تتلى علينا اليوم القراءات : أع1: 6-12 ؛ 1طيم1: 18-2: 6 ؛ لو24: 44-53
الرسالة : 1 طيمثاوس 1 : 18 – 2 : 6
جاهِدْ جهــادًا حِسّــنًا !
بدأت الرسالة بدعوة بولس لتلميذه، مُجَدِّدًا بذلك دعوة المسيح لأَّحبائِه المؤمنين به (أع1: 8) ،إلى الجهاد من أجل نشر حقيقة شخص المسيح وتعليمه في الحَّقِ والمحبة. لقد كلَّفَ المسيح كنيسته بنقل بشارته ومتابعة عمله للبشرية جمعاء في كلِّ مكان وزمان. إنه عملُ الله منذ زمن غابر يؤَّديه الأنسان بآسمِه وبسندٍ من عنده. هكذا جاء منذ العهد القديم حيثُ يقول في أبن سيراخ: ” جاهد من أجل الحق حتى الموت، والرَّبُ الأله يُحاربُ معك ” (سي4: 28). و المسيح نفسُه جاءَ من أجل الشهادة للحق (يو18: 37)، وشهد له اليهود بذلك (لو20: 21)، و شهدت الكنيسة أيضا بذلك (يو1: 17). وقد جاهد يسوع حتى شهادة الدم على الصليب.
لقد أخذت كلمة الجهاد منحًا سلبيًا خطيرًا في العقود الأخيرة، بسلوك طريق الإرهاب و العنف حتى الدم. أما المسيح فقد جاهد بالكلمة والمحبة في الخدمة. فالجهادُ حربٌ نعم للدفاع عن الحق بإزاحةِ الستار عن ضلال تعاليم الناس وتسليط ضوء تعليم الله على فكر الأنسان. لم يستعمل المسيح السيف بل حاربَ بسلاح الكلمة والمثل. فالجهادُ الأصيل إذًا يعني الثبات على الحَّق في الأيمان بالمسيح مهما كلَّفَ الأمر، وإبلاغ تعليمه للناس بأَيِّ ثمن كان. وهذا يعني مقارعة الضلال وتفنيده بالكلام والمثل. وليس جهادُ المسيحي ضد قادة زمنيين :” لا نحاربُ أعداءَ من لحم ودم، بل أصحابَ الرئاسة والسلطان و ولاة هذا عالم الظلمات. أننا نكافحُ الأرواحَ الخبيثة ..”؛ فسلاحُنا ” أن نشُّدَ أوساطنا بالحق ، ونتدَّرع بالبّر، وننتعل بالحَمّية في إعلان بشارة السلام ، و نحملَ ترسَ الأيمان.. ونلبس خوذة الخلاص، ونتقَّلدَ سيفَ الروح، أي كلام الله ” (أف6: 12-17). إنَّه جهادٌ روحي ضدَّ الشر وسَيِّدِه. ويبدأ في داخل المؤمن ليتغَلَّبَ على الشر في نفسِه ويتحَّلى بالفضيلة القائمة على أساس قداسة الحَّق والمحبة، ويشُّعَ ثمارَها في سلوكه الأجتماعي. ولهذا وصَّى بولس تلميذه أن يُجاهدَ ” بالأيمان وبالضمير السليم” (أية19). المسيحية لا تستنبطُ تعليمًا جديدًا. بل تطلبُ تجَسيدَ صورة المسيح في الحياة اليومية. وتلك شهادتها له. فالجهادُ يعني لها أن تثبتَ في هذا السلوك ولا تحيدَ عنه، لأيِّ سببٍ كان وتحت أخطر الضغوط. نعم حتى لو آقتضى الموتُ في سبيلها. هكذا جاهد المسيح وآنتصرعلى عدو الحق وحَطَّمَ سلاحَ الخطيئة ونال إكليل الظفر وتمَجَّدَ مع الله ، ولن ينالَ أحدٌ لا منه ولا من كنيسته التي ستصعدُ عنده و تتمجدُ معه للأبد.
