أهلا وسـهلا بـ ” أكـبه فْلاور”.
طلب السائلُ الكريم فلاور : # ما هو شرحُ الموعظة على الجبل ؟
طوبى للمساكين بالروح ! متى5: 3
الحديثُ عن الموعظة على الجبل يُذّكرُ حالا بعبارة ” طـوبى” التي يستعملها الرب يسوع ليُهَّنيئَ من يسلكون سبيل البر الذي يوافق مشيئة الله الخالق ويضمن بالنتيجة الحياة الأبدية في مملكةِ الله في نعيم دائم. لكنَّ الموعظة على الجبل تمتَّدُ على ثلاثة فصول من إنجيل متى. يبدأُها بـ ” وصعد يسوع الى الجبل”(متى5: 1) ويُشير بذلك الى موسى على الجبل يتلقى الوصايا من الله ليقول أنَّ يسوع هو”موسى الجديد”، أى المخلص الذي تنَّبأَ عنه موسى. وقد أكد يسوع أنه به عنى (يو5: 46) عندما قال:” قال لي الرب. .. سأُقيمُ لهم نبيا من بين إخوتهم مثلكَ، وأُلقي كلامي في فمه، فينقُلُ إليهم جميعَ ما أُكَّلمُه به. وكلُّ من لا يسمعُ كلامي الذي يتكلمُ به بآسمي أُحاسبُه عليه ” (تث18:17-19). ومتى يكتبُ لأهل فلسطين من مسيحيين ويهود ليُذّكرَهم بدءًا بهوية يسوع الكتابية. ولذا أنهى الموعظة بـ ” ولمَّا نزل يسوع من الجبل … تبعته جموعٌ كثيرة “(متى8: 1)، إشارة الى أنه بدأ يتكون شعبُ الله الأصيل على يد قائده الجديد يسوع المسيح على الجبل، كما على الجبل إلتقى موسى بالله، وهناك أخذ منه الوصايا، وهناك أصعد الشعب ليعقد العهد مع الله
الدستور المسيحي !
جمعَ موسى، قبل موته، الشريعة التي إستلمها من الله والتي وضعها هو لقيادة الشعب دستورا يُنظم حياتهم سياسيا وآجتماعيا ودينيا. وسلمها اليهم قائلا: ” إسمعوا يا بني اسرائيل السُنَن و الأحكام التي أتلوها على مسامعكم اليوم ، وتعَّلموها وآحرصوا أن تعملوا بها ” (تث5: 1). و هكذا سجَّلَ متى ، في بدء إنجيله، الدستور المسيحي الذي أعلنه يسوع منذ بداية كرازته في مبادئه الأساسية. وإن لم تشمل الخطبة كل المباديء المسيحية إلا إنها تبقى الشرعة التي تتحكم في حياة المؤمنين ومصيرهم، واليها يعودون عند جهلهم وشَّكهم أو ضيقهم ليتعلموا كيف يتصرفون في كل مواقف الحياة. قال متى :” وأخذ يُعَّلمُهم..” فالموعظة تعليمٌ ، أى إرشادٌ الى كل ما هو” حَّقٌ وشريفٌ وعادلٌ وخالصٌ ومُستحَّبٌ وطَّيب، وما كان فضيلة وأهلا للمدح “(في4: 8).
أجزاءُ الموعـظة !
1+ بدأ الخطابُ بـ ” طوبى “. والطوبى تعني ” هنيئًا”. يبدأ يسوع بمدح من ينالُ رضى الله لأنه يسلكُ سبُله ويحيا حياتَه بصورتها الألهية. فيكون تعليمه دعوة ً وتشجيعا كي لا يستثقله السامعون. وأعطى يسوع تسع تطويبات لتسعة أصناف من الناس ينبذُ المجتمع البشري أمثالهم. إنها تقييمُ آدابٍ ، لا عقائد، يمُّجها أهل العالم ويستنكرونها ويتجَّنبونها بينما مدحها الرب لأنها دليل قرب أصحابها من الله.
2+ ثم يصفُ يسوع تلاميذه ويُحَّددُ هويتهم بأن يكونوا نورًا يشعُّ الحَّـقَ في العالم ، ومِلحًا يُضفي طعما على الحياة على الأرض.
3+ بعدها يتطَّرقُ يسوع الى الشريعة التي جاءت على يد موسى. ويؤَّكدُ أنه لن يُلغيها لأنَّ أساسها من الله نفسه، لاسيما الوصايا العشر. لكنه أشار إلى نقاط ضعفٍ فيها أدخلها موسى بسبب قساوة قلب الأنسان وضلال فكره (متى19: 8)، وأيضا بسبب سوء فهم الشريعة وتحويرها التالي لتوافق الميول البشرية. وأعاد الشريعة الى نقاوتها الأولى :” سمعتم أنه قيل للأولين… أما أنا فأقولُ لكم..” (متى5: 21-43) وتشملُ المواضيع التالية: القتل، الزنى، الطلاق، العين بالعين، حب القريب وكره العدو.
