أهلا وسهلا بالأخ أبو الشفرة الصينية !
لاحظ السائل الكريم، وقد أخفى إسمه برموز صينية، بأنَّ مادة “علم اللاهوت” مترجمة في بلادنا الشرقية من الكتب الغربية، أى لاهوتيو الشرق لا يعملون سوى نقل ما فكره وكتبه لاهوتيو الغرب، وقد وصلنا إلينا عن طريق الأرساليات اللاتينية. وبما أن الغرب بلدان بل و قارات فلاحظ أن الفكر اللاهوتي يتغيَّر ويختلف من بلد لآخر ويتخذ اسمًا خاصا يُمَّيزُ به. وهكذا فقد قرأ عن لاهوت التحرير لأمريكا اللاتينية واللاهوت الأسود، كما يسميه، لأفريقيا والأبيض لأوربا. وقد قامت هذه الصيغ المختلفة بسبب العوامل البيئية والفكرية والحضارية الخاصة بكل فئة وبلد. وهذا بالذات يجعلها نوعا ما غريبة عن فكرنا نحن الشرقيين {{ رغم تغَّربنا !! }} ولا تتفاعل مع فكرنا الأصيل وتطلعاتنا المشروعة. مع العلم نحن أقرب الى منبع علم اللاهوت وقد ترعرعنا في بيئة الكتاب المقدس وأرض النور، بدءًا من العراق و مرورًا بمصر وآستتبابا في فلسطين وبلاد بين النهرين. ورأى أنَّ الشرقي أولى بكتابة لاهوت خاص يفاخرُ به. فسأل :
# هل يتغَّير اللاهوت من بلد لآخر، ومن بيئة لأخرى ؟
## لماذا لا يكون لنا لاهوتنا النابع من واقعنا ؟
### لماذا نستورد الفكرَ اللاهوتي من تراجم غيرنا ؟
وهل نستورد ؟
بل وماذا بقي للشرق لم يستورده من الغرب؟. يقول المثل” من له علو الكلام هو سيد القوم” ؛ وأقولُ” ومن له الباعُ الطويل هو يحصد الزرع”. ليس الأمر: ماذا نستورد أو ماذا نُصَّدر. يخص الأمر كيف نعيش ونفكر وكيف نتفاعل مع الآخرين. إنَّ وضعَ الأنقسامات في الشرق وبالتالي الصراع الداخلي بين الطوائف والفئات مسح من قاموس الوجود “الأستقرار”. أمر نابوليون بونابرت برفغ كلمة” مستحيل” من القاموس لأنها كانت سَدًّأ ضد التطور والتقدم إذ تُهبط من معنويات الباحثين وتضعفُ رغبتهم في الأستمرار في البحث. هكذا مُسحَ الأمنُ و الأسنقرارُ بالنسبة الى الشرق الذي كان في بدء الكنيسة نورا مشرقا وسدا لاهوتيا منيعا ضد الهرطقات بحيث فيه أثبتت المجامع الكنسية قانون الأيمان وسُطِرَّتْ الخطوط الأساسية العريضة لعلم اللاهوت ، أصبح بعده ساحة للخلافات والصراعات حتى أضاع طريقه إلى تقدم علم اللاهوت وتطوره. وأستلم منه الغرب راية الفكر بسبب الأستقرار والأمن السائد فيه، وبسبب توفير كل الفرص وإمكانات البحث والمطالعة لاسيما في المؤسسات الرهبانية التي توشحت باللاهوت وآقتاتت منه فزرعته ونشرته في العالم. وبينما تخلف الشرق عن البحث العميق والمستقيم تقدم الغرب في تطوير علم اللاهوت بضمان القيادة البطرسية لمسيرته وتكريس تطلعاته.
وقد يكون تواجد الأرساليات الرهبانية الغربية، وقد طلبها الرؤساء الشرقيون المتكثلكون عونا لهم، لا للتغطية على الفكر الشرقي بل لضمان الأيمان المستقيم ولآعطاء فرصة جديدة للمفكرين الشرقيين ان يبرزوا ويؤدوا رسالتهم. أتذكر، وأنا طالب اللاهوت، أن معلمنا كان يدرسنا لاهوت توما الأكويني العبقري ولكن يستشهد من حين لآخر بالأساس اللاهوتي الذي وضعه الشرقيون مثل مار أفرام وعبديشوع وأثاناسيوس ويوحنا فم الذهب وغريغوريوس و باسيليوس وأوغسطينوس وغيرهم. فالغربُ لم يتنكر للاهوت الشرق، إنما خمد نور الشرق بسبب ما آلى اليه. وإذا آضطرم من جديد فلا ينوي الغرب إزاحته. ربما آلى تواجدُ اللاهوت بصيغته الغربية إلى نعمة للشرق لئلا ينطفيءَ نوره المسيحي كليا. وإذا كنا قد صَدَّرنا سابقا فليس غريبًا ولا إستعمارًا أن نستورد ثمارَ ما زرعناه.
لاهوت يختلف !
