أهلا وسهلا بالشماس أبو عصام
حوَّلَ الشماس إليَّ سؤالًا طرحه عليه مؤمنٌ يعتبر أنَّ كلَّ شمّاسٍ هو بمثابةِ المرجعَ الثاني بعدَ الكاهن، كما ينبغي، للثقافةِ الدينية والأخلاق المسيحية. رَدَّ عليه بما عرفه. لكنه حوَّله للمزيد من الضمان والتفاصيل. ويبدو أنَّ السائلَ الأصيل متألمٌ لمصير النبي إذ قالَ عنه :” مع العلم عاشَ إرميا حياته مثل ما عاش المسيح .. فقد كان مُحّبًا وخدومًا ومُسامِحًا “.
حياة إرميا !
عُرفَ إِرميا بمحَّبتِه للشعب والدفاع عن حقوقِه وجهاده ضدَّ مظالم المغلوبين على أمرِهم. و لم يترَّددْ في إبلاغ أمرِ الرب للقادةِ والملوك :” إِسمع كلمة الرب يا ملك يهوذا..أنت وعبيدك ..أُحكموا بالعدل، وأنقذوا المظلوم ..و لاتضطهدوا الغريبَ واليتيم والأرملة. ولا تجوروا عليهم، ولا تسفكوا الدمَ البريءَ” (إر22: 3). وعند عدم تجاوبهم يعودُ ويذكرهم بشدَّةٍ أقوى :” الربُّ من العلاءِ يزأرُ. يزأرُ زئيرًا على رعِيَّتِه.. ولولوا أيُّها الرعاة وآصرخوا وتمَرَّغوا في الرماد يا أسيادَ القطيع حان الوقتُ لذبحكم وتبديدكم ..” (إر25: 30-36).
لكنه إشتهرَ بنوع خاص بـ ” الألم والعذاب” الذي عاشَ مأساتَه إذ كانت مُهّمته إنذار القادة و الشعب عن تمَرُّدِهم على الله وعلى التقَّيد بشريعته وهو المحسن الأكبر إليهم، ومعجزاته لا تُعَّد ولا توصف لحمايتهم وإنقاذهم من أعدائهم الذين حاولوا إبادتهم ومحو إسمهم من الحياة لولا يد الرب القديرة التي حمتهم ودفعت عنهم الأذى. وبالمقابل ينذرُ بالقصاص الرهيب الذي ينتظرهم : ” أُوكلُ بهم أربعة أصناف الموت : الذين للوباء فإلى الوباء. والذين للسيف فإلى السيف. الذين للجوع فإلى الجوع. والذين للسبي فإلى السبي .. ولو أنَّ موسى و صموئيل تشَّفعا أمامي لما إلتفتَ قلبي إلى هذا الشعب. أطرحهم عن وجهي خارجًا “(إر15: 1-3). وكان يتألم كثيرًا أن يخبر بعقاب الرب هذا. يرثى ارميا لحاله” ويلٌ لي يا أمي لأنكِ ولدتني. أنا في خصام ونزاع مع الأرض كلها”. تمنى لو لعنه الله ولم يلعن شعبه، كما سيتمنى بولس لو كان هو، وليس شعبه، محرومًا و منفصِلاً عن المسيح (رو9: 3). ويتشَّكى بمرارة وضع شعبه التعيس :” الى متى تنوحُ الأرضُ وييبسُ العشبُ..وتهلكُ البهائمُ والطيور من شَّر الساكنين فيها”؟ (ار12: 4). أمام هذه المآسي التي تعصر قلبه يلوم حالَه ويصرخ بألم : ” لماذا خرجتُ من الرحمِ لأرى البؤس والحزن.. ملعون اليومَ الذي ولدتُ فيه، ..لا يكن مبارَكًا ” (ار20: 14-18). لا يُعَّزيه شيء إلا رجاوُه بأنَّ شقاء الشعب لا يطول بل ينتهي بعهد جديد يسوده الخير والهناء لأن الشعب سيعرفُ اللهَ ويسمع كلامه فينال رحمتَه، ويعيش بسلام. كثر أعداء إرميا. منهم من حاول قتله، رغم أنه كان يطلب لهم الخير(ار18: 20)،لا الشَّر (إر17: 16). لم يحقد عليهم بقدر ما آمن بانَّ اللهَ عادلٌ فيتحَّملً وزر مهمته. لكن ألمه الباطني كان يفرز رغبة في الأنتقام حتى لا يضيع حَّقٌ لأحد:”..أنت تحكم بالعدل وتفحصُ المشاعر والأفكار دعني أرى إنتقامك منهم. فإليك رفعتُ دعواي” (إر11: 10). سيرفع مثله بولس دعواه الى قيصر(أع 25: 11). مع ذلك عرف أيضًا أوقات ضعفٍ مخيفة سأل فيها إنتقامًا رهيبًا لا يُصَّدق :” سَّلِمْ بنيهم إلى الجوع. وآدفعهم الى يد السيف. لتكن نساؤُهم ثكالى و أرامل. ليكن رجالهم قتلى الوباء، وشبّانهم صرعى السيف.. فهم حفروا هُوَّة ليأخذوني و أخفوا لرجلَيَّ فِخاخًا. وأنت تعلم مكائدهم لقتلي فلا تغفر يا رب إِثمَهم.. عاقبهم في وقت غضبِكَ ” (إر18: 21-23).
