، بل روحيا وفكريا، ومؤقتًا فقط. أما في حالة يسوع فهناك تجَّسدٌ إلهي، تنازل لا آرتقاء، أى يتخذ الله جسدا ـ طبيعة ـ إنسانيا ( الخالق ينزل الى مستوى المخلوق !) ليعيش بين البشر فيروه ويلمسوه ويسمعوه و يحبوه و يؤمنوا به (1يو1: 1-3).
وعليه ما يفكره بعض الفلاسفة عن حالة الأتحاد الفكري والروحي مع الله لا يشـبه مطلقا ما يعلمه الأيمان المسيحي إستنادا الى وحي الله في الكتاب المقدس. فالآية ” يسوع ينمو بالقامة والحكمة ” لا تعني أنه إنسان محض نما بالنعمة إلى أن رفعه الله وجعله إلهـا. إنها تعني ببساطة أن جميع أموره كانت تكتمل بدون تشويه أو إعاقة أو خلل. سارت الأمور كلها حسب مقتضيات الطبيعة البشرية وحسب مشيئة اللـه الأزلية.