أهلا وسهلا بالأخ وليد عـبد المســيح.
إطَّـلعَ الأخ وليد في وسائل النشر والأعلام على صور لقبر مريم العذراء مكتوبٌ عليها ” هنا دُفنت السيدة العذراء قبل إنتقال جسدها الى السماء”. فتســاءَل :
هل فعلا ماتت العذراء ودُفنت ” ثلاثة أيام ” وبعد ذلك تمَّ الأنتقال ؟
هل إنتقلت إلى السماء بالروح والنفس والجسد ؟ ــ: وأضــاف :>
أرجو التوضيح مع شواهد كتابية ، ودلائل ؟
الشواهد والدلائل !
إذا كنا نطلب ونشترط شواهد وأدلة من الكتاب فهل نحتاج بعدُ إلى أن نسأل؟ أم نهرع الى الكتاب ونطالعه ونبحث عن ضالتنا؟. يكون السؤال عادة ، مع إحترامي للسائل الكريم، عما لا نجده حرفيا في الكتاب ، أو نجده لكننا لا نفقه معناه لقصر باعنا في فهم الوحي الذي ينقله إلينا الكتاب. نلتجيءُ عندئذ الى من يمكنه أن يساعدَنا. أخبرنا الكتاب عن مولد المسيح وموته وقيامته وكان بوسع الكاتب أن يذكر اليوم والشهر والسنة لأنه كان يعلمها حق العلم ولم يفعل ومع ذلك لا نطلب “شواهد وأدلة” لمواعيد الأعياد. إننا نكتفي بشهادة الشهود ونثق بهم ، كما نثق بتعليم الكنيسة ونكتفي به لأنه مسنود من الرب يسوع الذي كلَّفَ الكنيسة بأن تعَّلم ، و وعدها أن يعصمها من الخطأ الأيماني:” أبواب الجحيم لن تقوَ عليها. وأعطيك مفاتيح ملكوت السماوات. وما تربطه .. أو تحُّله على الأرض ، يُربط .. أو يُحَّل في السماء”(متى16: 18-19).
وهكذا لم يذكر الكتاب شيئا يخُّص مريم العذراء بعد حلول الروح القدس على التلاميذ وهي تتوسَّطهم. أما التأريخ فنقل شهادة المسيحيين الأوائل وقد قبلتها الكنيسة كحقيقة ايمانية تأريخية دون التركيز على التفاصيل الثانوية.
مريم ، ماتت وآنتقلت !
الموت نهاية للجسد الأنساني الترابي ، إما بالعودة الى التراب الذي أُخذ منه (تك3: 19)، لأنه من ناسوت آدم الذي بسبب خطيئته سرى الموت الى جميع الناس (رم5: 12). وإما بالتحَّول الى حالة عدم الفساد ، كما أكده مار بولس عن الذين يعاينون نهاية العالم لأنه :” لابد لهذا الكائن الفاني أن يلبس الخلود” (1كور15: 53). يسوع نفسه مات في جسده ، أى توقف جسده عن أن يكون ماديا خاضعًا للحواس وللفساد. وهكذا تؤكد الكنيسة عن وفاة مريم العذراء أيضا في جسدها الخاضع للفساد. ليس الموت نهاية حتى يُحَّيرنا. إنه مجَّرد إنتقال من حالة إلى أخرى. إنتقال من حالة المادة الفاسدة الى حالة الروح الخالدة مع الله.
مع ذلك تختلف حالة العذراء عن بقية الناس، كما إختلف يسوع. وذلك بسبب أن ناسوت مريم صانه الله من نتائج خطيئة آدم وحواء. لم يعرف جسدها فساد الخطيئة ، ولهذا لم يكن ممكنا أن يطاله فساد الموت. فلما نقول أنَّ مريم ماتت نعني بذلك أن جسدها المادي توقف عن الحياة ، ولأنه كان بريئا من الخطيئة الأصلية لم يطله الفساد الذي يصيب أجساد جميع الناس.
فتحَّول رأسا إلى جسد روحاني ممَّجد ” لابسا صورة السماوي “(1كور15: 49)، تماما مثل جسد يسوع الذي لم ينله الفساد (أع2: 27، 31).
إنتقلت بالروح والنفس والجسد !
