أهلا وسهلا بالأخ فادي رعد
قرأ الأخ فادي موضوع ” لماذا يفرض الله إرادته” وعلَّق عليه مثل آخرين وتساءَل بالأخير” ::- إذا إعتذر آدم فمن يتحَّملُ عقوبةَ خطيئتِه ؟ ::- وكيفَ يتّمُ عدلُ الله ؟.
المزمور 129 !
وإذ كنتُ قد إستشهدتُ بالمزمور 129: 3 بأنَّ الله لا يترَصَّدُ خطايا الأنسان وإلا لما تبَرَّأَ أحد وبقي حَيًّا ، إعترضَ عليه الأخ فادي على أنه المزمور 130 : 3 وليس 129: 3. لعلم الأخ فادي ، وأعتقد أنَّ كلَّ قراء سفر المزامير يُلاحظون أن المزمور يحملُ الرقمين معا كما يلي: مزمور 130 (129). ويبدأ هذا الترقيم الثنائي من المزمور9 الذي يقسمه النص العبري إلى جزئين 9: 1-21 ، و 9: 22-39، ذلك لأسباب العبادة الطقسية، وأعطى القسم الثاني الرقم 10. بينما حافظ النص اليوناني على وحدة المزمور برقم واحد، وتبعه بذلك النص اللاتيني. لكن المزامير بقوا، رغم ذلك، 150 مزمورًا. كيف ؟
إِنَّ تجزئةً أخرى حدثت للمزامير. هذه المرَّة قسَّمَ النصُ اليوناني المزمور 146 اليوناني الى جزئين، هكذا : 146: 1-11 و 147: 1-9 ، فصار يقابلُ العبري 147 : 1-20. وطرأَ تقسيم ثالث على النص العبراني وجاء أيضًا في النص اليوناني، وتبعه في ذلك النص الأرامي المستعمل في الكنائس الُسريانية ويُعرَف بـ “البسيطة”، وتستعمله الكنيسة الكلدانية بنوع خاص وبكثرة في نصوصها الطقسية. والمزمورالمُجَّزَأ هو، هذه المرة، الرقم 113 اليوناني وسيقابل المزمورين 114 و115 العبري. لكنه يعود سريعًا على رأب الشَّق فيوحد مزموريه 114 و115 ليقابلا المزمور العبري 116. وأنا لكوني أستعمل النص الآرامي حسب الطقس الشرقي الكلداني فأعطيت الرقم 129 لأنه يتفق أولاً مع اليوناني، وثانيًا لأنَّ الكتب المقدسة كلها تشير إلى هذه الخصوصية بإِعطائها الرقم العبري وبين القوسين الرقم اليوناني. ولعلم القراء الكرام إستعملت الكنيسة من زمن الرسل ، وبشكل رسمي، النص اليوناني دون أن تهملَ العبري.
من يتحَّمل العقوبة، إذا آدم إعتذر ؟
أبسط الأجوبة يكون : وهل يكون هناك غقوبة ، بعدَ أن يكون آدم قد إعترفَ بذنبه وآعتذر عنه، وغفرَهُ له الله ؟. هل يُعاقبُ اللهُ الأنسان إذا غفرَ لهُ زلَّته؟. هل عاقبَ الله اللصَّ اليمين بعد أن غفرَ له؟ أ لم يقُل له : اليوم تكون معي في الفردوس؟. هل عدالةُ الله هي أنْ يتشَّفى بعذابِ من خلقَه للكرامةِ والسعادة؟. أم أنَّ رحمَتَه تتفَوَّقُ عدالتَه فيُعطي الله الفرصَ العديدة للخاطيْ أن يتوبَ ويحيا أمامه؟. أما هكذا قال بفم حزقيال النبي :” أَ بموتِ الشِّرير يكون سروري؟. .. كلا، بل بتوبتِه عن شرِّه فيحيا” (حز18: 23 ؟. أعتقدُ أنَّه علينا أن نرفعَ تفكيرنا إلى مستوى الله الروحي حتى نفهمَ فكرَه هو، ولا نُنْزِلَ فكرَ الله الى مستوانا. صحيحٌ انَّ اللهَ تنازلَ عن مجدِه وتخَّلى عن راحتِه فشاركَ شقاءَ الأنسان و بُؤْسَه. إلا إنَّه لم ينحدِر إلى حالةِ خطيئة الأنسان. بل ظَلَّ قدّوسًا حتى يُقَّدسَ البشرَ أيضًا. و إذا كان الله يُعاقبُ البشر الخاطئين فلماذا يُشرقُ عليهم كلَّ يوم شمسَه ويُنزلُ عليهم مطرَه؟. بل ولماذا تجَّسَدَ وقبل الإهانة والضيق والعذاب وحتى موت الصليب من أجلهم وهم خطَـأة؟ علينا إِذًا أن ندخلَ إلى عمقِ فكر الله وإلى شِدَّةِ حنانِ قلبه قبلَ أن نتَّهمَه بأَّنه يُعاقبُ الناس. إنَّها الخطيئة التي قبل بها الأنسان وتلَذَّذ بها وبَرَّرَها هي التي تُعَّذبُ الأنسان. أبعَدَته عن الله حتى لا يشتركَ في خيراتِه الأبدية ولا يتمَتَّعَ بمجده وراحتِه.
