إطّلع القُرّاء على الجواب السابق فسأل أحدُهم :
- قام أساسُ البشرية على زواج أقرب الأقرباء أي آدم من إبنته وأولاد آدم من أخواتهما. ونحن نُحَّرمُه الآن. كيف نواجهُ من يُطالبُ اليوم بإعادة زواج الإخوة والأخوات ؟.
أولا : بدءًا ذكر الكتاب ما كان لابُدَّ أن يَتم وإلا لما تكاثرت البشرية. وذكره من الأعسر ثم آنتقل الى الأسهل. الزواج العامودي بين والد وإبنتِه (تك4: 1-2). وكان من المستحيل أن يتزوج آدم بشكل آخر. إذ لم يكن في الوجود غيرُهما. بينما سيدينُ زواجًا شبيهًا في حالة لوط من بناته (تك19: 31 -38). ثم يذكر الكتاب ولادة بنين وبنات لآدم دون ذكر الزواج بينهما. لأنَّ الأمرَ بديهيٌّ ولا مفَّرَ منه.
ثانيًا: الأمر طبيعيٌ بالنسبة لتكاثرالأنسان في البداية لعدم وجود إمكانية أُخرى. إنما لم يقل بأن البنين تزوجوا من أمهم حواء ولا أن البنات تزوجن من أبيهن. بدأت إمكانية الزواج المستقيم بين الأخوة. بدت الحاجةُ أُمَّ الأختراع. سكت الكتاب عن زواج إبراهيم من سارة أخته من الأب فقط (تك20: 12)، لكنه سيمنع زواج الأخوة على يد موسى (أح18: 9-11) بل سيُعاقبُه بالموت (أح20: 17). ومارس الفُرسُ زواج الأخوة وحتى العامودي إلى قبل 1400 سنة، بدون قيد أو حرج. وكم لنا منهم إهتدوا الى المسيحية حاملاً إسم : أخُ أبيه أو أخُ أُمِّه. وقد تبَّوأ بعضُهم مراتبَ كنسية عالية كأسقف أو بطريرك!. لم يكن الأنسان يشعرُ، في وعيِه الباطني، بعِفَّةٍ أو حشمةٍ ولا وُجدَت آدابٌ تمنعها. كان الأمر أقربَ الى الغريزة منه الى التمييز.
أمَّا لماذا نُحَّرمُها اليوم ونُعارضُ من يريدُ العودة اليها فهناك مثلٌ يقول:” لكُلِّ مقامٍ مقال”.
كان الأنسان جاهلاً فلم يُحاسَب. كان الوضعُ شاذًّا فلم يُعاقَب. أما اليوم فقد تغَّيرت الأمور.
اولاً: نوَّرَ الله عقل الأنسان فأدرَك أن الزواج من الأباعد أصَّح. بمنع زواج الأقارب دعا اللهُ الأنسانَ الى التحَّلي بالقداسة: ” كونوا لي قدّيسين، لأني أنا الرب قدّوس” (أح20: 26).
ثانيًا : الأنسان تهَّذب وتطور. وآفتهم أن العلاقة الزوجية تُبنى على الحب لا على الجنس. والحب مُقَّدسٌ. وآفتهم أيضًا أن الزواج بناء حياة على أساس التوافق والتكامل بين الزوجين لا على أساس اللذّة أو الشهوة الجنسية، وذلك من أجل التطور. وأفضلُ التكاملِ يقومُ على إختلاف الزوجين في أمور حياتية ليتحَّقق التكامل فالتطور. بينما للأخوةِ قِيَمٌ وأدابٌ مشتركة لا تقودُ لا الى التكامل ولا الى التطور. في حين تجتمع بين الغرباء أمور حياتية مختلفة من ثقافة أو مواهب تساعد على تكامل أسمى، يقود الى تطور أفضل.
ثالثًا : يجب أن نحكم على كل شيء بحسب زمانه ومكانه وظروف بيئتِه، وأن نعي أنَّ لكل زمان وعصر خصوصيته لأن الأنسان قد تغَّير، بناءًا على ثقافته، فيتطلب سلوكًا يتماشى و متطلباته. فكما لا نقيس ما جرى قبل آلاف السنين بمنطقنا ومقاييسنا كذلك لا نسمح لأنفسنا أن نعود الى الوراء بعد أن إرتقينا سُلَّم العلم والتمييزوالمودة ونفعل ما يشجبه إيماننا وفكرُنا بحجة أن الماضي أصبح تُراثًا، وأنه سابقةٌ تُبَّررُ تصَّرُفًا لاحقًا شبيهًا. قايين قتلَ هابيل فهل أصبح القتل حلالاً بسببٍ أو بدون سبب؟. كلا. والدليل الله قال ” لا تقتل”. وكل الشرائع الأنسانية المتحَّضرة تمنع القتل.