أسألُ أن يُقامَ الدعاءُ والصلاة !
للجهاد وجهان : فردي وجماعي. كلُّ مؤمنٍ مُجاهِدٌ. والمؤمنون كلُّهم معًا، أي الكنيسة ، مٌجاهِدون. لأنَّهم إنسانٌ مؤمنٌ واحدٌ في المسيح. ليست الكنيسة شركةً بفروع شبه مُستقلة. إنها جسمٌ يتكاملُ بتفاعل كلِّ أعضائِه. و لو” تأَلَّمَ عضوٌ تألمَت معه سائرُ الأعضاء. وإذا أُكْرِمَ عضوٌ سُرَّت معه سائرُ الأعضاء” (1كور12: 26). الجسدُ يُفَّرق ويُمَّيز، أما الأيمان فيجمعُ ويُوَّحد (1كور12: 27). لأنَّ” المسيحَ الرب واحدٌ والأيمانَ واحدٌ والمعمودية واحدةٌ وايضًا الرجاءَ واحدٌ و الألَهَ واحدٌ لجميع الخلق” (أف4: 4-6). فالكنيسةُ كُلُّها بكُلِّ أعضائها معًا مُجاهدة من أجل التعريف بالمسيح وببشارتِه ما دامت في مسيرتها الزمنية. وهذا أمرٌ طبيعي ما دامَ كلَّ مؤمن بذاته مُجاهدٌ شهادة للمسيح.
وللجهاد هدفان : خاصُّ وعام. الخاص يعودُ للفرد الذي يُجاهدُ ضِدَّ الشَّرالآتي من العالم، إذ لسنا نحن من العالم (يو17: 14-16)، ومن الجسد لأننا لا نسلُكُ بعدُ سبيله (رم8: 4)، ومن الشّريرلأنَّه كَذّابٌ غادرٌ(يو8: 44)، ليُجَّنبَ نفسَه عَدْواهُ، وليرتفعَ في سُلَّم القداسة كما يريده الله، ويضمن بذلك مجدَه وسعادتَه الخالدين. وهذا الجهاد يتّمُ في مقاومة الأهواء الشّريرة والشهوات المُفسِدة و المباديء الهَدَّامة التي يبُّثُها العالم ويدعو إليها. أمّا الجهاد العام فيعني أن المؤمن الفرد يضعُ نفسَه تحت خدمةِ الكنيسة ويُنَّسق برعايتها ما يقدر ويجب عليه أن يُؤَّديه كمشاركةٍ منه في رفعِ حملِ البشارة والخدمة العامة. وأولُّ واجبٍ يكون ألا يُخالفَ تعليمها ولا يُقاومَ تدابيرها. بل أن يثق بها ويستجيبَ براحةٍ الى قراراتها. والصمودُ في هذا الجهاد والصلاة يتطلَّبُ في كلا الوجهين ومن أجل كلا الهدفين عون الله. لأن الجسدَ ضعيفٌ (متى26: 41) ولأنَّ سيِّدَ العالم خبيثٌ غَدّار. ولاسيما لأنَّ بثَّ الخير و مقاومة الشَّر عملُ الله يشتركُ فيه الأنسان. فلأداء عمل الله نحتاجُ إلى أنوارِه وإغاثتِه. و لهذا لم يترَّدَد بولس عن طلبِ ربط المؤمن بالله في جهاده، ومن ثمَّةَ الألتجاءَ إليه بإقامة ” الصلاة والدعاء والأبتهال والحمد، من أجلِ جميعِ الناس” (آية 2: 1)، لأنَّ ” جميع الناس أخطأُوا وأعوزهم مجدُ الله ” (رم3: 23). والله يريدُ خلاصَ جميعهم. فأرسل إبنه الى العالم لكي لا يهلك من يؤمنُ به، وليُخَّلِصَ به العالم (يو3: 16-17). والصلاة ضرورية وتنفع كلَّ فئات الناس حتى الكُفَّار والمُلحدين والأرهابيين وكلِّ المجرمين. الله يُحِّبُهم لا لخطيئتهم بل لأنهم خليقتُه ويحملون صورته. وخلقهم للراحة والسعادة لا للشقاء والهلاك. ومن أجلهم قبِلَ المسيح أن يتألمَ ويُصلب. فالصلاة ترفعُ لأجلهم ليتوبوا ويخرجوا من دائرة الشّر فيخلصوا. وكذلك من أجل القادة الطغاة والمُضطهِدين والأعداء، وقد طلب المسيح محَّبتَهم والإحسان إليهم (لو 6: 27-28).
