أهلاً وسَهلاً بالأخت مـها الياموري
سألت الأخت مها ما يلي :
- من قَرَّرَ تلاوة نصوص مُحَدَّدة دون غيرِها، وعلى أيِّ أساسٍ بُنيَ الأختيار؟
- لماذا قررت الكنيسة قراءَة آياتٍ مُعَّينة من الأنجيل والرسائل تُعادُ قراءَتُها سنةً بعدَ سنة ، وقرنًا بعدَ آخر دون غـيرِها ؟
- لماذا تُقرأُ رسائلُ مُختارة من القديس بولس وليس يعقوب مثلاً ؟
- لماذا قولَبةُ القداس بإِطار الروتين ؟
مَنْ قَــرَّر ؟
الكنيسة، أي السُلطة التعليمية فيها والأدارية، هي التي قرَّرت تنظيم رتبة الكلمة، لتثقيفِ الموعوظين أي الذين آمنوا بالمسيح وكانوا يستَّعدون للأنتماء إليه بالمعمودية. وآختارت من الكتاب المقدس، بعهديهِ، النصوص التي إعتبرتها مُهّمة أن يَطّلعوا عليها، وآستنقت الأهم بينها، ليستند إيمانهم إلى صخرة الحقيقة الألهية المُوحاة ألى البشر والمُسَّجلة في الكتاب المقدَّس. ولم تتوقَّفَ الكنيسة بالتهيئة للمعمودية فقط بل تابعت جهدَها، حتى بعد المعمودية، بتثقيف المؤمنين أيضًا و تنويرهم من كلام الله لتغذية حياتِهم التي لا تتوقف على الخبز فقط بل وأيضا على كلام الله ، ” ليس بالخبز وحدَه يحيا الأنسان بل بكل كلمةٍ تخرجُ من فم الله (متى4: 4؛ تث 8: 3). هكذا فعلَ يسوعُ مع تلاميذه فثَقَّفهم من كلام الله وعَلَّمهم أن يُعَّلموا غيرَهم (متى28: 19). لذا نرى الرسل منذ بداية تبشيرهم يُرَّكزون على” وكان المُهتَدون الى المسيح والمُعَّمَدون يُداومون على الأستماع الى تعليم الرسل، وعلى الحياة المشتركة، و كسر الخبز والصلاة” (أع2: 42). وهذا شأن كلِّ ترتبية وتثقيف بأن يترَّكز التعليم على أهم أمور الحياة كونها المباديء الأساسية للمعرفة وللعيش، وعلى تلك الأسس يختارُ بعدَه كلُّ إنسانٍ ويبني حياتَه الخاصّة. فالنصوص المختارة لجميع المؤمنين تساعدُ فتدفعُ كلَّ فردٍ لمتابعة التثَّقُف لتنسيقِ سلوكِه مع حياة الله نفسِه، وللثبات في الأيمان والسُمُّو في الأخلاق المسيحية كما قال الرسول :” تَخَّلقوا بأخلاقِ المسيح ” (في2: 5) الذي هو” النور الحَّق، جاءَ ليُنيرَ لكل إنسان” (يو1: 9)، ولأنه هو الحياةُ نفسُها (1يو1: 1-3).