علينا أن نحاولَ فهم الكتاب ،لا أنْ نُقَّوِلَه بما في ذهننا فنُفَّسرَ الآياتِ من جهةٍ مفصولةً عن مجمل الكتاب، ومن أخرى حسبَ حرفها الظاهري. وإذا كان البشر يُقِّرون أنَّ من إعترفَ بذنبه فلا ذنبَ له!. لماذا ؟ لأنه بآعترافه يُبَّينُ أن خطأَه لا يتجَّذر في الفكر والقلب بقدر ما هو ثمرة العاطفة الجيَّاشة ، وأنه لا يُبَّررُ فعلتَه. وكم بالحري إذا لا فقط ندِمَ عليها بل طلب العفوَ عنها مُلتجِئًا إلى رحمةِ العدالة لا إلى سيفها؟. يقول الرب :” ليتكم فهمنم هذه الآية : أريدُ رحمةً لا ذبيحة” (متى12: 7)، ويضيفُ :” فآذهبوا وتعَّلموا معنى هذه الآية: أريدُ رحمةً لا ذبيحة “( متى9: 13؛ هو6: 6). وإذا تأملنا بعمق في قصَّةِ آدم نندهش ونستغربُ موقِفَه. يتنَّصلَ عن مسؤوليتِه وهو يحُّسُ بقوة بنتيجة تصَّرفِه. لا يعترف أنه هو أخطأ، بل يلقي اللوم والتبعية للمرأة. في حين وصَّاه الله هو وليس حواء. لم يُصَّدق كلام الله بل صدَّقَ المرأة. فلو نقف دقيقة ونتأَّمل في الموقف : أيُّهما أخطر وأهَّم : هل أكلُ الثمرة أم الإصرار على التنَّكر لمسؤوليتِه؟. وهل حسبَه الله على أنه أكل الثمرة أم لأنه :” لأنَّكَ سمعتَ كلام إمرأتكَ فأكلتَ من الشجرة التي أوصيتُكَ ألا تأكلَ منها:؟ (تك3: 17). وعند إلقائِه اللوم والتبعية على المرأة إنغمس آدم أكثر في سوءِ نيَّتِه، لأنه ألقى اللوم بالتالي والمسؤولية على الله نفسِه، :” المرأةُ التي أعطيتني لتكون معي هي أعطتني من الشجرة فأكلتُ” (تك3: 12). يُصِّرُ آدم على أنه لم يخطأ، لكنه لم يعترض، مثل قائين، بل تحَّملَ نتيجة فعله.
