أهلا وسهلا بالأخ أبو إيمان
كتب الأخ أبو إيمان بأنُّه قرأ النص المذكور ولم يستوعبه جيِّدًا، لأنَّه يتحَدَّث عن سِرٍّ ومجد مرتبطين بالمسيح، دعاها في الأخير بـ ( سِرِّ الله ، أعني المسيح ) . وطلبَ إنْ أمكن ، إيضاحًا عنه.
جـذور السّــر !
كان الأنسانُ آدم يتمتعُ براحةٍ ومجد، لم يكن ينقصه شيء. لكنه طمع في أكثر. طمع في مجد اللاهوت. والنتيجة أنَّه خسر ما كان عنده. ولم يعُد بوسعهِ إسترجاعَ ما فقده. ترَّحمَ اللهُ عليه، لأنَّه صورته المحبوبة المُفَّضلة. فوعدَه بأن يُعيدَه الى مجدهِ السابق، وربَّما إلى أعظم منه. عاشَ الأنسان في هذا الأمل. وتحَّققَ المُنتظر إذ وفى اللهُ بوعدِه. وجاءَ المنقذُ المُحَّررُ وكان يسوعَ المسيح. المسيحُ كفَّرَ بدم حياتِه عن خطيئة الأنسان ، وبذبيحةِ جسدِه حَطَّم الحاجز الذي فصلَ الأنسان عن الله، وسَدَّ في وجهه سبيل التمتع بخيرات الفردوس وراحته. فأعلن أن كلَّ من ينتمي إليه بالأيمان به مسيحًا مُخَّلِصًا يعودُ الى المجدِ الأول، بل إلى أعظم منه (يو14: 12 ). ولم يقُمْ مسيحٌ آخر قبلَ يسوع ولن يقومَ غيرُه بعدَه. فيسوع المسيح هو، كما يُؤَّكدُ بولس في النَصِّ أعلاه ،” الرجاءُ الوحيد في مجد الأنسان” (أية 27). والمسيح لم ينتهِ بل” هو هو ، بالأمس واليوم وللأبد” (عب13: 8). هذا الرجاء لا يقتصرُ على الشعب المختار وحدَه، ولا على الزمان الذي ظهر فيه، بل يتعَّـداهُ إلى جميع الشعوب، ألى جميع الأجيال، إلى كلِّ إنسان (أية 28).
جهلوا سابقًا سِرَّ هذا المجد !
نسِيَتِ البشريةُ خبرَ المخَّلص الموعود. ولم يطفُ على السطح إلا مع دعوة إبراهيم وتكوين الشعب المختار. عاش هذا الشعب على أمل مجيء هذا المُخَّلص ليُعيدَ المياه الى مجاريها ويتنَعَّمَ الأنسانُ بالحياة برفقةِ الله. أمَّا بقية الشعوب الوثنية ، ومنهم مواطني قولسي ، فلم ينتظروا المسيحَ المخَّلص. لأنَّهم كانوا قد فقدوا أصلاً عن الله لا فقط الأيمان به بل كلَّ معرفةٍ عنه. لم يُؤمنوا بشيٍءٍ إسمه الروح والخلود، بحياةٍ سعيدة أو تعيسة بعدَ الموت. إنَّما طمحوا إليه. لكنهم إعتقدوا، حتى أجدادِ اليهود أيضًا، بأنَّ الأنسان ينتهي مثل الحيوان: ” مصيرُ البشريةِ والبهيمة واحد. ..ولهما نسمة حياةٍ واحدة. ..كلاهما من التراب وإلى التراب يعودان. ومَن يعلم هل تصعدُ روحُ البشر إلى العلاء وتنزلُ روحُ البهيمةِ إلى الأرض” ؟ (الجامعة 3: 19-21).
