يُحتفَلُ به في الأحـد الأول منه
تتلى علينا اليوم القراءات : أع4: 32-5: 11 ؛ 1كور15: 1-19 ؛ يو20: 19-31
الرسالة : 1 كورنثية 15 : 1 – 19
لم يُصَّدق توما شهادة رفاقه الرسل الذين رأوا الرب يسوع في غيابِه. لم يشُّك في صِدقهم. يعرف أنَّهم لا يكذبون. لكنهم ربما رأوا خيالًا. أمَّا هو فلا يُصَّدقُ أنَّ مَيِّتا بحالة يسوع يقدرُ أن يقوم بقوَّته حَيًّا. لمْ يذكر التأريخُ حدثًا شبيهًا بذلك. أقامَ الأنبياءُ أمواتًا. كذلك أقام يسوع ثلاثةً أموات. أمَّا أن يقوم مَيِّتٌ من نفسِه فيستحيلُ ذلك إلاّ على الله. الله وحدَه ربُّ الحياة ، وهو”المُحيي والمميت “. ولهذا صَرَخَ ، لمَّا عاين جراحاتِ صلبِه، ” رَّبي وإلهي”. ينفي المنطقُ العلمي الحِسّي كلَّ قيامةٍ ذاتية . فلم يُصَّدق اليونان الفلاسفة، في أثينا وكورنثية، أنَّ الأموات يقومون. لهذا كتب بولس للكورنثيين أنَّ ” حماقة الله أكثرُ حكمةً من الناس ، و الضعفَ من الله أقوى من الناس”(1كور1: 25). لذا لم يستند بولس على” أُسلوبَ الإقناع بالحكمة بل على ظهور الروح والقُوَّة .. حتى يستند إيمانهم إلى قدرة الله” (1كور2: 4-5). وآختصَّت رسالة اليوم بقيامة يسوع. لو أنكرَتْها الأُمم كلُّها “قولاً وفعلاً”، إلا إنَّ المسيحية تبقى تُعلن وتصيح ” كلاّ ! بل إنَّ المسيحُ قد قام من بين الأموات، وهو بكرُ” الغالبين (1كور 15: 20).
تراءى لصخرٍ.. لـ500 أخ.. لبولس !
يبدو وكأن خبرَ القيامة هو آخر سؤالٍ يرُّدً عليه بولس. لأنَّ الرسالةَ، في أغلبيتها، تبدو جوابًا على أسئلة كتبَها له الكورنثيون (1كور7: 1). يبدأ أولا بسرد الحقائق عن القيامة وهي رؤية المسيح حَيًّا من قِبل التلاميذ وغيرهم. فقد تراءى يسوع لأفراد مثل بطرس، ويعقوب وبولس. وتراءى أيَضًا لمجموعات مثل الرسل الأحد عشر، لجميع التلاميذ، ولِأكثر من خمسمائةِ أخ. بينما لم يجد قادة اليهود حتى ولا شاهدي زورٍ تتفقُ روايتُهم في إدانة يسوع (متى26: 59-65). ولو إقتصر شهود عيان الظهورات على إثنين أو ثلاثة، أوعلى الرسل الأثني عشرلكان للشَّك مجالٌ. أمَّا لهذه الكثرة من الشهود وحتى من خارج دائرة التلاميذ، ولبولس نفسِه الذي إضطهد كنيسة الله وقاوم البشارة وقاد المؤمنين بالمسيح إلى الموت، فلا يمكن أن يُعزى خبر القيامة لا إلى ” تهَّيُئات” ولا الى” تلفيق خرافات”. لاسيما وقد دفع أغلب هؤلاء الشهود ثمنًا غاليًا جِدًّا لأيمانهم وصِدقِ شهادتهم. وخاصَّةً أنَّهم لا يتوَّخون منفعةً مادية أو جاهًا من وراء بشارتهم، بل يخاطرون بحياتهم للإدلاءِ بحقيقة ما شاهدوا.
لقد إرتكزت البشارة على حدث القيامة بالذات لأنَّه فعلا شيءٌ، لا يوازيه حدثٌ آخر ولا يتفَوَّق عليه، ويستحقُ الأهتمام به. إنَّ القيامة حدثٌ فريدٌ من نوعِه. لم يحدث قطٌّ مثله، ولن يتكَّررَ أبدًا. إنه عملُ الله. لا يتوَّجه إلى العقلِ بل إلى القلب. لأنَّ آلام الصلب ومجد القيامة ثمارُ قدرة الله ومحَّبته أظهرها للبشر رحمةً منه ليؤمنوا به ويهنأوا معه. والمحبة والرحمة يحُّسُ بهما القلب قبل الفكر. ولهذا ركَّز الرسل على الشهادة لقوَّة القيامة ومجدها، وجاهدوا من أجلِ تثبيتها لأنه عليها يقوم بناءُ الأيمان المسيحي (آية11)، قائلين :” لقد أقامه الله ونحن بأجمعنا شهود على ذلك” (أع2: 32). وبثبات القيامة يثبتُ لاهوت يسوع المسيح :” إنَّه رَّبٌ وإله ” كما أعلن توما (يو20: 28).
