أهلا وسهلا بالأخت سعادة
قرأت الأخت سعادة مقالةً وآستفسرتْ عن صحَّةِ ما ذهبَ إليه صاحبُها. والمقالةُ تتلَخَّصُ وتقفلُ على أنَّ الإِدّعاءَ بإِلهام الكتاب المقَّدَس، ولاسيما العهد الجديد، أُسطورةٌ لا أكثر. و يدَّعي صاحبُ المقال بأنَّ هذه ” حقيقةٌ ” يقُّرُ بها الأنجيل نفسُهُ. فالإِدّعاءُ بإِلهامِه فريةٌ من الكنيسة وكذبة.
ويستشهدُ الكاتبُ بمقدمة إنجيل لوقا (لو1: 1-3)، وخاتمة إنجيل يوحنا (يو20: 30). يقرأُ عن لوقا هكذا :” إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصَّة رواية الأحداث التي جرت بيننا ، كما نقلها إلينا .. ، رأيتُ أنا أيضا بعدما تتبعتُ كلَّ شيء من أصولِه بتدقيق، أن أكتبَها إليك ..”. وآستنتَجَ فقال : ” لذا فعلَ هو نفسَ الشيء. ليسَ بدافعٍ إلهي ولا إلهامٍ إلهي”. أما عن يوحنا فقرأَ :” وآياتٍ أُخَر كثيرة صنع يسوع قدامَ تلاميذه لم تُكتَب في هذا الكتاب “. و يستنتج فيقول :” الكاتبُ يعترفُ بأنَّ هناكَ أشياءَ أُخرى فعلها يسوع لم تُكتبْ أو حَذَفَها (!!!) وآنتقاء …”. وآستخلصَ القولَ بأنَّ ” الأناجيلَ تُؤَّكدُ على كونها نتيجة جُهدِ المُؤَّلف. أو المؤَّلفُ نفسُه يؤَّكدُ هذا الشيء..”. ويُختَمُ المقال بأنَّ ” هذا التقديمَ البسيط وافٍ للغاية بما يخُّصُ أُسطورةَ الكتُبِ المُلهَمَةِ “.
أَّلَفـوا ..و رأيتُ أن أكتبَها أنا أيضا !
نعرفُ انَّ الكتابَ المقدس، لاسيما الأناجيل، هي اليوم أكثرَ إنتشارًا ومقروءَةٌ من أكبر عدد من الناس، لا المسيحيين فقط بل حتى من غيرالأديان وغير المؤمنين. ولا يوجدُ كتابٌ يلقى رواجًا مثله. وإذا احتفظت بعضُ المؤلفات القديمة رونقًا أو قيمة فلأنها ما تزال تُعتبرُ مَصدَرًا نظرًا لغيرها التي فاقتها توسُّعًا وطعمًا. أما الأناجيل فما تزالُ، وستبقى، في القمَّة مهما كُتبَ عنها نقدًا أو شرحًا، مَدحًا أو قدحا. إنها مثل نبع الماء الذي يستمرُّ في العطاء لتغترفَ منه كلُّ الأجيال وترتوي ملايينُ الناس كلَّ يوم. لماذا ؟ لأنها ” كتابُ الله “، كتبه بواسطة بعض الناس. فهو كُلُّه، كما يقول مار بولس مُبَّشرُ الأمم ورسولها،” من وحي الله ، يفيدُ في التعليم والتفنيد والتقويم والتأديب في البّر”(2طيم 3: 16). ويُضيفُ مار بطرس ، نائبُ المسيح ورئيسُ الكنيسة، الذي أقامه الرب يسوع وخَوَّله أنْ من فمه تسمعَ الأمم الوثنية الحقيقة (أع15: 7) فيقول: ” إعلموا أن لا أحدَ يقدرُ أن يُفَّسرَ من عنده أيَّةَ نبوءَةٍ في الكتُبِ المقَّدَسة، لأنَّ ما من نبوءَةٍ على الأطلاق جاءَتْ بإرادةِ إنسانٍ. ولكنَّ الروحَ القدُس * دفعَ * بعضَ الناس إلى أن يتكَّلمَ بكلامٍ من عندِ الله “(2بط1: 20-21). ونحن قد ورثنا من الرسل هذا الأيمان، وإن لم نُقّر به ونتبَعْه لن يكون إيماننا قويمًا ناضحًا من إيمانهم. والمسيحُ أقامَ الرسلَ شهودًا له (أع1: 8)، وأكَّدَ على أنَّ من لم يسمع منهم لمْ يسمع من المسيح نفسِه (لو10: 16). ولسنا نحن اليوم أجدرَ بأن نعرفَ المسيح على حقيقته ونشهد له. والكنيسة أقَرَّتْ دومًا بأنَّ الكتابَ المقدس كله ” موحًى ” من الله.
