ر مؤمن كريم إحتار أمام مشهد إرتداء المسيحيين ” السـوادَ ” في العزاء لأظهار حزنهم على موتاهم ، فتســاءَل :
$$$ ما موقفُ المسيحية من لبس الأسود على المَّيِتْ ؟
لم يذكر الكتاب شيئا من هذا القبيل. لكنه ذكر أشياء أخرى يتعاطاها الناس في حزئهم على موتاهم، وأدانها. جاءَ في سفر اللاويين :” لا تحلقوا رؤوسكم حولَ أطرافها، ولا تقُّصوا شيئًا من لحاكم. لا تجعلوا خدوشًا في أبدانكم حِدادا على مَيْتٍ، ولا كتابة وشم عليها: أنا الرب!” (لا19: 27-28). وفي سفر تثنية الأشتراع أعطي مبَّرِرُ هذا المنع، وهو :” أنتم أبناء الرب إلهكم، فلا تخَّدشوا أجسادَكم حُزنا على مَيْتٍ ، ولا تُجَّرِحوا ما بين عيونكم، لأنكم شعبٌ مقدَّسٌ للرب إلهكم ..” (تث 14: 1-2).
ذكر مار بطرس أنَّ العهد الجديد ثبَّت هذا المبرر وهو ” أنتم شعبٌ مقدس للرب الهكم”، فقال بدوره :” أنتم نسلٌ مختارٌ وكهنوت ملوكي، وأمة مقدسة ، وشعب إقتناه الله لأعلان فضائله” (1بط2: 9). ومثله فعل مار بولس في قوله :” إنَّ مشيئة الله إنما هي قداستكم” (1تس4: 3). والقداسة لا تمنع الأنسانَ من أن يُصابَ أحيانا بألام وحتى بمآسي فيحزن :” إنكم لابد وأن تحزنوا حينا بما يُصيبكم الآن من أنواع المحن “(1بط1: 6). ولكن هذا الحزن لا يسمح ولا يُبررُ أن يتصرف المسيحي كمن لا إيمان له مثل أهل العالم. لأنَّ المسيحي يعرفُ أنَّ الموتَ ليس نهايةً، بل هو فقط جسر يعبرُ عليه الأموات إلى الحياة الأبدية. وهذا يعني أننا نؤمن بأنَّ الميت يبقى حَّيا ، إنما بشكل آخر لا نراه مثل الأول لأنه يحيا روحيا بجسد روحاني عند الله. وهل يُحزن على إنسان حي؟. أو هل يُعيد لبس الأسود الميت الى حياة الجسد؟.
بالنسبة الى المؤمن بالمسيح يأملُ بأنَّ حياته تكون سعيدة بفضل إيمانه بالمسيح والسيرة التي ترضيه. و هذا الرجاء يجعلنا نتحمل فراق الأحباء بهدوء وعلى أمل أن نلتقي بهم عند موتنا نحن أيضا. نفكر بهم إن كانوا بحاجة وبماذا نقدر أن نسعفهم به. أما السواد فهو حتى يفكرَ الآخرون بنا. بينما يجعلنا الأيمان أن نتصَّرف بتعَّقل وأن نرجو لموتانا الراحة الدائمة. وبهذ الشأن يقول مار بولس: ” لا نريد أيها الأخوة أن تجهلوا مصير الأموات، لئلا تحزنوا كسائر الناس الذين لا رجاءَ لهم” (1تس4: 13).
ولبس السواد هو دليل الحزن الشديد ، بل قل دليل اليأس بحيث تسوَّدُ الحياة في عيني من يستعمله، ولا يقيم أي حساب للرجاء الذي يوَّفره لنا الأيمان. و يُصبح السواد بالتالي دليل عدم الأيمان بالمسيح وبوعوده، وربما حتى بالحياة الأبدية. وبديهي أن يُبررَ لابسُ الأسود تصُّرفه بألف حجة مأخوذة من الحياة الأجتماية والعادات والتقاليد. لكن الرسول قد حَّذرَ المسيحي من هذا الموقف فقال :” إياكم أن يخلبكم أحد بالفلسفةِ، بذلك الغرور الباطل القائم على سُّنةِ الناس وأركان العالم، لا على المسيح” (كو2: 8). ويعود فيضيفُ تبريرا لكلامه :” أما وقد مُّتم مع المسيح، متخلين عن أركان العالم فما بالكم … تخضعون لنواهيَ و وصايا ومذاهبَ بشرية معروفة بالحكمة ، لما فيها من نفلٍ وتواضع وقلةِ مراعات الجسد ، ولكن لا قيمة لها لأنها غير صالحة إلا لإرضاء الهوى البشري ” (كو2: 20-23). و أنا أتذكر أنْ لا أحد من المسيحيين في المناطق الشمالية من العراق كان يلبس الأسود حدادا على موتاه. ربما لا تزال بعضُ القرى الى يومنا تحتفظ بهذا التقليد. وهذا دليل أن الأسود لا فقط لاعلاقة له بالأيمان بل إنه يُعارضه بشدة.