4+ ينتقلُ بعده الى دعامات العبادة المسيحية الثلاث ، وهي: الصدقة والصلاة والصوم و يشترط فيها عدم حب الظهور، وأن تقوم على أساس الأيمان والمحبة والرجاء لا المنفعة المادية.
5+ ثم يُعالجُ مواضيع مختلفة ومنفصلة، منها: الكنز الحقيقي، نور الانسان، عبادة الله والمال، دينونة القريب، القاعدة المثلى للعلاقات الأجتماعية، الطريقان الى المصير، الأنبياء الكذبة و التلاميذ الحقيقيين. وينتهي الخطاب بمثل التلميذ الصادق والمؤمن الذي يبني حياته على صخرة الأيمان بالله ، وبالنتيجة على التقيد بشريعته في واقع الحياة اليومية.
وقال الأنجيلي متى، الشاهد والمرافق ليسوع ، بأنَّ يسوع كان يُعَّلم كمن له سُلطان. أى أنه يعرفُ مادته جيدا ويثق بجودتها وصحتها وأفضليتها. إنه واثق من أنه يقول الحق ومستعّدٌ أن يدفع عنه دمه ثمنا للألتزام به. وخطابه تنبيه وتوضيح بل نداءٌ للمؤمنين به عامة ولرسله الذين ينتدبهم لمتابعة رسالته خاصة. على من يتبعه أن يتقَّيد بهذا الدستور فهو نظامه الخلقي المتمَّيز عمن سبقوهم أو يأتون بعدهم. ويُشَّدد يسوع على الألتزام بالتعليم لا إعلانه فقط مثل الفريسيين المرائين ” الذين يقولون ولا يفعلون “(متى7: 24-26؛ 23: 4).
طوبى ..طوبى .. طوبى !
إنَّ المعروف عند عامة قُّراءِ الكتاب المقدس أو سامعيه أنَّ الموعظة على الجبل تقتصرُ بالدرجة الأولى على متى5: 1-12، أى موضوع التطويبات التسع وحدها. ويقدمها الأنجيل موضوع فخر وهناء بعكس العالم الذي يرى فيها حالات شاذة ومناوئة لطبيعة الأنسان وهدف حياته. هل يمكن أن نقَّدسَ الفقرَ والجوع والحزنَ والمسامحة؟. إنها تتعارضُ ظاهريا وتناقض السلوك الأنساني العام الذي يمدح الأغنياء ويُهَّنيءُ الأقوياء ويجُّلُ العظماء ويرقص مع المنتعشين ويؤَّيد العنيفين ويُحاربُ من لا يشاركه الرؤية ويُذَّللُ من يتصَّدى لشهواتِه.
الحديث يجري عن فئة الناس التي إختارت أن تحيا بالروح وللروح لا للجسد. الأنسان روح وجسد، الروح صورة الله ونسمة منه، أما الجسد فهو صورة الزائل الذي يفنى. ويتحدث مار بولس عن التناقض بينهما. ففي حين ينزع الجسد الى الموت ينزع الروح الى الحياة والسلام. ونزوع الجسد، يقول مار بولس، ” تمَّرُدٌ على الله لأنه لا يخضع لشريعةِ الله، بل لا يستطيع ذلك. فالذين يسلكون سبيل الجسد لا يستطيعون أن يُرضوا الله “(رم8: 7-8). والتطويبات تتحدَّثُ عن الذين يسلكون سبيل الروح أى يرضون الله. فالطوبى أُعطيت لمن يسلك حسب مشيئة الله في الحق والبر، في الحب والإخاء، في العدل والسلام، في الوداعةِ والتواضع، في النقاء واللطف وكلِّ ما يعمله الله ويصدرُ منه. بكلمة : أُعطيت الطوبى لمن يسلك مسلك الله نفسه ويتشَّبه به، لأن ذلك هو الحق والكرامة والفخر والمجد.
يسوع عَّـلم كما قال الأنجيلي. والجماهير إرتاحت الى تعليمه لأنها شعرت أنَّ فيه مصداقية ً وحياة ً لم تجدها عند غيره من المعلمين وآشتاقت اليها كثيرا. محتوى الطوبى هو كلام الله وحياته. والأنسان الصادر من كلام الله ونفسه يرتاح عندما يلتقي بما قد جبل عليه.