شعرَ الأنسان بقوَّة أعظم منه وأقوى، تتحَّكمُ فيه. لكنه لم يتمَّيَزْها. ولهذا أوجدَ لنفسِه آلِهةً من كلِّ نوع ولكل حاجة، يلجَأُ إليها ليُرضيها فيكفيَ شَرَّها، ويحتمي بها من شَرِّغيرِها. فأهل قولسي، مثلَ آلافٍ غيرهم، لم يسمعوا بالمسيح ولم يكتشفوا سِرَّه ولا المجدَ الذي يَعِدُ به إلا بعد بشارة بولس ومن تلاهُ من تلاميذ ورسل. وكانت غلاوةُ سرِّ المسيح عند الوثنيين أعظم مما عند اليهود، كما إعطاءُ البصر لأعمًى من مولِدِه أعظمُ من معالجةِ قُصرِ البصر لدى صاحبِ عينين!. كان لليهود بصرُ الأيمان بالله ولكنه كان قاصرًا ومُغَوَّشًا. أما الوثنيون فلم يكن لهم أيُّ نورٍ للأيمان بالله الخالق الدَّيان. وظلَّ هذا سِرُّ المسيح ” مكتومًا طوال دهورٍ و أجيال” إلى مجيء المسيح، وبشارة الكنيسة به. جاءَت البشارةُ المسيحية فتحًا لعين الأنسان على نور الحقيقة الأزلية وعلى واقع الحياة الزمنية. إنتشلت البشريةَ من الجهل بالتعريفِ بمصدر حياتها ومصيرِها، وفتحت أمامها كنوزالخيرات الألهية الأبدية. ونال منها الوثنيون حِصَّةَ الأسد. فقد إنتقلوا من جهلٍ مُطبَق إلى نور ساطع يلمع. وهذا غنى ذلك السر.
المسيحُ كنزُ الحكمةِ والمعرفة !
المسيح لقُرّائِه أنَّه ” كنزُ الحكمة والمعرفة “. يتمَّنى الناسُ أن يكونوا حُكماءَ في تدبير حياتِهم و، حتى يسهلَ ذلك، أن يعرفوا كلَّ شيءٍ من منبعِه. وقالَ الكتاب عن الحكمة : ” تحكمُ بقوَّةٍ ألكُلَّ، من طرفٍ الى طرف، وبعذوبةٍ تُدَّبرُ كلَّ شيء ..تُمَّجِدُ أصلَها بحياتِها مع الله، وهو ما زادَها مجدًا، حتى إنَّ اللهَ ذاتَه، وهو ربُّ الجميع، وقعَ في حُبِّها فمنَحَها معرفَتَه الخفية وترَكَها تُنَّفذُ أعمالَه ” (حك8: 1-4). وهذا يَدُّلُنا على إكتشافِ المسيح أنَّه ” الحكمة و المعرفة الألهية ” التي خلقت الكون ونظَّمته، ” به كان كلُّ شيء، وبغيره ما كان شيء، هو الحياة لكل موجود” (يو1: 3-4)؛ إنَّه اللهُ نفسُه. ولم يُكَّذِبْ يسوعُ الخبر. وقد أعلن أنَّ ” من رآه رأى الآب” و”أنه والآب واحدٌ” (يو14: 9؛ 10: 30). وقد حُكم عليه لأنه ساوى نفسَه بالله (يو5: 18؛ متى 26: 65)؛ والحكمةُ الألهية تدَّبرُ الكون بعذوبة، بلطفٍ لا بعنف، بحُّبٍ لا بكُرهٍ ، بالرعايةِ لا بالأهمال. هذا هو الله. وفي” المسيح يحُّلُ جميعُ كمال الأُلوهيةِ حُلولا جسديًا ، وفيه تُدركون الكمال “(قو2: 9).