عندما يصنع المهندسُ آلةً ما يحَدِّدُ هدَفَها ويضعُ لها طريقة العمل حتى تحَّققَ المطلوبَ منها . وإذا عطلت يُصلحُها ويسنُد فعلَها بإضافةِ ما يُعَّوضُ عن الخلل الحاصل فيها. هكذا عندما خلق اللهُ الأنسان بيَّنَ هدَفَه وأرشَدَه الى كيفية تحقيق ذلك. ولما غَيَّرَ الأنسانُ طريقته خسرَ فتعَّطلت علاقته مع الله. عندئذ أضافَ الله فنظَّم للأنسان، شيئًا فشيئًا ، ما يُساعِدُه في الحفاظِ على علاقة جيدة به ليعيش براحةٍ وهناء للأبد. وهذا ما دعاه الأنسانُ” دينًا “، ودعا الأنسانَ المتَقَّيِدْ به ” مُتـدَّيِـنًا “. فالأنسان أولا وأهم من الدين الذي وُجِدَ لأجلِه. ولم يتجَسَّد اللهُ في شخص يسوع ولم يمُت على الصليب من أجل الأديان بل ليُخَّلصَ البشر، ويُخَّلِصَهم جميعًا (1طيم 2: 4).
الوحي أو الألهام !
يبدو مما جاءَ في المقال أنَّ كاتبَه لم يُمَّيز بين الوحي أو الألهام وبين ” الإملاء”. لقد خلطَ بينهما. الإملاءُ أن يتلوَ واحدٌ نصًّا وينقله الآخر حرفيًا مثل الآلةِ الكاتبة. وإذا آفتهمَ كاتبُنا الألهام إملاءًا فهو مُتَـوَّهِمٌ. لمْ يتكلم الله وسجَّله الأنجيلي. لقد تكَّلمَ اللهُ فعَّلمَ يسوعُ المسيح مدة ثلاث سنوات دون أن يكتُبَ حرفًا أو يُمليَ على تلاميذِه ولو سطرًا ليُسَّجلوه. بل تكلمَ بما هو ” روحٌ وحياة “(يو6: 63). والحياة تجري وتستمرُ نَقَـلها إلينا الأنجيليون بعد أن إختبروها ومارسوها مدةً طويلة قبل أن يُسَّطروها في الكتاب ليُبَّلغوها إلى جميع الأجيال التالية. وإِنَّ فكرةَ تسجيلها نفسَها هي إلهامٌ من الروح القدس. بالأضافةِ الى مرافقةِ الروح للكاتب أثناءَ عمله ليُسجَّل ما يريده الله وكما يريده.
وبخصوص دور الله ودور المُؤَّلف في كتابة الأسفار المقدسة عَـلَّمت الكنيسة من خلال المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني ما يلي :” اللهُ هو مؤَّلف الكتاب.. وقد إختار لِكتابةِ هذه الكتب المقدسة أناسًا إستخدَمَهم ـ وهم يتمَتَّعون بكامل مقدراتِهم وقواهم ـ وعملَ فيهم و بواسطتهم لكي يُدَّونوا ، كمؤلفين حقيقيين، كلَّ الأمور التي كان يريدُ إعلانها كتابَةً ، وهذه وحدَها دون سِواها ” (مرسوم الوحي الألهي، رقم 11). ويُضيف في الفقرة التالية :” بما أنَّ اللهَ قد تكَّلمَ في الكتاب المقدس بواسطة البشر وبطريقةِ البشر، ينبغي لمُفَّسرِ الكتاب المقدس أن يبحثَ بكل تدقيق (كما فعل لوقا !) عما أرادَ كاتبوا الأسفارأن يقولوه حقيقةً، وما شاءَ اللهُ أن يُعلنَه بواسطة كلامهم هذا، حتى يرى جليًا ما أرادَ اللهُ نفسُه إعلانَه لنا” (رقم 12). فالألهام لا يَمحُ دور الكاتب البشري بل يُقويه. الله يوحي الى الأنسان أن يكتبَ وما يكتب. و الكاتبُ يستعملُ فكره ومواهبه اللغوية والفنية والأستخباراتية ويهدفُ الى إيصال كلام الله لا إلى نشر أخبارٍ عن الله.
وأعلن يسوعُ ذلك صَراحةً. فقد أعلن عن دور الروح القدس في حياة الكنيسة وحَدَّدَه بالتذكير بكلامه والتنوير في فهمِه والشهادةِ لحياتِه، قولاً وفعلاً، ولاسيما بالإرشادِ الى الحَّقِ كلّه (يو14: 26 ؛ 15: 26 ؛ 16: 13). وقد أكَّدَ بأنه إذا آقتضت الحاجة يتكلم الروح في المؤمنين به :” ستُعطون في حينه ما تتكلمون به. فما أنتم المتكلمون، بل روحُ أبيكم السماوي يتكَلَّمُ فيكم “(متى 10: 19-20). يقول يوحنا في سفر الرؤيا :” إختطفني الروحُ في يوم الرَّب، فسمعتُ خلفي صوتًا قويا كصوت البوق يقول : أُكتب ما تراهُ في كتابٍ و أرسِله الى الكنائس ..” (رؤ1: 10-11). وجاء في سفر الأعمال :”.. وبينما يخدمون الرب ويصومون قال لهم الروح القدس: خَّصصُوا لي برنابا وشاول لعملٍ دعوتُهما إليه” (13: 2).