يسوع يُحَّدثُ تلاميذه ويكوّن منهم رسلا يستلمون بعده راية مملكة الله ويشهدون للحق الألهي. فالله لا يبحث عما يلُّذ الشهوة وترتاح اليه الحواس. بل يريد أن يزرع بين البشر الحقَّ والبر وبالتالي الحياة التي خطفها ابليس منهم لما جرَّهم الى إتّباع راحةِ الجسد والحواس. إن كان ابليس قد خدع وغَّشَ الأنسان فالمسيح يدعوه الى العودة الى الحق. وتلاميذه أول المدعوين ليُصبحوا نموذجا ويشهدوا أنَّ التطويبات ممكنة. وقد يُكلفُ ذلكَ كثيرًا: فقرًا وجوعا وعريا وحزنا وبذلا وتضحية وجهادا ضد الإغراءات الدنيوية بل وحتى إضطهادًا من قبل أعداء الله والحق. لكن التلميذ لا يتزعزع ولا يتراجع لأنه واثقٌ من أنَّ الله لا فقط لن يهمله بل و يجازيه بالمجد والراحةِ والسعادة. لأنَّ السعادة والهناء ستصيب من يكون في مملكةِ الله و جَّنتِه. والله الخالق وحده يملك هذا الخير الذي يشتاق اليه الأنسان. لذا فهو وحده أيضا يقدرُ أنْ يضمن خلاص الأنسان وراحته.
فيُذكرُ يسوع تلاميذه، وينقله الأنجيل الى رسل وتلاميذ كل الأزمنة عبر مسيرة البشرية، بأنَّ الأرشاد والتعليمات موَّجهَة اليهم لا الى جمهور خيالي. وتنبيه لهم في ألا يروا مستقبَلا في شدائدهم عقوبة أو إهانة وذلا حتى ولا خسارة. ولهذا يصدح صوت بولس فرحا لما يقول أنه مستعدٌ أن يخسر كل شيء ليربح المسيح : ” من أجله خسرتُ كلَّ شيء. وعددتُ كلَّ شيءٍ نفاية لأربحَ المسيح وأكون فيه ” (في3: 8). ويُضيفُ بأنه لا توجد قوة في الكون ” لا شِدَّةٌ و لا ضيق ولا آضطهادٌ ولا جوعٌ ولا عريٌ ولا خطرٌ ولا سيفٌ” (رم8: 35) تقدر أن تفصله عن حُّـبِه للمسيح. لأنه واثق من حب الله المتواصل للأنسان بحيث لا توجد قوة ” لا الموت ولا الحياة ولا الملائكة ولا أصحابُ القدرة ولا خليقة أخرى تقدر أن تمنعَ حبَّ الله لنا في ربنا يسوع المسيح” (رم8: 38-39).
وتُشَّدد التطويبتان الأخيرتان على الأهانةِ والأضطهاد من أجل الأيمان بالمسيح والسلوك حسب تعليمه ويُعلنه فخرا ومجدًا إذ يرفعهم الى مصّاف الأنبياء. والأنبياء رجالُ الله يعيشون في الحق، ويرشدون الأنسان إليه ويُحَّذرونه من مغبة مخالفةِ الحق. وهذا هو دور تلاميذ المسيح. إنهم أنبياءُ العهد الجديد. ويشهدُ الأنجيل أنَّ أعداء الله والحق إضطهدوا المسيح نفسه وصلبوه. ولن يكون جهادُ تلاميذه أفضل: ” إن كانوا قد إضطهدوني فسوف يضطهدونكم أيضا “(يو15: 20). سيرفضهم العالم ويُحاولُ التخَّلصَ منهم بأي ثمن كان وبكل أشكل التعذيب والقتل. لكنهم لن يخسروا بل سيضمن ذلك مشاركتهم مجد الله (يو17: 22-24). وهكذا حدث للرسل منهم بطرس ويوحنا اللذين إفتخرا وآبتهجا بما لقياه من هوان وعذاب بسبب شهادتهم للمسيح (أع5: 41).
وهذا ما يحدثُ اليوم في العالم وتنقله وسائل الإعلام كلَّ يوم. المسيحيون مُضطهدون على الهوية لأنهم يشهدون لحق المسيح ويرفضون أن يُجاروا العالم في نفاقِه وضلاله ومآسيه. و هم مستعدون للموت رافضين أن يساوموا على إيمانهم لأنهم يعرفون أنهم في الحق، ولأنهم لا يدينون العالم بل يبحثون في خلاصه بإرشاده الى سبيل الحق والبر. فالأضطهادُ جهلٌ بالله وبالحقيقة ورفضٌ للأخاءِ والمحبة والعدل والسلام. والصمود في وجهه جهادٌ من أجل ملكوت الله (متى11: 12).