هذا هو السر الذي بشَّر به بولس أهل أثينا وباقي مناطق البلاد اليونانية (أع17: 22-31)، وآكتشَفه المهتدون من الوثنيين فأحَّبوا الميسح وآتخَّذوهُ مثالاً حَّيًا لحياتِهم. وهذا هو ما يسعى إليه بولس، ويُجاهِدُ في سبيلِه كلُّ رسولٍ تلميذٍ للمسيح لكي يفرحَ الناسُ ويرتاحوا و تشتَّـدَ أواصرُ المحبة بينهم ، ويتقَّوَوا فتتضاعفَ عُمقًا معرفتُهم لله، وتتَّسِعَ حكمتُهم بتَبَّني أخلاق المسيح (في2: 5) . وهكذا يعرفون المسيح على حقيقتِه : من هو، وماذا يريدُ من تلاميذه، وماذا يقدر أن يفعَله لهم. أكَّـدَ بولس أنَّ كلَّ ما يُحَّقِقُه هو بفضل” قدرة المسيح التي تعملُ فيه عملاً قَوّيًا “.(أية 29). بهذا تُبَّشرُ المسيحية وتعظُ كلَّ إنسان، و تعَّلِمُه ليكون صورةً كاملةً عن المسيح، بحيث يتهَّيَأُ ، لمن يراه ُ، أنَّه يرى المسيحَ نفسَه. تُؤَّدي المسيحية هذه الخدمة لتنويرالجُهلاء، ولوقايةَ الضعفاء شرَّ الناس الأشرار الذين دأبُوا أن يجتهدوا في خِداعِ الناس بكلام معسول و وعودٍ مغرية لغايةٍ في أنفسِهم. لقد تعَّودَ أهلُ العالم على التظاهرِ بالحكمةِ وبالتفَلسُفِ ولاسيما بالأفتخار بالذات والغرور بما يملكونه من مكانةٍ إجتماعية ومال وجاهٍ لا يُدانيه غيرُهم. لا غرابة في ذلك عندما لا يؤمن الواحد بغير نفسِه وبغير العالم الذي يَلُّفُهُ ويعزلُه عن الله. أما المسيحية فتكشفُ زيفَ تلك القيم وزوالَها ، و تُبرزُ القيم الحقيقية في المسيح، التي لا تعارضُ إقتناء الخيرات الزمنية إنَّما تُزيلُ اللثامَ عن زمنيتِها وعدم فائدتها لحياة الأنسان بعد الموت. ولتُؤَّكدَ خاصَّةً للمؤمن المحِّبِ للمسيح أنَّ إيمانَه كنزٌ عظيمٌ يجبُ حمايتُه ، فيتحَذَّر من المُخاطرةِ بفقدانِه.
فيكم نظامٌ وثباتٌ في الأيمان !
وعليه سُرَّ بولس لِمَا رآه في أهل قولسي من نظامٍ يسودُ حياتَهم، ولاسيما سهرهم وجهادِهم للثباتٍ في الأيمان. لأنَّ الأيمان في خطر الزوال والأخلاقَ في خطر السقوط. ذلكَ لأنَّ عدُّوَّ المؤمنين لا يهدأُ عن محاربتهم. فهو خصمٌ لدود ” يرودُ كالأسدِ الزائرِ في طلبِ فريسةٍ له. فدافِعوا، راسخين في الأيمان، عالمين أنَّ إخوتَكم المنتشرين في العالم يُعانون الآلامَ نفسَها ” (1بط5: 8-9). المسيح كنز الحقيقة والخلاص، والإيمان به كنزُ كلِّ مُعَّـمَدٍ بآسمِه، و يحتاج إلى حراسةٍ متواصلة. وهذه الحراسة لن تقوم إلا على أساس المحبة الصادقة ليسوع، وعلى التعَّلقَ به، كما يتعَّلقُ الغريقُ بخشبةِ النجاة. الأيمانُ جوهرةُ الحياة. والرسالة إلى العبرانيين عَرَّفتْهُ بـ ” ضمان الخيرات التي تُرجى”، ومدحت إيمان كثيرين من الآباء القدامى والأنبياء والقدّيسين. وإن شاءَ الله يشمل هذا المديح كلَّ مؤمن يحافظ على جوهرة إيمانِه ويتفاعلُ معه للصمود في الحَّق والبِر، حتى يبلغَ، في الكمال، إلى ملءَ قامةِ المسيح.