آياتٍ أخرى لم تكتب في هذا الكتاب
إستشهدَ صاحبُ المقال بهذه الآية وبما سبق فقاله لوقا أنه ” رأيتُ أنا أيضًا أن ..” ليُعلنَ أن لا دور لله في كتابة الأناجيل. بينما تستدّلُ الكنيسة منها أنَّ الله يوحي الى الكاتب من جهةٍ أن يكتبَ وجهًا آخر ليسوع لم يتطرَّق اليه سابقوه، ومن أخرى ألا يكتبَ تقريرًا صُحفيًا ينقل فيه أحداثَ حياةِ يسوع كلَّها وبتفاصيلَ “تأريخية “. بل أن يُقَّدمَ يسوعَ لبعضِ الفئات التي لم يصلها غيرُه وأن يُشَّددَ على جانبٍ مُعَّين لم يُبرَز بالكفاية ، حتى تتكاملَ عنه شهادة الرسل. فالأنجيلي إختار من حياة يسوع ما يخدمُ هدفه ويقودُ قارئي ذلك الكتاب الى الأيمان بيسوع فالخلاص به. هكذا بَرَّرَ كلٌّ من لوقا ويوحنا سفرَهما. بدأ لوقا كلامه : ” حتى تعرفَ صِحَّةَ التعليم الذي تلَّقَيتَه ” (لو1: 4). وختم يوحنا إنجيله :” أمَّا الآيات المُدَّوَنة هنا فهي لِتؤمنوا بأنَّ يسوع هو المسيح ابنُ الله. وإذا آمنتم نلتُم بآسمِه الحياة ” (يو20: 31).
لم يحذف يوحنا أحداثًا من حياة يسوع بقدر ما لم يتطرَق إلى كلها لأنه لا يكتب تأريخًا ولا سيرة حياة. بل يُقَّدم كلام الله مُعاشًا من قبل يسوع ومؤَّكدًا أنَّ هذا يسوع هو المسيح المنتظر ، وفيه وحده خلاص البشرية إذا آمنت به وحفظت كلامَه وآقتدت خاصّةً بسلوكِه. وكما برزَ الأزائيون بفقرات وأخبار إنفردَ بذكرَها كلُّ واحد، هكذا تمَّيز يوحنا أيضا بذكرأحداث وكلام إنفردَ هو بذكرها لأنها كانت تخدم هدفَه. ربما لفظ يسوع أقوالا وفعل أفعالا لم يذكرها ولا واحد من الأنجيليين. لم يروا ضرورةً لذلك لأنها كانت مُعاشة فعليا من قبل المؤمنين. يُذَّكرُ بولس أهل أفسس بكلام ليسوع لم يُدَّونه ولا إنجيلي وهو :” ذاكرين كلام الرَّب يسوع إذ قال : السعادةُ الكُبرى في العطاء لا في الأخذ” (أع20: 35). لقد إنتقى كل إنجيلي ” مواد كتابه ” كما أشار صاحبُ المقال ليُقَدمَ صورة عن يسوع تقودُ الجماعة والبيئة التي يقصُدُها الى الأيمان. ولكن هذا الأنتقاءَ نفسَه هو بإرشاد الروح القدس. أوحى الروح الى كل واحد أن يعتبر وضع الجماعة التي يتوجه اليها وذهنيتها وآستعدادها وأن يختارَ من حياة يسوع ما يؤثر عليها. ولا تزال الكنيسة الى اليوم تُقَّدمُ يسوع وبشارتَه الى كل شعب وإنسان بلغته وثقافته وحضارته دون أن تُغَّير الأيمان. فالأنجيل حياةٌ عاشَها أولا يسوعُ المسيح ثم الرسلُ ، ومطلوبٌ أن يعيشَها كلُّ مؤمن.
فالأنجيلُ حقيقةٌ مُلهمة من الله ومكتوبةٌ بيد البشر. ليست اسطورةً لا الأناجيلُ ولا عملية الأيحاء بها. أما الأسطورة فخيالٌ يقربُ من الخرافة والحقيقة بَّراءٌ منهما براءَة الذئبِ من دمِ يوسف. ويؤَّكد بطرس أنَّ ما يُبَّشرون به وما كتبوه “ليس خرافات مُلَّـفقة عن المسيح”. ويتابعُ القول :” لأننا بعيوننا رأينا عظمته .. حين جاءَه من مجد الله تعالى صوتٌ يقول : هذا هو إبني الحبيب الذي به رضيتُ. سمعنا نحن هذا الصوت آتيًا من السماء، وكنا معه على الجبل المقدس” (2بط1: 16-18).