وأهم صلاة تكون الأعترافَ بجلال الله وقداستِه ورعايتِه ، فتسبيحَه وتمجيدَ إسمِه والدُعاءَ لأنْ تتم مشيئته في كل زمان وكل مكان كما علَّمنا الرب يسوع في صلاة ” الأبانا”. وبعدَه نرفعُ إليه طلباتِنا ولاسيما حمدَنا وشكرنا له لأنه يهتَّمُ بنا ويُلَّبي حاجاتِنا. يسوع نفسُه حمدَ الله الآب على حكمته وأفضاله (متى11: 25؛ يو11: 41). ولا تكون صلاتنا تلاوة آياتٍ حرفيًا بل تخرج من القلب والفكر، من الروح والجسد. إنساننا كلُّه يتَّصلُ بالله بكلامٍ وحركةٍ وروح تضطرمُ بمحبة الله.
الوسيطُ واحدٌ هو المسيح !
وفي معرض النداء للصلاة والتصريح بأنَّ الله يريد الخلاص لجميع الناس قال مار بولس عبارته الشهيرة، وقد أصبحت نقطة إرتكاز الأيمان، وهي :” إنَّ اللهَ واحدٌـ والوسيطَ بين الله والناس واحدٌ هو المسيحُ يسوع الأنسان، الذي ضَحَّى بنفسِه فِدًى لجميع الناس” (أية 4). و لم يترَّدد في تثبيتها لأنه إستندَ الى تعليم المسيح :” جاءُ ابنُ الأنسان لا ليَخدِمَه الناس، بل يَخدِمَهم ويفديَ بحياتِه كثيرًا منهم” (متى20: 28). ويُكَّررُ الكاهن في القداس ، أثناءَ الكلام الجوهري، كلامَ يسوع الآخر، عندما يقرأُ البركة على الكأس:” هذا هو دمي، دمُ العهدِ الذي يُسفَكُ من أجل أُناسٍ كثيرين، لغُفران الخطايا” (متى 26: 28). وهذا يختصرُلاهوت الفِداء . المسيح مات فداءًا عن البشرية. وهو وحدَه مُخَّلص العالم، ولا خلاصَ بغيره. هو”الطريقُ الوحيد لكل الناس إلى الآب ، في الروح القدس” (اف2: 18). هكذا قال المسيح : ” لا يأتي أحدٌ إلى الآب إلا بي” (يو14: 6). هو” الحجرالذي رذله البّناؤون لكنه صار رأسًا للزاوية ” (متى21: 42؛ مز117: 22-23؛ اش28: 16). على هذا الحجر يقوم بناءُ الكنيسة وبه تتماسكُ كلَّ الأجزاء (اف2: 20-21).
