أهلا وسهلا بالأخ سرمد حـداد
قرأ الأخ سرمد في موقع ” الحوار المتمدن” مقولة ًلمفكر ملحد، منشورة في باب ” ملحدون مفكرون”، تقول :” العدلُ هو الحكمُ بعقوبةٍ تتناسبُ مع الجريمة. الرحمة هي التخفيفُ من شّدةِ العقوبةِ أو إلغاؤُها. إذا كان الله مطلقَ الرحمةِ فهو غير عادل. وإذا كان مطلقَ العدل فهو غيرُ رحيم “.!!!. فســأَلَ :” ## ما هو تعليقُك ## ؟؟
حريــة الفــكر !
من حَّق ِ كل إنسان أن يُعَّبر بحرية عمَّا يُفَّكرُ به. و أيضا من حق كل إنسان أن يؤمن أو لا يؤمن. ولكن هل هذا يعني أنَّ كلَّ ما أُدُّعيَ به هو حقيقة يجبُ الأقرارُ بها؟. بالطبع “لا”. كما يفكرُ الملحد يفكرُ المؤمنُ أيضا. و المتفَّرج الذي” لا هو معَّلقْ ولا مُطَّلقْ” يُصَّوتَ لما يراه حَّقًا و يقتنعُ به، على أمل أن يكون قد تأملَ به أوَّلاً ثم أصدرَ رأيه بنزاهة ومسؤولية. يكشفُ هنا الكاتبُ هويته حتى لو لم يذكر لآ إسمَه ولا هدفَه. يبدو أن النتيجة المُصَوب اليها هنا هي نكران وجود الله.
وهذا يدفعنا الى التفكير والقول: ما هو مُبَّررُ الناس وماذا يسندُ المقاييس التي يُعلنونها دستورا للآخرين؟. ومن قالَ بأن للأنسان الحَّقَ في أن يحاسبَ غيرَه و أن يُقَّيدَ حُريته و يقتَّصَ منه، وبالأخير يسمي ذلك عدلاً؟. إذا كان الواحدُ يولدُ “حُرًّا” قادرًا على أن يعملَ ما يشاء فمن أعطى السلطان لغيره أن يمنعه عن ذلك؟. ومن قالَ بأنَّ العقوبة المحددة للجريمة هي عادلة ؟ هل العقوبةُ هي لردع المجرم؟ أم لحماية المجتمع؟ أم لأصلاح المجرم ومساعدته على تقويم سلوكه؟. وأيضا من قالَ بأنَّ الأساءة الى الأخر هي جريمة، و ليست وقاية من الشر؟ ومن يضمن ألا تسيءَ العقوبة الى المجرم فتحطم حياته الأجتماعية؟. ومن أين تعَّلمَ المجرمُ الأساءة ؟ هل الجرمُ من طبيعته أم من مشيئته؟. إن كان من طبيعته فهو ليس مسؤولا عنه. وإذا حوسبَ فسيُظلمُ. وإن كان من مشيئته فمن أين وممن تعلم ذلك؟. و عندئذ يجب تسليط الضوء والمحاسبة على المجتمع نفسه الذي علمه الجريمة فعاد وسنَّ قانونا يدينه بموجبه ويسيءُ اليه؟. فأين الجريمة وأين العدل ؟.
بالنسبةِ للملحد يعودُ الحَّقُ والعدلُ، والشر والجريمة الى اتفاق الأكثرية من أبناء المجتمع. وقد يختلف وحتى يتعارض من مجتمع لآخر. مما يعني أن ليس الأنسان قديرا حتى يجري العدالة الحقة الكاملة. ولهذا يجب البحث عن مصدر أصيل ثابت كامل يقدر أن يضمن الحق والعدل لكل الناس. يجب الرجوع الى موجِدِ الأنسان ومنظم ِ الحياة ، ألا وهو القوة الخلاقة للكون وللناس. الله الذي يعرفُ كيف صنع الأنسان هو وحده قادرٌعلى أن ينظم سلوكه و يزوده بدليل الحياة، وثم أن يحاسبَه. وهذا الله الخالق قد أمرَ الأنسان ان لا يحُّقُ له أن يقتلَ لا غيرَه ولا حتى نفسَه. ولا يحُّقُ لغيرِه معاقبته. فأين العدلُ في الأنظمة التي تشَّرعُ القتل عقوبة ؟. ومن قال بأنَّ قتلَ القاتل يوقفُ الشر؟. والتاريخ يشهد بأنَّ القتلَ جريمَة، وأنَّ قتلَ القاتل تمديدٌ للجريمةِ وتوسيع لآفاقِها. لأن قتل القاتل هو معالجة الجريمة بآقتراف جريمة أخرى! وهل هذا صحيح؟. فأين العدلُ إذن؟. لا توجد مطلقًا نسبةٌ بين الجريمةِ والعدل. المجرمُ مريضٌ يُعالج لا يُقتل. ولهذا نهى الله عن كل قتل، سهوًا أو عمدًا، ودعا الى معالجة المجرم لأصلاحه.
الله عادلٌ ورحيم !