وهنا ينبغي لنا أن نتفِقَ أولاً عن ماذا يعني لنا ” اللاهوت”؟. إذا عنينا به العقائدَ والمباديء الألهية للحياة، أى ما هو ثابت ولا يقبل التغيير فنحن متوهمون. أما إذا عنينا به البحث و الجهد العلمي، على مرالعصور، لإدراك محتوى تلك العقائد وهي تخُّصُ جوهر الله ومشيئته ولأيجاد السبل الصحيحة والملائمة لكل جيل وعصر ومصرللتفاعل معها وتنظيم حياته على ضوئها عندئذ نكون قد أصبنا الهدف وأدركنا معنى اللاهوت. فاللاهوت إذن هو دراسة و بحث فكري عن حياة الله، في جوهره و إرادته، على ضوء الفلسفة والعلم والتأريخ منطلقين من الوحي الذي أنزله علينا ، و ضمنه الكتاب المقدس، وعلاقته بالكائنات ولاسيما الأنسان. الله والعقل والعلم لا يتغيرون. أما التأريخ والأنسان الذي يصنعه فيختلفُ من بلد لآخر ومن عصر لآخر ومن حضارة لأخرى ومن بيئة لأخرى، وحتى من شعب، ذي عقلية وظروفٍ خاصة ، إلى شعب آخر.
وهكذا ظهرت تيارات مختلفة في الفكر اللاهوتي وليس لاهوتا مختلفا، تبعًا للبيئة والحضارة والظروف الخاصة التي تمر بها المنطقة. فقام مفكرون لاهوتيون يبحثون في إيجاد طريقة تلائم سكان تلك المنطقة ليفهموا الله بسهولة على حقيقته ولكي تكون علاقتهم مع الله ومع القريب على أفضل ما يمكن أن تكون. مثلا لما بشَّرَ الأوربيون البيض سكان أفريقيا أدخلوا معهم أيضا وسائل إيضاحهم ” البيضاء” من صور وتماثيل وغيرها مما كانوا يستعملونه في بلدانهم ويحتاجون اليه. ولم يكن الأفارقة السود يهضمون ذلك بسهولة. ولكن لما بدأوا يصورون وينحتون من خشب ولون أسود، وأدخلوا الى الطقوس بعض عاداتهم وتقاليدهم السليمة، حتى رقصات روحية، أصبحوا عندئذ يشعرون أن المسيح ومريم منهم ولهم وبدأوا لا يميزون بين بِشرة سوداء أو بيضاء، فآمنوا بكل قلوبهم وعبدوا الله في الروح والحق. و ليس بعيدًا أن يجلس عن قريب على كرسي بطرس بابا أسود.
أما أمريكا اللاتينية فلأنها عانت من موجة إقطاع متوحشٍ وقاسٍ وتمَّيز القادة بتعسفهم و طغيانهم، ويئس الشعب من تعاسته وعذابه، بدأ اللاهوتيون يفكرون كيف تقام علاقة سليمة بين الشعب والقادة والقضاء على الظلم و” تحرير” الشعب من مأساة يأسه. ولما طَخَّ بعضُ اللاهوتيين سياجَ إستعمال العنف والسلاح أوقفتهم الكنيسة عن التقدم أكثر بل حرمت بعض البنود التي أثارَها بعضُ اللاهوتيين وهم يبررون الثورة المسَّلحة ضد الطغيان. بقي جهدُ المفكرين” لاهوتًا “، بما يعنيه من تنظيم العلاقة الصحيحة بين الله والأنسان لشعوب أمريكا اللاتينية. ولكن عندما مالت بعض قناعاته إلى معارضة تعليم المحبة واللطف والغفران رفضت الكنيسة تلك البنود ولم تعترف بها لاهوتا صحيحًا ورفضته تعليما مخالفًا للعقيدة الأيمانية.
لم تكن ظروف أفريقيا وأمريكا اللاتينية ولا حضارتهم مثل أوربا فآختلفت طرق التفكير و االتطبيق من قارة الى أخرى. أما آسيا فلم تشعر كثيرا بفارق يُذكر بين نور تفكيرها ونور تفكير أوربا. بدأ هذا الشعور يظهر على صفحات كتب لاهوتية شرقية فقط بعد الأنقسام. فصارت القناعة الشخصية بتفسيرهذا التعليم أو ذاك من الكتاب المقدس تنطلق من الأختلاف العقائدي السائد وليس من البيئة والحضارة الأصيلة. بديهيٌ أو مُفترَضٌ أن يكون الشرقي إبنُ أرض الوحي والأيمان مُؤَّهلاً أكثر من غربيٍّ غريبٍ عن حضارة المنطقة وعاداتها لآستيعاب فحوى البشارة على وجه أدق. لكن الفكر والأيمان ليسا حصرًا على الحضارةِ و البيئة. بل هما أيضا من السماع والحب. يقول مار بولس:” إذا شهدت بلسانك أنَّ يسوعَ رَبٌّ ، وآمنتَ بجنانك أنَّ الله أقامه.. نلت الخلاص… و كيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون بغير مبشر.. فالأيمان إذًا من السماع”(رم10: 9-17).