رُبَّ قائلٍ: ما دامَ يسوع الوسيطُ الوحيد فما حاجتنا الى وسطاء آخرين ، إلى شُفعاء نتوّسلُ بهم وكلُّ شيء بيد المسيح؟. أ لا يعني إقامة شفعاءَ/وسطاء آخرين التقليلَ من سلطة الوسيط الوحيد وقدره؟. لا أحدَ أقام وسطاء غير المسيح. إنما هو الله نفسُه الذي أقامَ شُفعاءَ عند المسيح وهم رُسلهُ وتلاميذُه والذين يُرضونه بقداسةِ سيرتهم. من أعطى قوة إجراء الأشفية والمعجزات وطرد الأرواح غير المسيح نفسُه :” أُشفوا المرضى، وأقيموا الموتى، وطَّهروا البُرصَ، وآطردوا الشياطين ” (متى10: 8). ومن إستجاب لبطرس فشفى مُخَّلع الهيكل؟ (أع 3: 6-8)، ولبولس فأقامَ أفتيخوس ؟(أع20: 9-12). ومن إستجاب إيمان أُناسٍ تشَّفعوا بظل بطرس (أع5: 15-16)، أو بمناديل لامست فقط جسد بولس؟ (أع19: 11-12). لماذا قبلَ المسيحُ شفاعةَ بطرس وبولس وكلِّ القديسين ؟. إنَّ أخبار معجزاتٍ تجري بشفاعة مريم العذراء والقديسين تصدَحُ في كلِّ الأقطار وتملأ، كلَّ يوم، صحائف حتى المُلحدين؟. من ينكرُ الواقع لا يغُّشُ، ولا يلومُ غيرَ نفسِه. هكذا صنع قادة اليهود ” رأوا ولم يؤمنوا” حتى سحبَ عنهم الرب إمتياز” شعب الله”، فأخذ منهم الكرم وسَلَّمَ رعايتَه الى غيرهم.
أمَّا شفاعة مريم العذراء والقديسين فهي ليست وساطة لدى الآب بل شفاعةً لدى المسيح. مع أنَّ إبراهيم وموسى وغيرُهم تشَّفعوا لدى الله وقبلها فآستجابَ لهم. والمسيح وعدَ الرسل أنَّهم من السماء سيدينون ” أسبطَ إسرائيل الأثني عشر” (لو22: 30). وأنهم سيُجرون معجزاتٍ أعظم من التي صنعها هو (يو14: 12). هو الله الذي يجري المعجزة على طلب المُتشَّفِع. لأنَّ هذا قد أرضاه بسلوكه ، فصلاته أمام الله هي بخورٌ يتعطَّرُ بها الله (رؤ8: 3-4). يسمعُ اللهُ صلاة القديس ويستجيبُها لأنَّه يريدُ من الناس أن يقتدوا بسيرتهم. هكذا لا فقط لا تنقصُ وساطة المسيح، وكانت لغفران خطيئة البشر، بل تزدادُ وتتوسَّعُ لأنَّه أعطى البشر أن يُشاركوه في إنقاذ الناس من الشر، من الضلال والفساد، ويساعدوهم على الخلاص. فبما أنَّ المسييح أشرك كنيسته في رسالته فهو يشركها أيضًا في سلطانه بمعنى أنه يأتي إلى نجدتهم عند الحاجة ويُؤَّيدُهم في مطاليبهم ويعضُدُهم بالآيات في مهّمتهم (مر16: 20). القديسون لا يتوسطون لفِداء البشر. تلك الوساطة أدَّاها يسوع المسيح ولن تتكرر مرةً ثانية (رم6: 10؛ عب7: 27؛ 10: 14-26). القديسون يتشَّفعون لمن يلتجيء إليهم فيستثمرون مفاعيل تلك الوساطة ويطلبون من المسيح أن يفيَ بوعدِه ويُلَّبي كلَّ سؤال يُرفَع بآسمه الى الله بإيمان (يو14: 13-14)، ويُغيثَ المبتلين الطالبين رحمتَه. لقد أرسلهم المسيح لخدمة المؤمنين به. وهم مارسوها على الأرض وقد أعانهم الرب و” أيَّدَ كلامهم بما صحبَهم من آيات” (مر16: 20). ويستمرون ممارستها فيخدمون كرمَ الرب حتى وهم في السماء.