إدَّعى الكاتب بأنه يستحيلُ الجمع بين عدالةٍ كاملة ورحمةٍ كاملة في نفس الشخص حتى في الله وذات الحالة المحددة. هذا صحيحٌ إذا عرَّفنا العدل والرحمة كأضدادٍ لبعضها. أما إذا عرَّفناها بصفاتٍ متكاملة فعندئذٍ يختلفُ الأمر. أما العدالة فليست في المعاقبة بل هي في آحترام كرامة الأنسان وحريته وحماية الحق والبر. وأول ضمان للعدالة هو الأعترافُ بها وتربية الأنسان عليها والألتزام بمضمونها. وهذا يتم بتكوين ضمير حي لدى الفرد وتدريبه على التقَّيد به. إنه بوصلة الحياة الحقة. والعدالة هي أيضا التمييز بين الأشرار والأبرار و عدم المساواةِ بينهم عند المحاسبة. أما الرحمة ، وهي صورةٌ للمحبة ، فهي عدم المحاسبة ، ” العين بالعين”، بل توفير كل الفرص الممكنة للأنسان ليكون صالحًا، وللمخالف أن يُصلحَ أمورَه ويُعَّدِلها. وعليه يمكن لله، ولكل انسان أيضا، أن يكون عادلا ورحيما في نفس الوقت، ويمارسهما في قمة أوجههما. وإذا آستحال ذلك على الأنسان لسبب أو لآخر، إلا إنها لا تستحيل على الله، الذي قال على فم يسوع:” أما الناس فلا يستطيعون. وأما الله فإنه على كلِ شيءٍ قدير”(متى19: 26)، و” ما من شيءٍ غير ممكن عند الله “(لو1: 37). فالذي خلق من لا شيء أخصبَ أيضا رحم عجائز عاقرات مثل سارة إمرأة ابراهيم (تك18: 10-14؛ 21: 1-7)، واليصابات إمرأة زكريا (لو1: 13)، وجعل مريم تلد يسوع وهي عذراء (لو1: 30-33).
وجاءَت في الأنجيل أخبار وأمثلة تدلُّ على مطلقية عدالةِ الله ومطلقية رحمتِه. أهمها خبرُ الزانيةِ التي لزمها الشعب في الجرم المشهود، تحكم عليها شريعة موسى بالرجم، وأتوا بها عند يسوع ليُحرجوه ، فحكم بالعدل المطلق ألا وهو: أولاً، لماذا أتوا بها وحدَها ولم يأتوا بالزاني أيضا؟. ثانيًا ، وبأيِّ حقٍ يطالبون رجمها وهم أنفسهم خطأة يستحقون الرجم؟. لقد إنسحبوا بخزي وفشل دون رجمها. وأعلن يسوع للمرأة أنها فعلا خاطئة وتستحقُ الهلاك. و تحَّققت العدالة : لا يحُّقُ للأنسان أن يخطأ ، ولا يحقُ للخاطيءِ أن يحاسبَ خاطئًا، وإنَّ الخاطيءَ في خطرالهلاك. ولكن الخاطيءَ مريضٌ يُعالج لا يُقتل. فترحمَ عليها وأعطى لها فرصة التوبة، فقال لها لآ أدينُكِ. ثم عالجها بقوله:” إذهبي ولا تُخطئي بعد الآن “(يو8: 3-11). وتحققت رحمةُ الله تجاهها. مطلق العدل: لا يمكن لخاطيءٍ ، مجرم، أن يخلص إلا إذا تاب. ومطلقُ الرحمة: أكبرُ المجرمين تُعطى له الفرصة فإذا تاب يخلص.
وخبرُ اللصين المصلوبين مع يسوع تتحقق فيهما ايضا مطلقية العدل والرحمة. لصُّ اليسار يستخفُ بيسوع ويحتقرُه ولصُّ اليمين يوبخُ زميله ويعترفُ بأنَّهما يستحقان الصلب بسبب جرائمهما. ثم يعترفُ ببراءة يسوع وآلوهيته ويسترحمُه. يدَعُ يسوع لصَّ اليسار يذهب عدلاً الى هلاكه، أما لصَّ اليمين فيرحمُه ويضمنُ خلاصَه (لو23: 39-43). وكذلك تتحققُ عدالة مطلقة ورحمة مطلقة في مثل الغني القاسي ولعازرالمسكين حيثُ ينالُ كلُ واحد، بعد الموت ، جزاءَه العادل. لم يُعاقب الله الغني القاسي على الأرض بل رحمه وأعطاه فرصة لتغيير سلوكه ويرحم لعازر. وإذ لم يفعل لم يرحمه بعد وفاته. أما المسكين لعازر فلم يرحمه على الأرض إذ أعطاه فرصة أن يحتمل مصيبته ولا يتذمر أو يخطأ، مع أنه وفَّرَ أمامه عدلاً من كان بوسعِه أن يساعده ويُخَّففَ من آلامه. وإذ صمد على بليتِه ولم يكفر ولم يخطأ جازاه الله بالسعادة والمجد بعد وفاته (لو16: 19-31).
إنَّ مطلقية العدل والرحمة عند الله ليست مرهونة بمواقف البشر. بل هي من جوهر صفاته تعالى. فالله كاملٌ في كل شيء، ولا يتغَّير أو يتبَّدل، ولا يوجد تعارض بين أفعاله. لأنَّ ” كلُّ عطيةٍ صالحةٍ وهبةٍ كاملة تنزلُ من فوق من عند أبي الأنوار” (يع1: 17). والله الكامل في كل شيء دعا البشرَ أيضا أن يكونوا مثله كاملين (متى5: 48)، وندَّدَ بالذين يُهملون أهم عناصر الشريعة : العدل والرحمة والصدق (متى23:23) ، مؤكدا ضرورة ذلك قائلا : ” لتكونوا تامّين مُكَّمَلين لا نقص فيكم” (يع1: 4).