لماذا تُعاد القراءات ولا تُغَّيَر ؟
القراءات مُحَدَّدة أصلاً لأيام الآحاد والأعياد. لأنه فيها فقط كانت تُقامُ القداديس للشعب. أما القداس اليومي فبدأ في الأديرة والمؤسسات الروحية، الذين يطلبون الكمال (متى19: 21)، للمثابرة في الجهاد من أجل الترقية بالحياة الى مستوى حياة المسيح نفسِه كما قال الرسول : ” يُهَّيّيءُ الأخوة للخدمة في سبيل بناء جسد المسيح، إلى أن نصِلَ كُلُّنا إلى وحدة الأيمان و معرفةِ ابن الله، الى الأنسان الكامل، الى ملءِ قامةِ المسيح” (أف4: 12-13). ثم إنتقل إلى الرعايا العلمانية. وفي الأديرة كانوا يستنسخون الكتاب ويُكَّثرون نُسخه فيطلعون على بقية النصوص، فلم يشعروا بالحاجة الى التغيير، بقدر ما كانوا بحاجة الى التذكير، سنويًا، بما هو ضروريٌ معرفته والتقَّيدُ بمضمونه. هذه الضرورة تأتي من البناء المتجانس والمترابط للسنة الايمانية. تتكرَّر السنين من ملايين سنة بل من مليارات، وتتكرر معها الفصول، والأيام وتشرق الشمس وتغيب، وتتداخل الحَّرُ والبرد، ولم نشعر أنها مملَّة أو أصبحت روتين. وإذا لم تتكَرَّر وتستمر نفسُها سنة بعد سنة سنتضايق ونتأَّذى. ذلك لأنها هي القاعدةُ الأساسية للحياة، ولا حياة بدونها. على هذا الغرار أوحى الله الى كنيسته بأن تستَغِّلَ السنة الشمسية لتنظمَ السنة الأيمانية، وندعوها الطقسية ، لأنها تقوم على طقوسٍ دينيةٍ، تحاولُ أنْ تُذَّكرَنا بمراحل وأحداث الخلاص المهمة وتُساعدُنا على الأنشدادِ إليها، فيها نبحثُ عن قوتِ حياتنا الأنسانية والمسيحية. والسنة الطقسية مُجَّزَأةٌ إلى أقسام تسَّهلُ عملية إستيعابِ الوحي والتدبيرالخلاصي، وتتخَللُّ الأقسامَ أعيادٌ مهمة هي بمثابة عواميد ترفعُ البناءَ الروحي وتسنُدُه. وبما أنَّ القداس هو العمود الفقري للحياة المسيحية إذ يساعدنا لنعاين، بالرمز، حياةَ المسيح وآلامَه وموته وقيامته ونعيشها في واقعنا اليومي ، فالقراءات أثناء القداس مختارةٌ من بين النصوص التي توالم وتتناغم مع المرحلة الطقسية ومع التعليم الأيماني المُراد إيصاله الى المؤمن. مثلا فترة البشارات قبل الميلاد يُرَّكزُ على النصوص التي تخُّصُ البشارة بمواليد إعجازيين كإسحق وشمشون وصموئيل ويوحنا و يسوع وفحوى تلك البشارات والتي ترافقها. كذلك فترة الصوم أو القيامة وغيرها التي يُعاد سنويًا الأحتفال بأعيادها ومناسباتها، لذا رأى الذي إختار النصوص نفسَه مُقَّيدًا بتكرار قراءة النصوص الملائمة لها والتي لا يمكن الأستغناءُ عنها أو تغييرها. رغم ذلك هناك دراسات ومحاولات تجري على قدم وساق لتنظيم جديد لنصوص القراءات وتوزيعها مثلاُ على سنتين أو أكثر بحيث لا تتكرر إلا المرتبطة بالأعياد والمناسبات والتي لا بديلَ لها. وأيضا لتخصيص قراءات بأيام الأسبوع الأعتيادية على مدار السنة.
لماذا رسائل بولس فقط ؟
