أهلاً وسهلا بالأخ رياض قزّازي
أرسلَ الأخ رياض السؤالَ التالي : كيفَ أستطيعُ أنْ أعيشُ السلامَ الداخلي وأنا أمام هذا الكَّم الهائل من المعلومات ، و التكنولوجية، والحروب، والكوارث، والإلحاد بالله، وفقدان المَحَّبة ؟
ما هو السلام ؟
يتصَّورُ أغلبُنا أن السلام يعني خُلُّوَّ الحياةِ من صعوبةٍ أو مشَّقةٍ أو بذلٍ أوتضحية؟. في حين يعني السلام عدم الأضطراب الداخلي، في الفكر والقلب، أمام تحَّديات الزمن أو تصَّرفات الناس الشّاذة. أي مواجهتَها بدم بارد وأعصابٍ جامدة. وهذا يعني عدم السماح للعاطفة أن تتغَّلبَ على حياتنا بل أنْ نتفاعل مع كل ظرف، كان مؤاتيًا أو مُعيقًا لتطلعاتنا، لأجل البقاء في الحَّق والبِرّ وبنيان مملكة الله بين البشر. قال الرب يسوع: ” السلامَ أُعطيكم. سلامي أمنحُكم. لا أمنحُكم إيَّاهُ كما يُعطيه العالم. فلا تضطرب قلوبُكم ولا تفزع” (يو14: 27). سلام العالم وأهله، السائرين في ركب مبادِئِه الحِسّية، هو فرضُ الرأيِ والمصلحة بالسيف. سلامُه هو في ” أنَّ القوي يأكلُ المستوي”!. أمَّا سلامُ المسيح فهو الحُبُّ والسماح والخدمة وأن” نصنع للآخرين ما ننتظرُه منهم أو نتمَّنى أن يفعلوه معنا” (متى7: 12) دون أن ننتظرَ منهم أن يُقابلونا بالمثل. لأننا نؤمنُ بكلام الرب ونعيشُه في علاقاتنا الأجتماعية. لم يقُلْ ” بشرط أن يفعلوا معكم الشيءَ نفسَه”. لا. بل عَلَّمنا أن نحيا ونتصَّرف بشكل يبني سلامنا وسعادتنا. وهذا ما فعله يسوع نفسُه. أحَّبَ الناس، كلَّ الناس حتى أعداءَه، وعمل الخير مع جميعهم حسب موقف كل واحد، ولم يُطالب أن يُحّبوه ويحترموه حتى يُخَّلِصَهم. هو عملَ ما كان بنّاءًا و واجبًا لخلاصنا، فغفرَ حتى لصالبيه. و الذي يعترفُ بجميلِه و يُبادِلُه الحُبَّ بالحُّب هو الرابحُ الأكبر لأنه يعيشُ بسلام. حافظَ يسوع على سلامِه الباطني وهو حاملٌ صليبَ العِداءِ والكُره والإهانة، وطبَّقَ المبدأَ الذي طالبَ به فأحَّب حتى أعداءَه الذين أهانوه وبصقوا عليه وقتلوه صلبًا. لكنَّه أظهرَ راحةً فائقة غيرإعتيادية ذلك لأن ضميره كان مرتاحًا إذ لم يخطأ بحَّق أحد. وضمن بذلك لتلاميذه سلامَهم الباطني إذا عرفوا أن يقتدوا به فيتفاعلوا مع أحداثِ الحياة بمنطق الله، واضعِين إِيَّاها في إطار ملكوته ومتَطَّلعين إلى الحياة الأبدية: ” أُطلبوا أوَّلاً ملكوتَ اللهِ وبِرَّهُ ” (متى6: 33). فالسلام في راحةِ الضمير وآستقامةِ النية في العلاقة الجيّدة بالله.
ستحدثُ حروبٌ ومجاعات وزلازل وآرتداد عن الأيمان.. !