كان تصَّرفُ آدم مثل مُعَّلمٍ تلَّقى التعليمات من الأدارة وبَلَّغها الطلاب، ثم تبعَ دعوة طالبٍ وخالفَ التعليمات ، وأصَّرَ أنه لا ذنبَ له لأنه لم يُخَطِّط هو للمخالفة بل تبعَ نصيحة طالبِه؟. ثم إتَّهمَ الأدارة على خدمتها التدريسية!. إنه غباءٌ لا يُضاهيه غباء، وإصرارٌ على الشر يُضاعفُ مسؤوليته أكثر من أن يُخَّففَها. وآدم فاقَ حتى هذا الإصرار لأنه بادر هو أولاً بالتسَّتر على خطأِه والأبتعاد عن الله بالأختباء عنه. فلو لم يتصَّرف هكذا بل ركضَ الى الله الذي ناداه وآعترف بفعله وآعتذر كان سيُبرهن على إستمراية صفاء نيته ونقاوة قلبه، وأنَّه إنخدعَ بعاطفتِه وشهوتِه فتبعها عن جهل وليس عن سبق الأصرار عليها. إنَّ خطيئة الأنسان لم تُشَّوه مجدَ الله ولم تقُد الى التصور بأنَّ عملَ اللهَ ناقصٌ حتى يُعاقب الله هذا الأفتراء أو ليستعيد نقاوة سناءِ مجدِه. ولا كانت حاجةٌ الى تنفيذ العدالة بطلب التكفير عن الخطيئة. والتكفيرُ تمَّ أصلا بتعلم الطاعة لله لا أكثر. لكنَّ هذه الطاعة بالذات ستُكَّلفُ المخَّلص غاليًا لا بموت الجسد وآلامِه بل بأنَّ الأنسان هو الذي سيقترفُ جُرمًا أكبر بسبب جهله وعمى قلبه فيقتل من سمع كلام الله. لكن مرسلَ الله وممثل الأنسان يثبت في الطاعة لله ناكرًا جسده وقابلا الموت مقابل الصمود في صداقة الله وعدم الأبتعاد عنه، :” لا تكن مشيئتي بل مشيئتك “(متى26: 39). في آدم ظلَّ الغعل في الأنسان. ولم يُعاقَب الأنسانُ بقدر ما قبلَ الله أن يدفعَ الأنسان ثمن سوءِ تصَّرفه ليستعيد قوَّة برارتِه ويُشَّغلَ حُبَّه فيتعَلَّقَ بالله أكثر مما بشهواتِه. ولو إعتذرَ حالاً وبقي الشر في الجسد ولم يمتَّد الى الروح، الى الفكر والقلب، لكان الله غفر له. لأنَّ الرَّبَ أكَّدَ أنَّ الشر يُقَّيَدُ سوءًا لا بصورته المادية بل بالروحية :” ما يدخلُ الفم لا يُنَّجسُ الأنسان بل ما يخرجُ من الفم يُنَّجسُ الأنسان.. لأنَّ من القلبِ تخرجُ الأفكارُ الشّريرة ..” (متى 15: 11-20). فخطيئة الأنسان ثبُتَتْ عندما أصَّرَ عليها ولم يعتذر عنها. بينما لو إعتذر فرحمه الله وغفرها له قبل أن تثبت لما تقَّيدتْ تلك المخالفة ” خطيئةً”، لأنها لم تمُسَّ جوهرَه الروحي.
أين عدالة الله ؟
أما عن العدالة التي طالبَ بها محاوري الكريم، فأولاً : تُجرى العدالة بعدَ وقوع الخطأ، ونحن “نفترض ” الحالة لو لم يثبت الخطأ لأنَّ الله عفا عن المخالفة المادية لا الروحية. وإذا عُوفي عن الذنب فلا يقعُ خطأٌ ولا يُسَّجلُ ظُلمٌ يُطالبُ بعدالة ؛ و ثانيًا : نحن نعيش حاليًا في جوِّ ” الأنسان الخاطي”، وكلُّ حساباتنا وآجتهاداتنا مبنيَّةٌ على الواقع المعاش من جهة ومن أخرى على نظرتنا إلى “الخلاص” على أنَّه مبنِيٌّ < فقط > على التكفير عن الخطيئة بالعقوبة ونتجاهل بسهولة الوجه الثاني للخلاص ألا وهو تجديد خلقِ الأنسان وتزويده بالروح القدس الألهي، ورفعه بذلك إلى بُنُّوةِ الله والعيش في مقاييس الحياة الألهية. ننسى بسهولة تجسُّدَ الله وتكريمه بذلك لطبيعة الأنسان، وبسحقِ رأس عـدّو الله ودينونة رئيس العالم ( يو16: 11). نفهم العدالة بمقاييسنا البشرية أنها محاسبةٌ فدينونةٌ بالجناية على الخاطئين