لاهوت ينبعُ من واقعنا !
يعرفُ اللهُ واقعنا وقد لا يروقُ له كثيرا. بل يتسامى عنه ويختلف عن فكر الأنسان،” كما علت السماوات عن الأرض علت طرقي عن طرقكم وأفكاري عن أفكاركم “(اش55: 9). فما نفع الأنسان أن ينطلق من واقعه ليكتشفَ ما يرضى عنه الله وما يبني حياة الأنسان. بل يحاول بذلك أن يُنَّزلَ الله الى مستواه. في حين علم الله يصبو الى معرفة حقيقة الله في حياته ومشيئته ليبحث فيجد السبيل الأفضل للتاصل مع الله مصدر حياته. إذا كان اللاهوت علم الله فقد تفيدنا المخلوقات وعجائب الدنيا لتشعرنا بعظمة الله وسموه وحتى عنايته ولكن ذلك لا يقدر أن يعرفنا على جوهر الله في ثالوثه القدوس ومحبته ورحمته وقداسته. لذا على اللاهوت أن ينطلق من الوحي في الكتاب ومن تأريخ الخلاص ليرسم صورة الله الحقيقية ، و إلا سوف يرسم كل لاهوتي من بلد مختلف صورة لله مختلفة عن التي يرسمها غيره ، و يحدد لله مشيئة تتماشى مع ذهنية سكان المنطقة وأحوالهم مناهضة لما في مناطق أخرى فتكثرعندئذ الآلهة على عدد اللاهوتيين والبلدان والحضارات و.. بينما مطلوب من اللاهوتي الجدي والمستقيم أن يُبيَّن أن لا إلاه إلا واحد خالق الأنسان الواحد.
يكون ممكنا الأنطلاق من واقعنا إذا عنينا من كيان الأنسان الواقعي الذي لا هو إلَـه ولا هو حيوان بل بينهما له جسد حيواني وله روحٌ الهية. أما ما يخص الحيواني فالأنسان يعرفه و يعيشه لكنه لا يشبع به ولا يرتاح اليه دوما بل يؤلمه كثيرا. بالمقابل يطمح الى حياة أفضل فيبحث عن الروحاني ليعرف نموذجه الألهي ويضمن راحة نفسه وسعادة حياته. فيبحث عن الله الذي يتصوره مثله ولكن مختلفا عنه وأسمى منه. ويحتاج عندئذ الى رؤية صورة الله التي رسمها له في وحيه وأعماله. ولما عرف صورة الله الحقيقية وإرادته السماوية الأزلية عندئذ يقدر أن ينحدر الى الأنسان ويرسم له الصورة المجيدة التي يجب أن ” يتحَّوَلَ إليها ” (2كور3: 18)؛ لأنه خُلقَ أصلا عليها لكنه شَوَّهها وأساء التصرف فـفقد مسارَها.
وما دام الله واحد لا يتغَّير لا في طبيعته ولا في مشيئته فإذًا لا يمكن أن يكون هناك إلا لاهوتٌ واحد صحيح وكامل. ولكن ما دام الأنسان غير كامل ولا يمتلك ناصية الحياة الحَـقَّة لذا لن يكون أي لاهوت كاملا يصلح لكل البشر في كل الأزمان وكل الأمصار. بل يبقى بحثًا أحسنَ من غيره وجهدًا أفضلَ نحو التقرب من الكمال.
ولما اختلفت طرق التفكير وأساليب البحث بين شرقي وغربي ، بين أوربي وأمريكي فلم يكن مرده الكتاب المقدس بل البيئة الخاصة. لكن الله ليس إلَـه بيئةٍ أو حضارةٍ أو شعب معين. هو الله خالق الجميع والمعتني بجميعهم والذي سيحاسبهم كلهم. فنِعّمَ اللاهوت الذي يعرف أن يتعرفَّ على الله كما هو ولا يتقيد بميزات بشرية. أ لم يكن لله لاهوتيون إختارهم من بين الشعوب ماذا فعلوا وماذا حصل لهم؟. أهملوه، وآنطلقوا من ذاتهم و واقعهم فخسروا الحياة، كما صرح به يسوع:” أنتم لا تعرفوني ولا تعرفون أبي” (يو8: 19)، لذا ” سوف يُنزع عنكم ملكوت الله” (متى21: 43) ، و” سيأتي أناسٌ كثيرون من المشرق والمغرب و يجالسون ابراهيم .. في ملكوت السماوات” (متى8: 11). اللاهوتيون الحقيقيون هم من يبحث عن الحياة فلا يهم من اين كانوا لأنهم لن يتعارضوا ما دام لا توجد سوى حياة واحدة في الله الواحد وبشكل واحد وفرها المسيح الواحد. ومن خرج عن هذا الخط لن يكون لاهوتيا حقيقيا ولا يصل الى نتيجة مرضية.