أهلا وسهلاً بالأخ آدم موسى
كتب الأخ آدم يقول :” كاهن بَلَّغَ الشرطة عن شماسِه لسبب البيدوفيليا. ومطران بَلَّغَ عن كاهنِه لأنه صرفَ أموالَ الكنيسة على القمار”. ثم تساءَلَ: هل هو موقفٌ إنجيلي أن يُبَّلِغَ المطران أو الكاهن الشُرطةَ عن شخصٍ إرتكبَ خطيئةً في الكنيسة “؟. وقد آستغرَبَ هذا الموقف لأنه سمع من الأنجيل عن مار يوسف الذي لم يُبَّلغ عن مريم العذراء وهي حامل بدون علمه (متى1: 19). وكذلك عن المرأة الزانية التي لم يَدِنها يسوع بل أخلى سبيلها (يو8: 11).
لا تدينوا !
يجب قبل إدانة الآخرين التأكُدُ أولاً من صِحَّةِ التهمة المُعلنة والمُوَّجهة إليهم. يقول القانون الضميري: ” المُتَّهم بريءٌ إلى أن يُدان” من قبل محكمةٍ رسمية. فهل هذان الشماس و الكاهن أثبتت محكمةٌ رسمية تُهمَتَهم وأعلنت الأدلة الثبوتية على الجريمة المنسوبة إلى كلِّ واحدٍ منهما؟. و هل تأكَّدَ أيضًا من المحكمة أنَّ المُبَّلِغ عنهما هما فعلاً الكاهن والمطران المذكوران؟ أم هكذا تُغَّردُ الإشاعةُ على أفواهِ جميع الناس؟. ليست العدالة لا في التسَّترِ على الناس المخالفين ولا على فضحِهم أمام الملأ. يقولُ الأنجيل بعدم مخالطة الأشرار الذين، بعد نصحهم، يرفضون التوبة وإصلاح السلوك :” ليكن عندك كالوثني والعَشّار” (متى18: 17). يوصي مار بولس بتجَّنب الأشرار (2تس3: 14) وعدم مخالطتهم (1كور5: 11) لم يُقِم الله الناسَ محاسبين الواحد للآخر، بل مساعدين للأصلاح. ليست العدالةُ بإنزال العقوبة بالخاطئين بل إصلاح الخلاف وتقويم الوضع بما يبني المجتمع ، قاطعين طريق الشر ومُرشِدين الى طريق الحَّق والبِّر، ولاسيما إصلاح العلاقة بين الظالم والمظلوم عن طريق المحبة والغفران. عَلَّم الرب يسوع ألا نكسرَ قصبةً مرضوضة ولا نُطفيءَ فتيلةً مُدَّخنة (متى12: 20). بل نحاول أن ننعشَ الحياة بدواء التوبة والمُصالحة كي نغلبَ الشَّر الذي يريدُ أن يفنيَنا بالخير الذي هو دواءُ الحياة (متى 5: 39؛ رم12: 21). طبعًا لا يتبعُ أهلُ العالم هذه المباديء بل يرفُضُونها. أما المؤمن بالمسيح فيجب أن يتحَدَّى فكر العالم ويكون بِرُّهُ فوقَ بر الناس :” إذا لم يفُقْ بِرُّكم بِرَّ الكتبة والفرّيسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات ” (متى5: 20). ليس الأمر سهلاً لكنَّه مطلوبٌ من المؤمن، وتلك شهادته للمسيح (أع1: 8).
مَيِّزوا بين الأرواح !
طلب الرسول ألا نستعجلَ، لا في قرار الحكم بالإدانة، ولا في تبرئة ساحة المتهم. يتطلبُ الأنصافُ أن نُمَّيز بين المحاسبة وعدم إفلات الحبل للأشرار، وكذلك بين الضمير الأيماني وقانون الحُكم المدني. للكنيسة محاكمُ دينية تتخذُ الأجراءات اللازمة لأيقاف الأشرار المخالفين حَدَّهم، لا كإجراءٍ عقابي بل لغلقِ باب الفوضى والتخريب، وإصلاح المخالف. إنَّ لمؤَّسَساتِ الكنيسة ورجالها مردودًا إجتماعيًا إيجابيًا كان أو سلبيًا لا يجوز إهمالُه. و أبناء الكنيسة مدعوون إلى أن يكونوا في الحق والبر نموذجًا يقتدي به الآخرون. أنتم نور العالم، يقول الرب. ولكن ” إذا إنقلب النور الذي فيك ظلامًا، فيا له من ظلام “(متى6: 23) . وعلينا أيضًا أحيانًا ألا نُفَّسرَ كلامَ الله حرفيًا بل نقرأ على ضوئِه أحداث الحياة. فالكاهن أو المطران مسؤولٌ أمام الله وأمام المجتمع أن لا يُسيءَ من يرعاهم إلى الخير العام، بل يكونون من بناة النموذج المثالي للأخلاق. ومسؤوليته أن يُحاسب المخالفين و ينصحهم، وإن لم يردعوا فأن يوقفَهم حدَّهم ويُضَّحي بهم وليس بالمجتمع الأنساني الذي يريدُ له المسيح الخلاص. يكتب مار بولس لتلميذه طيمثاوس أسقف أفسس، بخصوص الكهنة: ” لا تقبل شكوى على كاهن إلا بشهادة شهود..وَّبِخ المُذنبين منهم بمحضرٍ من جميع الكهنة ليخافَ غيرُهم ..لا تحابي أحدًا.. ولا تكن شريكًا في خطايا غيركَ وآعتصِم بالطهارة ” (1طيم5: 19-22). هذا ما تعلمه الكنيسة وتمارسُه.