صحيحٌ أنَّ نصوص الرسالة مأخوذةٌ شبه كلها من رسائل القديس بولس، أقله في الطقس الكلداني. ولأسبابٍ عدَّة. ربما تكون أولها لأنَّها مكتوبةٌ كلها قبل بقية الرسائل. فقد كتبها بين سنة 51و 62م ولم يتزامن معها غير رسالتي القديس بطرس. وقد إستشهدا معا سنة 67م ولم يُكتب بعد أي سفر آخر من العهد الجديد. فرسائله هي البشارة العملية الأولى وتُجَّسد فكرَ المسيح في كلِّ أبعاده لاسيما الحياتية العملية. وكان المؤمنون بحاجة الى نصوص مثلها بسبب ظرف الأضطهاد أكثر من نصوص إخبارية. والسبب الثاني ربما يكون لأنَّ بولس هو الباديء بطلب قراءة رسائله في الكنائس التي أسَّسَها والمتجاورة من بعضها أثناء تجمُعهم للقداس. وهو نفسُه يذكر ذلك ويكتب لأهل كولسي قائلاً: ” وبعدَ قراءة هذه الرسالة عندكم، أرسِلوها الى كنيسة لاوُدكية لتقرَأَها ، و آطلبوا رسالتي إلى لاوُدِكية لتقرأوها أنتم أيضًا” (كول4: 16). وقد يكون السبب الثالث أهميتها في تكوين المؤمن المسيحي أخلاقيًا حتى جعل من نفسِه نموذجًا وصورة للمسيح يقتدي به المؤمنون لأنه هو يقتدي بيسوع المسيح (1كور11: 1). بل أَّكَدَ بأنَّ حياته هي المسيح الى درجة أنَّه قال: ” ما أنا الذي يحيا بعدُ، بل المسيح يحيا فيَّ ” (غل2: 20). فحياة بولس وتعليمه كسبَا لرسائله إحترامًا وشوقًا، كما خلقت له أيضًا أعداء حتى بين الأخوة المؤمنين فصاروا يحسدونه وينافسونه ويُضايقونه (في1: 15-17). وذهب بعضُهم إلى أبعد من ذلك، إلى محاولة ” تحريفِ” ما في رسائله لضُعفٍ في نفوسِهم (2بط3: 16). فما جاءَ في رسائله هو تطبيقٌ عملي لمباديء المسيح الحيوية. إنها إنجيل السلوك العملي المبني على الأيمان المُنَّوَر بالمسيح. ولو إختفى يومًا، لا سمح الله، الأنجيل من الوجود لما تأثرت المسيحية كثيرًا لأنَّ رسائل بولس تبقى النور الذي يشُّعُ من المسيح ليقودَ قطيعَه الصغير بأمان وضمان للخلاص. وما موجود في رسائل غيره إِما موجودٌ عند بولس أو مذكور في الأنجيل.
القداس والروتين !
إذا كان حضور القداس سماعيًا فقط سيتحَّولُ حتمًا الى روتين. وربما روتين مُمِّل. وعندئذٍ لا ينفعُ حتى ولا تغييرُ القراءات. القداس لقاءٌ مع الله في شخص يسوع المسيح الذي أحبَّنا حتى لمْ يرضَ أن نهلكَ نحنُ بل سَلَّمَ نفسَه من أجلنا لأقسى عذاب وإلى أبشعَ إهانةٍ إذ أُعتُبِرَ خاطئًا مَلعونًا فعُّلِقَ على الصليب (غل2: 13)!. في القداس نُصغي الى الله يُحدّثنا من خلال القراءات ونتأمل أفكارَها ونستخرج لحياتنا دروسًا تُحَّولُنا، إذا تقَّيدنا بها، الى حياتِه. وننظر الى يسوع وهو مصلوبٌ ومتألم ومائت، ثم قائمٌ منتصرًا. ننظر اليه لنحَّدثَه ونتفاعلَ مع توصياتِه وغفرانِه ووعودِه. لنا كلَّ يومٍ شيءٌ جديد نعرضُه عليه، وله كلَّ يوم كلامٌ نكتشفه وعتابٌ نُحِّسُ به ودعوةٌ لننضَمَّ اليه على الصليب فيُعَّرينا من خطايانا ليُهَّيئَنا الى لبس ثوب مجدِه الذي فيه الراحة والهناء. لقاءُ القداس هو لقاءُ الجلجلة والقبر الخالي ثم ترائي العُلِّية. قد يحتاج حتى القداس إلى أن تتغَّير فيه أحيانًا بعض أجزائه، اللغة مثلا أو الحركات أو رتبة التوبة والسلام، أو تفسير رموزه ليسهل على المؤمن الأندماجُ فيه وقطف ثماره. لكن جوهر القداس، تكريس القرابين وتحويلها الى جسد ودم المسيح وتناولها، يبقى لأنه تجسيدٌ للمسيح. والمسيح لن يتغَيَّر لا في حياتِه ولا في تعليمه ولا في ندائه الى سلوك درب القداسة أو إلى الإنحاءِ بآتجاه السلم في المحَّبة والغفران. وقد طلب هو بنفسِه أن نُكَّررَ ما صنعه في عشائه الأخير قائلاً :” إصنعوا هذا لذكري” (لو22: 19). وعملية التكريس والتناول تحتاج إلى تهيئة وإعلان ورتبٍ تساعد المؤمن على الأدراك والمشاركة الحَّية.