كيفَ يقولُ بعضُكم لا قيامة للأموات ؟
ذكَّرَ بولس بجوهر بشارتِهم وإيمان الكورنثيين. وشَدَّد على أنه ضُعفٌ أن يعترضَ البعضُ بعد أن آمن عن قناعةٍ وآختيار. إنما لا يكفي قبول البشارة بل يجب تسليط أضوائها على كلِّ الحياة، على السيرة الأجتماعية. وإلا يبقى الأيمان باطلاً وبلا ثمر. فالقيامة تُؤَّكدُ أنَّ الخطيئة قد غُفِرَت، وأن الأنسان إستعاد نقاوة فكره وقلبه وأضاءت فيه من جديد صورة الله القدّوسة. والخلاص يكون بالأحتفاظ بهذه القداسة. أفاضت القيامة حياة جديدة في الكون، وعلى سَيِّدِ الكون أن يقوم من وحلِ عاداته وشهواته الجسدية ويستقيم ليسلك مع الله درب الحياة الروحية في الثقة بالله وحفظ وصاياه. فإذا لم تكن نهايةٌ للموت ولم يقُم الأموات، لن يقُوم الأنسان من سقطته ولن يتمتع بخلود مجيد.
قيامة المسيح حدثٌ لا شكَّ فيه تبَّشرُ به المسيحيةُ، وإنَّها تأكيدٌ على قيامة الأموات بالجسد. لو كان الأموات لا يقومون فالمسيح إذن لم يقم. وإذا لم يقُم المسيح لم يتم الخلاص، وعندئذٍ ماذا ينفعنا الأيمان به؟. بل يكون إيماننا باطلا. وأكثر من باطل لأننا ما زلنا تحت كابوس الخطيئة ونيرها. هذا من جهة. ومن أخرى نكون شهودَ زور إذ إدَّعينا أنَّ الله أقام المسيح، بينما لم يقم المسيح. وأخيرًا نخسرُ الدنيا والآخرة. نخسر الدنيا لأننا نحرم أنفسنا ملَّذاتٍ كثيرة وشهواتٍ ممتعة على رجاءِ الحياة الأبدية. لم نتنَّعم بكل الخيرات الجسدية الزمنية، ولن نحصل على بديلها في الأبدية. ونخسرُ الآخِرة لأنَّ المسيح لم يقم ولم تغفر خطيئتنا وباب دخول الجنة ما يزالُ مقفولًا في وجهنا، فلن نقوم للحياة الأبدية. ولا تنفعنا، في هذه الحال، شريعة الحب و الغفران والتعاون ونكران الذات، ولن نتمَّتعَ لا بالجسد على الأرض ولا بالروح في السماء. فنكون قد خسرنا المسلكين. وعندئذ نكون” أشقى الناس أجمعين”. لكن بولس يتحَّدى أفكار أولئك الذين ينكرون قيامة الأموات والخلود، ويُهَّرجون للملذات و العنف وتمجيد الجسد وتقديس الحياة المادية الزمنية. لا يتردد بولس أن يرفضَ هذا الألحاد و أن يرفع في وجهه شعار” كلا”، وأن يشهد بكل جرأة ” إنَّ المسيح قد قام من بين الأموات”. قيامته حجر أساس إيمانه لأنه رآه بأم عينه وحاوره (أع9: 1-9)، ولأنه إرتفع إليه للسماء في رؤىً ومكاشفاتٍ (2كور12: 1-5).
الأنسان حسَّاس بالأمور المادية والزمنية، المُسَّماة بالعلمية، لأننا “نعلمُ بها”. أما ما لا نعلمُ به أي الروحية، فهي التي لا تخضع للحواس، فنقبلها بالأيمان لأننا نحّسُ بوجودِها دون أن نراها أو نلمسَها. فالقيامة أمرٌ روحي لا يخضع للحواس وتخرجُ عن نطاق السيطرة العقلانية للأنسان. لذا لا يستوعبُها. إننا نؤمن بها لأنَّنا نحمل في كياننا بذرة الخلود ونصبو الى الكمال بالحصول على تلك الخيرات غير المرئية التي وعدنا بها المسيح. أمَّا كيف يقومُ جسدٌ سحقه التعذيب وفقد نسمة الحياة ذلك يرفضه المنطق الحسّي للأنسان. لكنه يقبله بالأيمان لأنه يعلم أن الذي خلق من لا شيء فأوجد الحياة يعرف ويقدرُ أن يُصلحَ ما تأذَّى ويجعله أفضل من السابق. القيامة، مثل الخلق، عمل الله لا الأنسان، والله قادرٌ عليها، وقد فعلها.