كوارث طبيعية وأخرى إنسانية تسيءُ الى مجرى الحياة وتُعاديها فتضايقُ الأنسان وتُؤلِمُه وتقلِقُه. أما الطبيعية فليسَت لإفزاع الناس بقدر ما هي جرسُ إنذار لهم. لمَّا تحَدَّثَ يسوعُ عن وقوعِها بالإضافة الى ظهورِ بليةٍ أخطرَ منها ألا وهي إنتشارُ أنبياءَ دَجَّالين ومُسَحاءَ كذّابين، أضاف: ” لا تفزعوا. إنَّه لابُدَّ منها. لكنها ليست هي النهاية ” (متى24: 3-14). إنها تُذَّكرُ الأنسان أنَّ الحياة لن تدوم على الأرض للأبد. وتُحَّذِرُه من تعَّلقِه بخيرات الزمن التي لا تقوي على إسعاد الأنسان وإنقاذِه من البلايا الأجتماعية. ولاسيما تدعوهُ إلى أن لا ينسى أنَّه سيخلُدُ للأبد وأنَّ خلاصَه يكون بآقتناء الخيرات الروحية التي بدورها لا تزول مع الكون، :” إكنزوا لكم كنوزًا في السماء لا تبلى” (متى6: 20). فالكوارثُ تحدثُ لتساعدَ الناس كي لا ينغَشُّوا بالأمور الدنيوية : من خيرِ وجاهٍ ومجد وسُلطانٍ، بل يتذَكَّروا دومًا أنَّ ما ينفعُ الأنسان هو الأيمان بالله، وحفظ وصاياه التي هي بمثابة مصابيح تُضيءُ له درب الحَّق والصلاح. وأيًضًا لتُذَّكرَ الأنسان بأنَّ الحياة لا تخلو من ضيقٍ وشِدَّةٍ وعلى المرء أن يكون قوَّيًا فيتغَّلبَ على الطبيعةِ نفسِها ويُهَّييءَ لنفسِه كونًا جميلا وهادئًا لا يزول ولا يؤلم. ويُذَّكرُ أيضًا أن لُحمَة حياة الأنسان وسُداها الذي يبقى للأبد هو الحُّب (1كور13: 13)، لأنه هو شريانُ الحياة والدمُ الذي يُغَّذيه ويُنَّميه في حياة الأيمان. فالمحبة، بجناحيها، لله و للقريب ، هي الدافع لحفظ الوصايا وعليه تختصرُ الشريعة والأنبياء (متى22: 40). المحبة هي أعظُمُ خيرٍ للأنسان. ويقول مار بولس و: “من يفصلنا عن محبة المسيح: أَ شِدَّةٌ أم ضيقٌ أم إضطهادٌ أم جوعٌ أم عُريٌ أم خطرٌ أم سيفٌ ؟”(رم8: 35). لا شيء !. أما ” الكَّم الهائل من المعلومات والتكنولوجية ” فليس من وجه البِرِّ أن يُفزِعنا ويُقلِقَنا. لأنَّها بذاتِها خيرٌ عظيم وأفضل وسيلة للعيش بكرامة وراحة. العلمُ نورٌ وكُلَّما إزدادَ وفاضَ يزدادُ نفعُهُ ويحلو ثمرُه. كذلك التقنيات الحديثة، إنها بقدر تشَّعُبِها وتشابُكِ مفاعيلِها بقدر ذلك تضمنُ للأنسان راحةً وسلامًا يتمنَّاه كلُّ واحد، ومن كلِّ قلبِه. إنَّها وسائلُ تُسَّهلُ العيش و التعاطي مع حاجات الحياة بشكل يُرَّيحُ الأنسان من أتعابٍ كثيرة كان عليه تحمُلُها لولا وجود هذه التكنولوجية. ومن المفروض ألا يُخيفَ سوءُ إستعمال البعضِ لها لأنَّ لكلِّ شيء وجهان، حتى للأنسان نفسِه، حتى يقدر أن يرتاح لدى إستعمالها، لأنَّه يشعرُ أولا أنَّه لم يُحرَم حريتِه في الأختيار، وثانيًا لكي ينتبه الأنسان دومًا أن يُقَّبلَ الوجه الأَصَّح.
لا تتكلوا على الأنسان !
أمَّا الحروبُ والكُفر والإرهابُ والإلحادُ فكلُّها من فكر الأنسان ورغباتِه المُلتوية. والمؤمن بالله مدعوٌ، حتى ينعمَ بالسلام، أن يقتفيَ آثار الله المُسالِم لجميع الناس وأن يلتجيءَ إليه. إن كان الأنسان يُفزع ويُقلق إلا إنَّ اللهَ يُريحُ ويُهدِيءُ. أَ ما أهدأَ البحرَ والرياح فأطاعتْهُ؟ (متى 8: 23-27). لذا فقد أوصى بألا يتكلَ المؤمن ” لا على العُظماء ولا على الأنسان، لأنَّه لا خلاصَ عندَه ” (مز145: 3)، بل يتكِلوا على الله ويلجَأُوا إليه، فقال:” تعالوا إليَّ جميعًا أيُّها المُرهَقون والمُثَّقَلون فإِني أُريحُكم. إِحمِلوا نيري وتتلمذوا لي، فإِني أنا الوديعٌ والمتواضعُ القلب. تجدوا الراحة في نفوسِكم. لأنَّ نيري طَيِّبٌ وحملي خفيف ” (متى11: 28-30). ما يُرَّيحُ فكرَ الأنسان وقلبَه، ضميرَه، هو سلوك درب الحق في كل منعطفات الحياة. وشريعةُ المسيخ، المخلص الألهي، هي وحدَها تُرشدُ الى الحَّق. تقتصرُ شريعتُه، أو نيرُه، على الحب. وهل يوجد شيءٌ أحلى وأريَحَ من الحب؟. الله أحبنا. والمسيحُ ماتَ حُبًّا بنا ليُنَّجيَنا من الهلاك الأبدي فدفع ثمن خطايانا بسكب دمه ذبيحةً عنّا. ويُعرَفُ تلميذُ المسيح بالمحبة التي يكُّنُها للجميع شاهدًا على قوَّة فعاليتِها. والمحبة تعني الوداعة والتواضع والعدالة والتسامح. ومن يمارس هذه القيم هو وحدَه يشعرُ بالسلام الداخلي. من أرادَ إذن أن يتمتَّعَ براحة الفكر والقلب ويهنَأَ بالسلام الداخلي لا دواء له غيرُ الأيمان بالله وحفظ وصية محَّبتِه. فالله وحده مصدرُ الراحة والسلام، لأنَّ من يلجأ الى الله فقد لجَأَ إلى الحياة نفسِها وهي عِلَّةِ الوجود وهدفُ الأنسان الأبدي.