ولما مات جسد مريم دفن إحتراما له ، كما دفنوا جسد يسوع أيضا. لم يحَّس التلاميذ بالتحول الروحي الذي جرى على جسد مريم. لأنَّ هذا الأمر يخص الحياة الأبدية وليس بإمكان البشر أن يعاينوه إلا إذا أُعطي لهم ذلك. كما لم يقدرالتلاميذ أن يعاينوا جسد يسوع الممجد عند دفنهم له ولا قدر كل الناس معاينة جسد يسوع الممجد بعد القيامة إلا الذين أعطي لهم، ومتى أعطى الله لهم تلك الموهبة (أع10: 41). ولحظة يتحول الجسد الى روحاني ممَّجَد ينتقل حالا الى السماء. لأنه ينقطع كلياعن العيش بمظهر مادي. والجسد الروحاني ليس مقامه حسيا على الأرض. هذا ما أكَّده الملاك للنساء اللواتي قصدن القبر لتحنيط جسد يسوع :” لماذا تبحثن عن الحي بين الأموات”؟ (لو24: 5). ولا يقدر الأنسان الحسي أن يراقب أو يعاين هذا الأمر لأنه يفوق طبيعته. ولهذا ليس مهما كم بقي جسد مريم في القبر، يومين أو ثلاثة. ذلك الأمر يعود الى التخمين البشري. ما تقوله الكنيسة هو أن التلاميذ حسُّوا على فراغ قبر مريم بعد أيام و وجدوا فيه ورودا تفوح عطرا زكيا. أوحى اليهم الروح القدس بأنَّ مريم قد إنتقلت الى السماء.
هنا يلزم التنبيه الى أنَّ هذا الأنتقال يختلف عن إنتقال يسوع الذي تم بارادة وقوة يسوع الألهية ذاتها. أما مريم فلم تنتقل بقوة ذاتها بقدر ما نقلها يسوع إبنها عنده بقدرته الألهية. ليست هي من حَّولت جسدها المادي الى الروحاني بل يسوع هو الذي أجراه لها.
أما الأنتقال ” بالروح والنفس والجسد” فهو تعبير عن أنَّ مريم العذراء إنتقلت بكمال كيانها الروحي (صورة الله) والجسدي ( صورة آدم) الذي شكلَّ نفسا واحدة ، شخصا واحدا قائما بذاته مختلفا عن غيره له وجوده الخاص. وأكيدٌ أن مريم لم تنقسم على نفسها ولا إنفصل جسدها عن نفسها الروحية. بل تحول جسدها الى روحاني مُـمَّجَد يتمتع بالسعادة والهناء في حضرة الله للأبد.
هذه الأمور لم يذكرها الكتاب حتى ولا في وجهها الأنساني الحسي لأنها لم تدخل صلب قضية الفداء. إنها أمورٌ إيمانية لذا تركها كُتّاب العهد الجديد لشهادة المؤمنين أنفسهم. إنها النتائج الأولى للفداء، والضمان الأفضل للمسيحيين أنهم لا يسلكون طريقا خاطئا، ولا يتبع إيمانهم ” خرافات مصطنعة ” (2بط1: 16).
أما عن القبر فذلك أمرٌ طبيعي بأن يوجد لها قبر معروف ومُمَّيَزٌ عن غيره مثل كل الناس. لم يذكره الكتاب لأنه لم يرَ في ذلك ضرورة ونفعا لخلاص البشر. وموت مريم و قبرها ليسا مهمين كما ليسوع. لأن يسوع هو الأله المخَّلص الذي خلَّص مريم نفسَها وأشركها معه في رسالته. أما قبرها فيؤكد بأنَّ الأنسانية، أو بالأحرى الكنيسة، لم تتيَّقن من إنتقال مريم إلا بعد موتها ودفنها بشكل طبيعي. وآنتقال مريم العذراء الى السماء لا ينفي ولا يعارض موتها ودفنها. يبقى قبرها رمزا وعلامة لنا أنها كانت بشرا مثلنا ، إختارها الله لمهمة كلَّفها بها كما يفعل مع كل إنسان، وأدتها بأمانة و وفاء. وعن مجدها السماوي تبرهن كل يوم بالمعجزات التي تجريها لمن يلتجئُ إليها، وتضمن بذلك السعادة والمجد الأبديين لكل إنسان يسمع كلام الله ويعيشه ويبقى أمينا لدعوته. إن كان يسوع هو الأله المتجَّسد فمريم هي نموذج للأنسان الذي قبل دعوة الله فـتــألَّه.