إرميا لم يُقتَل !
تعَّرضَ إرميا للأهانة والضرب والسجن. لأنَّه كان يُبَّلغ تحذير الله ويطالبُ الملك والجيش في عدم مقاومة البابليين المحاصرين لأورشليم. نيرُهم لن يكون ثقيلا. وأمّا عن مصر فإنها قصبة مرضوضة لا يمكن الأتكال عليها. هكذا أوحى الله الى ارميا. أمّا أنصار مصرَ، أعداءَ بابل، فآنهزموا الى مصر إنقاذًا لأرواحهم. ولمَّا كانوا قد ألقوا إرميا في جُبِّ وحلٍ ليموت ولكن أنقذه منها أنصار بابل، أخذوا معهم إرمياً (إر43: 1-6) عقابا له كي لا يتمتع بالراحة. لأنَّ قائد نبوخذنَّصر كرَّم ارميا بأمرالشاه (إر40: 2-6). وكان يحميه الحاكم جدليا الذي عيَّنه الشاه بعد ما دمرَّ قصر الملك والهيكل وقتل كبار قوم المملكة اليهودية وفقأ عيني ملكها صدقيا وأخذه أسيرًا. وهناك في مصر أيضًا لم يتوقَّف إرميا عن إبلاغ وحي الله بأنَّ خلاص اللاجئين هو بسماع كلام الله، والعودة إلى الوطن أسلم وأضمن لمستقبل زاهر للأمة (إر44: 1-30).
لماذا سمح الله بعذابه ؟
جوابه في علاقة الله مع يسوع المسيح الذي أعلنه ” إبنه الوحيد الذي سُرَّ به”. لماذا سمح الله بموت المسيح المأساوي؟. أرسله الله ليُخَّلص البشر من الضلال والفساد. عاش في قداسة الله ومحبته. ولم يقدرأحدٌ يومًا أن يُثَّبت عليه خطيئة (يو8: 46). أمَّا إرميا فقد أخطأ أيضًا رغم خضوعه لله وإتمام رسالته. هو أيضًا إختاره الله ليبَّلغ مشيئته ومُخَّططه للبشر فيتجنبوا الشر ولا يخسروا الحياة. وكما تحمَّلَ المسيح إبن الله وزرَ مهمته هكذا كان على إرميا أيضًا أن يتحَّملَ وزرَ مهمته. لم يتخَّلَ عنه الله. بل أنقذه من كلِّ أعدائِه ومن كل مكائدهم لقتله. قال له :” سأجعلُكَ في وجه هذا الشعب سورًا من نحاسٍ حصينًا، فيحاربونك ولا يقدرون عليك، لأني معكَ لأُخَّلِصَكَ وأُنقِذَك..سأنقذك من أيدي الأشرار وأفتديكَ من قبضةِ الطغاة ” (إر15: 19-21).
كان ارميا فمًا لله ولمْ يتخَّلَ عن إعلان كلام الله رغم خطورة الموقف لأنَّ في داخله كانت نيَّة سليمة ورغبة قوية لآنقاذ شعبه من ضلال الفساد الذي ورَّطه فيه قادته. ولم يكن غَمُّه على نفسِه بقدر ما كان على شعبِه. عرفَ أوقات ذُلٍّ و ضعف حتى لا يفتخر بنفسِه. لكنه آمن بقدرة الله وبالنتيجة النهائية لحياة الأنسان. فالله مصيرُه كما هو مبدعُه. فقبِلَ مسيرة حياته بإيمان ورجاء. كان الرب يرافقه في هذه المسيرة ويكشف له نهاية المطاف. فـقال إرميا:” أعلمني الرب فعلمتُ، وأراني فرأيتُ أعمالهم. أنا كنت كخروفٍ وديعٍ يساق إلى الذبح، ولا علم لي أنهم كادوا لي مكيدةً .. فقال الرب: أنا الرب القدير أعاقبهم، فيموتُ الشبان منهم بالسيف وبنوهم وبناتهم بالجوع..” (إر11: 18-22). هكذا يتعاملُ الله مع كل مختاريه إذ يُشركهم بعمله ، فيطلبُ منهم الجهاد في سبيل ذلك، ويعدُهم براحته ومجده.