لأنهم ظلموا الحَّق فيُنزَلُ بهم عقابٌ تأديبًا لهم وتعويضًا عن ظلمِهم وتحذيرًا لغيرِهم. ولهذا لا نرى في الكتاب إلا هذه الصورة ولا نلاحظُ كثيرًا بأنَّ الكتابَ يُصِّرُ على أنَّ الخطايا هي التي تدينُ وتحكم على الخطأة. أمَّا الله فلا حتى يُحاسبُ لأنه يعرفُ الحقيقة ولا يحتاجُ الى تحقيق. ولا يدين لأنه يُعطي الفرصَة للحياة. فقبل أن يُعاقبَ خاطِئًا يُصِّرُ على دعوته إلى سلوك طريق القداسة، طريق الحق والحب. ويُصِّرُ أيضًا على مساعدته على ذلك بتزويده بالتعليمات التي ترشده الى الحق والحب، وبالوسائل التي تساعده عليه. ويُصِّرُ اللهُ على أنه يريدُ أن يتوبَ الخطأةُ ويخلصوا. أما العقاب فيكفي الخطأَةَ توبيخُ ضميرهم وعذابُ روحهم. وقد إختبرَ آدم ذلك فآستحى، وخافَ من الله فآختبَأَ !. عليه نلاحظُ أنَّ الغفران بالنسبة الى الله هو عدم تعامله مع الخاطيء نظرًا الى خطاياه بل نظرًا الى توبته من عدمها. وهذا ما تُكَّررُه وتعَّلمه الكنيسة في كل قداس عندما يقول الكاهن :” نحن منتظرون رحمتك فلا تعاملنا بحسب خطايانا بل أهِّلنا جميعًا للمغفرة …”. وحتى لو ظهرت آثار الخطايا على أحفاد الأولاد لكن الله أكَّدَ بأنَّ رحمته تمتَّدُ الى آلاف الأجيال (خر 20: 5-6). وذكَّرنا الرب يسوع بأمثلةٍ عديدة على ذلك: مثل العبد عديم الرحمة {متى 18: 23-35)، وعلى عدم محاسبة الخطأة :* الخاطئة -:- لو7: 47-:- والزانية -:- يو8: 11-:- واللص -:- 23: 40-43-:- وبطرس -:- متى26: 34؛ يو21: 15*.
وكذلك العدالة تعني، بالنسبة الى الله، التوبة وتغيير السلوك وإبداء الثقة بإرشاداتِ الله. لابُدَّ وقد سمع القراءُ الكرام بسر عذراء فاتيما الذي أعلنته الكنيسة للعالم وكان يتحَّدث عن رؤيا عاينها الرؤاة الثلاثة تُنبيءُ، بالصور، عن إضطهاد العالم ضد المسيحية وآستشهاد مئات الألوف من المؤمنين والكهنة والأساقفة وحتى الباباوات ، منها محاولة إغتيال البابا القديس يوحنا بولس الثاني سنة 1981م، ليمنعهم عن الشهادة للمسيح ويقضي على الحَّق. لكن الكنيسة ظلَّت وستظَّلُ تؤدي رسالتها بالشهادة للمسيح، وآنتصرت على مُضطهديها. فرفع ملاكٌ سيفًا بآتجاه البشرية ليُحّلَ بها عقابَها العادل، لكن العذراء مريم مدَّت ذراعَها وحجبت السيف ومنعته من إنزال العقوبة وطلبت السلام. فنادى الملاك بصوتٍ عالٍ : ” التوبة ، التوبة ، التوبة “، ثم آحتجبت الرؤيا. هكذا تابَ زكَّا وغَيَّر سلوكه -:- لو19: 9-10-:- فعل مثله الأبن الضال -:- لو15: 20-24-:- ولو تاب آدم الأول لربما غفر له الله. لكنه تكَّبرَ و تحَّدى وصية الله. وتمَّ الخلاص بتواضع آدم الثاني وطاعته، غَيَّرَ سلوك الأنسان الخاطيء (في2: 6: 11). ما طمح به آدم ناله يسوع. فالمزمور 129 (130) يدعو الى الثقة برحمة الله رغم تفاقم الشر الى حدَّ اليأس. لأنَّ رحمة الله فوق عدالتِه. وقد رحم آدم، الذي خسر مجده، أكثر من معاقبته له. وعده بالخلاص وتجّسَّدَ من أجله وحمِلَ شقاء البشر وخطيئتهم وسَمَّرها على الصليب ليفتح بعده طريق الفردوس السماوي رافعًا الأنسان الى مرتبة الأبن الوارث لمجده وخيراتِه. مُظهرًا بذلك شِدَّة حُبِّه وجبروت حَقِّهِ الذي لا يقدر أحدٌ أن يقف بوجهه.