ولكن للدولة المدنية قوانينها للحفاظ على سلامة المجتمع. الدولة لا تنصح. نصيحتها هي القوانين، وإجراؤُها هو المحاكمة (الفضح)، وحكمها هو العقوبة. وفوق ذلك تطالبُ الموطنين بأن يُبَّلغوا عن الشر. ليس هنا حُكمًا عامًا لكل الحالات. ولا أدري هل تفرضُ الدولة التبليغ أم فقط تبغيه وتُشَّجعُه؟. الدولة تطالبُ الكنيسة ألا تتهاون في معالجة مشاكل كالمذكورة ولا تتسَتَّر عليها. وهذا مطلبٌ بنّاء. والكنيسة لا تُقَّصر عادة في السهر على العدالة. وعلى المسؤولين حلَّ مشاكل رعاياهم الأخلاقية حسب روح الأنجيل ولا يهملوا حَقَّ المظلومين. ولكن ليس مطلوبًا منهم أن يرفعوا دعوى لدى الشرطة إلا إذا كان الأمر يتعَّلقُ بقضايا دنيوية كالظلم في الممتلكات. وحتى ذلك يجب أن يتمَّ بعد دراسة الأمر مع السلطة الكنسية العليا لتفادي كلَّ مخالفة إيمانية.
والغفــران !
الغفران عصبُ الحياة في المسيحية. لو عاقبَ الله الإنسان لما وُجدَ إنسان على قيد الحياة. و يريد الله من الأنسان أن يتعَلَّمَ فيمارسَ الغفران. طلب الرب أن نرحم بعضنا من صميم القلب كما رحمنا الله (متى18: 22-25). وعلمنا أن نصلي يوميًا ونقول:” إِغفِر لنا خطايانا كما نحن أيضًا نغفرُ لمن أخطأ إلينا ” (متى6: 12). وكلُّ واحد يتحَمَّلُ مسؤوليتَه في تطبيق هذه الوصية أو مخالفتها. لأنَّ كلَّ مسؤولٍ يُقَّدرُ أبعاد المشكلة التي تحصلُ، ويُخَّمنُ نتائجها ويختارُ الطريق الأمثل للتعامل معها للخير العام. أمّا نحن فنحاسبُ عادة على النتائج لكنَّ الله يحاسبُ على النية والضمير اللذين تفاعلا لحَّل المشكلة. كان البابا بيوس الـ 12 قد فكر في إعلان الحرم على هيتلر وتبرئة المؤمنين من طاعته بسبب قتله الجماعي لليهود أثناء الحرب العالمية الثانية. لكنه بعدَ درس وصلاةٍ وتقييم لنتائج الحرم تراجع عن الحرم ودعا الكاثوليك في العالم أن يحموا اليهود ويحووهم في بيوتهم، وهكذا أنقذ مئات الألوف من الموت. ومع ذلك لازالت اليهودية تنكر رسميًّا على البابا تصَّرُفَه، وكانت تريدُ أن يحرمَ هتلر. ولو فعل لكانت النتائج المتوقعة أسوأ بمئات الضعف لما جرى. إذن : تقديمُ بلاغٍ للشرطة يبدو بحد ذاتِه مخالفًا للأنجيل. كان حَلُّها ممكنًا بسّرية و هدوء. و لكن على ضوء ما تقدَّم نجهلُ الأسباب الحقيقية لذلك، وأيضًا كيف ولماذا تمَّ الأبلاغ. يبقى المسؤولُ عن الأبلاغ يتحَّملُ دينونة الله.