رابعًا : كلُّ طفلٍ يرضع حليب أمه إلى أن يتقوى ويقدر أن يتناول الطعام فيترك الرضاعة. فهل يُفَّكرُ أحدٌ، شابٌّ أو كهلٌ، أن يترك الطعام ويعود فيرضع من أمه؟. وإذا شاخت فمن أين تأتي به له؟. وهل تقبل نفسية رجل أن يتصَّرف كذلك؟. كانت البشرية في بداياتها طفلا إختلفت مقاييسُها. أما اليوم وقد تهَّذبت فلا أحد يُفكر أن يحيا كذلك. يقول مار بولس:” متى جاء الكاملُ زالَ الناقص. لمَّا كنتُ طفلاً، كنت أتكَّلم كالطفل وأُدركُ كالطفلِ وأُفَّكرُ كالطفل. ولمَّا صِرتُ رجلاً، تركتُ ما هو للطفل” (1كور13: 11). وبخصوص الزواج ترك الناسُ ما كان في زمان الجهل. تمَّ الزواجُ بين الأقارب ببراءة طفيلية. أمَّا اليوم فإذا تم ذلك تكون البراءةُ قد إستحالت الى نجاسة.
خامسًا : هذه ميزة العقل والتمييز في الأنسان تُطَّوِرُهُ و تُفَّرقُه عن البهائم التي لا جديد فيها. ما تزال البهائم تسلك كما سلكت يوم خُلِقت. تتكاثر بالتزاوج بين الذكور والإناث دون تمييز بين القرابة بينها، وبدون الأدراك أصلا أن أنثىً تتزاوج مع فرخها أو ذكرًا يتزاوج مع والِدَتِه. لم يتطور الحيوان. وسيبقى يتصرف بغريزته. ولا علمَ له أصلا بقرابة أو حشمة !. وما يزال يعيش في العراء إلا إذا دجَّنه الأنسان أو بنى له مأوى، ويقتات بنفس الطريقة إلا إذا وفَّر له طعامًا. أما الأنسان فلا حاجة الى ذكر ما بلغه من القمة في التطور في كل أبعاد حياته. ولا أعتقد أن إنسانًا عاقلا وطبيعيًا يقبل أن يترك العزَّ الذي فيه ليرجع الى الذُّل و الشقاء الذي عانى منه ملايينَ السنين!. ما آكتسَبه الأنسانُ من علمٍ وأخلاقٍ رفعَ من مقامه. فلا ننسى أنَّ المسيح جعلنا أبناءَ الله و ورثتَه (غل4: 7)، مُقَّدَسين في الحب والحق. وعَلَّمنا اللهُ بأفضلية الزواج من الأباعد، ومنعنا من زواج الأقارب. فهل نتراجعُ ونقتدي بالحيوان؟.
للأنسان اليومَ كلُّ ما تشتهيه نفسُه، ويصنعُ ما يحتاج اليه. أما آدم والأجيال البشرية الأولى فكانت محرومةً من كلِّ شيء ولا إمكانية تقنية لها، ولا شعور لها بالنقص أو خطأ لأنها لم تملك شيئًا مما نتمتع به نحن. كانت جاهلةً وضعيفًةً. فهل يليق بالأنسان ويُعقل أن يسلك كما فعل آدم؟. وقد إنفتحَ ذهنُ الأنسان على الحق وتَرَّطبَ قلبُه بالحب فأدرك أن ما حدث في البدء كان خاضعًا لظروفٍ شاذّة، وكان لا بُدَّ منه للأستمرار في الوجود. أما لمَّا كثُرَ الناسُ فسقطت تلك المبررات، وتكون شاذّة إذا أُتُبِعت، يمُجُّها الذوقُ السليم.
إنَّ زواجَ الأقرباء ، مِثل زواج المثليين (أح18: 22؛ 20: 13) والقتلِ الرحيم، إنحرافٌ عن الصواب. وليس مُستَبْعَدًا أن يكون ابليسُ، كارهُ الأنسان ومُهلِكُه، وراء هذه المُنكَرات و التشويهات، كما هو وراءَ العُنفِ والدَجَل. فهو يريدُ أن يُرَّجعَ الأنسانَ إلى غريزته الحيوانية ليُصبح ” بهيمة “، فلا يستعمل عقله للتمييز بين الحَّق والباطل، بين الخير والشر. يُثيرُ في الأنسان شهوتَه الغريزية ويدفعُه إلى الأنجراف وراءَها. وبذلك يتخلف فيهلك.
كانت الديانة اليهودية أولَّ من حَرَّمَ الزواجَ بين الأقارب من الدرجة الأولى والثانية وحتى الثالثة، ثم سارت المسيحية على نفس النهج لأنها آمنت أنَّ ذلك هو حاليًا مشيئة الله. لاسيما أنَّ الزواج سِرُّ محَّبةِ الأنسان و وحدتِه. هذه الوحدةُ مُهَّددةٌ بالتفَّكك نتيجة تكاثرالأنسان بشكل غير سليم. المحبةُ والوحدة قِوامُ الأسرة. وحتى لا تزولَ بين تعَّدُدِ الأُسَر وآختلاف الشعوب بل تحافظ على وحدة ” الأنسان”، تشَّجعُ الكنيسةُ الزواجَ من الأباعد لتكْثُرَ أواصرُ المحَّبة و تقُّلَ الغُربةُ. ففي المحَّبة يُصبحُ حتى الغريبُ أخًا وأُختًا. عندئذٍ يَـتِّمُ الزواج من” الأخواتِ البعيدات ” اللواتي لم تلدهُن نفسُ الأُمَّهات.