أهلا وسهلا بالأخ يوسف دنحا كوريل
كتبَ الأخ يوسف يقول: ” يسألُنا الناس: من أنتم ؟ نجيبُهم أحيانًا ” نحن كلدان”، وأُخرى “نحن آشوريون”. بينما لُغتنا هي أصلاً ” آرامية “. وليس صحيحًا أن نُسَّميَها بــ ” الكلدانية أو الآشورية “. فسـألني :” ما رأيُكَ “؟
الهـوية !
يُعرَفُ الناسُ عادةً بالأرض التي يسكنونها. وتنتسبُ هويتُه إلى الوطن الذي ينتمي إليه. فنحن أرضيون ولسنا لا قمريين ولا مَّريخيين. والأرضُ تنقسمُ الى قارات: آسيا، أوربا، أفريقيا، أُستراليا وأمريكا. وكلُّ قارَّةٍ تتجَزَّأُ الى بُلدان أو أوطان، أي مسقط الرأس والسكن. أَضف إليها الأقسام الأدارية والجغرافية لكل بلد مثل : المحافظة { سابقًا المنطقة } والمدينة. إلى هذه الحقائق ينتسبُ المرء، وبهذه الأنساب تتحَدَّدُ الهوية، وليس باللغة التي ينطقُ بها المواطن. وكلُّ إنسان يولَدُ في مكان مُحَدَّد قبل أن يتكلَّم أيَّ لغةٍ كانت. لم نرَ نور الحياة بلغة خاصَّة، بينما سقط رأسنا على أرض خاصَّة مُحَدَّدة. و يحدُثُ وأن تُستعملُ أحيانًا لغاتٌ عديدة مختلفة في نفس المدينة الواحدة. مع ذلك يَعُّمُ خطأٌ شائع أنْنا نُعَّرفَ أنفسَنا بلغتنا.
اللغـة !
أما اللغة فنسبت إلى أقوام مُعَّينين يعيشون في مناطق محدودة، يتواصلون ويتفاهمون فيما بينهم بنفس اللغة. ونُعِتَتْ اللغة بآسم المنطقة. ولما تعَدَّدت مناطق سكنى الأقوام تعَدَّدت معها أيضا أسماء اللغة. ألْسِنَةُ الناس نطقت في كل منطقة بطريقة مغايرة. فلغتنا السامية، نسبة الى سام ابن نوح، وحيث سكنت مواليده. عُرفت علميًا بـ ” الآرامية “، نسبة الى آرام إبن سام. وله أخ إسمه آشور. وآختلفت اللغة، بعد أجيال، حتى بين أنسابهم (تك10: 21-32). ومعروفٌ أن أحفاد آرام سكنوا مناطق بين النهرين، من تركيا والى الخليج جنوبًا. وجنوب بين النهرين، منطقة العراق الحالي، عُرفَ جنوبُها بـ ” كلدى” وشمالها بـ “آثور”. ولكن لم تتغيَّر تسمية اللغة بل ظلت تُعرف بالآرامية، رغم إختلاف لهجة كلِّ منطقة. ومنها تفَرَّعت العبرية والعربية. أمَّا هي نفسُها فتوشحت أشكالا جديدة : شرقية وغربية؛ وعُرفت بتسميات متعددة منها النهرينية والسُريانية والكلدانية حسب اسم المنطقة. وأمَّا في العراق فـدُعيت بالكلدانية نسبة الى المنطقة والى الواقع السياسي إذ اشتهرت الدولة البابلية الكلدانية قبل غيرها. وقد تبَّنت الأمبراطوية الآشورية إستعمال اللغة الآرامية لتدوين تأريخها وثقافتها. ولم يُفكر أحد بالآسم الأصلي للغته بقدر ما عُزيت اللغة الى الناطقين بها. وعمَّت التسمية الكلدانية بسبب الواقع ولاسيما بسبب الجماعة المسيحية الناطقة بها والتي وثقت بها حياتها وأخبارها وثقافتها. مع ذلك لم يُعِرْ أحدٌ إهتماما بالتسمية. ولما تغَيَّر الواقع السياسي وتدَّخلت جهاتٌ خاصَّة، لأسباب دينية أو سياسية، ظهر التمييز بين اللهجتين.
والحياة تجري !
والحياة تجري كالنهر ولغتُها تتلون بالتربة وتتعدَّد بالسواقي التي تنفصلُ عنها. لن تبقَ كما إبتدأت. لأنَّ تطَّور الحياة يتطلب مفرداتٍ وألفاظًا جديدة. أما الأنسان فلن تتغَّيرهويته ، فهو صورة الله ناطقٌ وخالد. وحياة الأنسان مجبولة بعجينة المحبة. والمحبة أيضا خالدة ولن تتغَّير. فهل تستحَّقُ وسيلةٌ، بين آلاف وسائل النطق، أن نتشَّبثَ بها ونتحارب من أجلها أو نقضي أوقاتًا مرَّة في الجدال على أصالةِ هذه اللغة أو تلك أو نتباكى عليها أو نُمَّجدَها فوقَ السماوات، ونُهملُ المحبة نفَسَ حياتنا، ونفقدُ الأُخُـوَّة قوت يومنا، ونخسرُ الحياة نورَ وجودِنا ؟؟. اللغة الحرفية المنطوقة تُفَّرقُ بين البشر لأنهم لا يفهمون لغة بعضهم. أمَّا ما يجمع بين البشر، ويزرع الألفة بينهم فيتفاهموا ويتعاونوا ويتضامنوا، فهي لُغة الروح.
أمَّا هوية الناس وعظمتهم فهي أنَّهم صورة الله الخالق. وهذه الصورة، وإن كنا نفتخر بها ونحترمها ، تتعالى على الأمور الزمنية والمادية الحرفية، وتُريحُ لنا الحياة بكلماتٍ وتعابيرَ لا تنطقُها الألسنة اللحمية. كلُّ واحد لغته وحتى لهجَتُه جميلة وأصيلة. ويستعملها للحوار و التفاهم والبناء، وليته يُحافظ عليها نقيَةً، لا يُحوِّلُها الى لعلعةِ الرصاص، بل يُلَّطفُها ويُرَّخمُها مثل موسيقى البلابل لتُريحَ الآخر، لا لتُزعِجَه أو لا سمح الله تسيءُ إليه.
بهذه الأُطر تفقُدُ ” تسمية ” اللغة قيمتَها، خاصَّة وليست هي العنصرالأساس للهوية الخاصّة . لأنَّ اسم اللغه لا يهُّم بقدر ما يهم جوهر فعلِها ألا وهو إيصال كلامٍ الى الآخر وآستقبال كلام الآخر من أجل بناء الحياة. فإن كان اسمُ اللغةِ : الآراميةَ أو الكلدانية أو السُريانية أو الآشورية أو النهرينية لا قيمة لها إن لمْ تبنِ الحياة. وإِنْ بنتْ الحياة ونشرت بين الناس الحَّق والمعرفة والفرح والعون فأهلا بها تحتَ أيِّ مُسَّمى تكون. فلا العلمُ ولا الأيمان يتوقفان على اللغة مهما سمت إو إغتنتْ. قيمة اللغة بالخدمة التي تؤَّديها للأنسان، وتُعَّبر بشكل دقيق عن خفايا فكرِه وهنّات قلبِه.