ولنا في إيماننا أقوى نموذج للرجاء بالحياة الأبدية مريم العذراء. لا فقط لم يذكر الأنجيل أنها بكت أو صرخت أو قرعت صدرها أو نتفت شعرها أو لطمت خدودها أو لبست الأسود كما يفعلُ أغلب الناس عند وفاة شاب منهم ، بينما كان يسوع ايضا شابا بل و وحيدا لأمه !. بل ذكر الأنجيل ورَّكز على أن مريم كانت واقفة تحت الصليب ،بشجاعة رغم أن ألألم كان يعتصر قلبها الوالدي الذي إخترقه سيف الحزن كما تنبأ سمعان الشيخ (لو2: 35)، ترافق إبنها بفكرها وقلبها وروحِها روحَ الذاهبة الى الحياة عند الآب السماوي!.
إنَّ السواد لا يدُّلُ مطلقا على محبة الأهل للميت. لأنَّ السواد لا يُدخله الجنة ولا يساعده ، إن كان في المطهر، على أن يتخَّلص سريعا من آلامه الوقتية ليتمتع بالحياة المجيدة والسعيدة. السواد دليل أنانية الأهل لجلب نظر الناس اليهم ، أوللنفاق ليتظاهروا بالحزن، أو لليأس من الحياة الأبدية فيركزون على الخسارة المادية التي حصلت بالوفاة لأنهم لا يؤمنون بالقيامة والحياة الخالدة. اللباس الأسود هو كسواد الليل المخيف. في سواد الليل يتحرَّك الأشرار و يسيئون الى الناس. في سواد الليل تتحرك الذئاب الخاطفة والحيوانات المفترسة تبحث عن فريسة تسُّد رمقها. هكذا في سواد ليل الحياة ومآسيها يخطف ابليس ، بتشجيع لبس الأسود، بذرة الأيمان من قلوب البشر.
وأخيرا نقرأ في الأنجيل خبرًا مفاده أن يسوع إختار تلميذا وطلب منه أن يتبعه. في تلك الأثناء مات والدُ التلميذ فطلب السماح من المعلم ليذهب أولاً ويشترك في دفنة والده وتعزية ذويه ثم يعود ويتبعه. ولنسمع جواب يسوع :” دع الموتى يدفنوا موتاهم. أما أنت فآتبعني” (متى8: 22). لم يكن يسوع قاسيا حتى يرفض لتلميذه مثل هذا الواجب. بل أفهمنا يسوع بذلك أن القرب منه والتعامل معه وتنفيذ مشيئته أسمى بكثير من دفنة الأنسان، أيٍّ كان. الدفن عمل إجتماعي محض، أما الألتزام بيسوع وتعليمه فهو عمل إلهي. والأصغاء الى الله أسمى وأعظم من إتباع تقاليد البشر وعاداتهم. وإذا كانت دفنة والد ليست مهمة فهل يكون لبس السواد أهم منها؟. وبالأسلوب نفسه ردَّ يسوع مرتا خائبةً، مع أن أسرتها من أصدق وأخلص أصدقائه، عندما تشكت من أختها مريم الجالسة عند قدميه تحاوره فقال لها :” مرتا إنك مهتمة بأمور كثيرة وتضطر ، مع أن الحاجة الى أمر واحد. فقد إختارت مريم النصيب الأفضل ، و لن يُنزع منها “(لو10: 41-42).فإذا كانت خدمة المائدة للضيوف ومساعدة الآخر لا توازي سماع كلام الله فهل لبس السواد أفضل من التقيد بالأيمان ؟.
فلبس الأسود للعزاء عادة وثنية ، تأثر بها الغرب كثيرا ، حتى حينا في الكنيسة كآستعمال السواد للجنانيز أو غيرها من الطقوس، ونقلته حضارة التقنية والأقتصاد والسياسة. أما المسيح فيريد منا قلبا بريئا وفكرًا نيّرا وعزاءًا يزيله حضوره فينا والرجاءُ بالحياة الأبدية.