أهلا وسهلا بالأخ سرمد.
سألَ الأخ سرمد ما يلي : أسمع كهنة ينفون وجود الشيطان ويقولون أنَّه ليس شخصًا وإنَّما ” رمزًا للشر”، وغيرُهم يُؤَّكدُ وجودَه كشخص : فما هو تعليقُكم ؟
المنطــق !
لا أستغربُ السؤال الذي أَشغلَ الكثيرين، إنَّما أستغربُ أن يُعتَبَرَالشيطان” رمزًا للشر” ولا يُعتَرَفُ بوجودِه؟. كيف يكون إذًا رمزًا ؟. عندما نقولُ أنَّ فلانًا أو شيئًا ما رمزٌ أو علامةٌ، إنَّما نَصِفُ كائنًا موجودًا. لا يُمكن أن نُطلقَ صِفةً مُحَّددة على ما لا يوجد. وإذا أطلقنا نعتًا مُحَدَّدًا على كائن ما فذلك لأنَّه موجود حتى وُصِفَ بنوع محسوس، نشعرُ به ونقدر أن نتأَكَّد من وجودِه. وهكذا لما نقولُ ” فلانٌ شَرّيرٌ” فإننا نعني” كائنًا حَيًّا ” يمتهن الشَّر.
فكرةُ نكران وجود الشيطان/ ابليس مُرتبطةٌ بفلسفةِ نكران الروح، أي كلّ ما لا يخضع لحكم الحواس. ليس الشيطان كائنا “جسديًا” يُشغلُ فُسحةً مُحَدَّدةً من الكون المادي. وبما أنَّ بعضَ الناس ينكرُ أيَّ نوع من الوجود لأيِّ كائناتٍ ” روحية “، أي بلا جسد، حتى وجودَ الله خالق الكون، فلا يعترفُ طبعًا بالشيطان أيضًا. يعترفُ فقط بالأنسان وبما يحُّس به ويتفاعلُ معه مادّيًا. وأعتبره ” سيِّدَ الكون ومركزه” يُحَدِّد ويُمَّيز الخطأ من الصواب والحَّق من الباطل، ويتحَكَّمُ في مصائر الناس وبالنتيجة يأكُلُ القوّيُ بين البشر المُستويَ الأضعفَ منه. وإذا لم يوجد الروح، فلا وجودَ لا لله ولا لابليس، فلا قوَّة تتحَّكم في الأنسان لا ليُغريه ولا ليحميه ولا ليُعينه بشيء ولا ليمنعه عن شيء.
الأيمان !
أما المؤمنُ بوجود خالقٍ أزلي للكون وما فيه فيُؤَّكدُ على وجود كائناتٍ روحية. ما حُجَّتُه؟. يقدر الأنسان، بعقلِه وحده، أن يكتشف وجود صانعٍ للكون بسبب النظام الرائع الذي يقوده. أمَّا أن يعرفَ كيف هو هذا الصانع، وكيف يقودُ الكون، وماذا يريد فلا يستطيعُ أن يكتشِفَه بذاتِه. لأنَّ الله نفسَه روحّيٌ لا يقع تحت الحواس. والأنسان يعرفُ فقط عن طريق الحواس.
هذا الله كشف نفسَه لنا، عبرَالتأريخ، بالوحي والأفعال. وهذا الوحي نقله لنا الكتابُ المُقَدَّس. فالكتابُ يؤَّكدُ أنَّ الله خلقَ كلَّ ما هو موجود، وصنعَه جيِّدًا ” حَسنًا “(تك1: 31). ومن ضِمنِه الأنسان. بل أكَّدَ أنه صنعه على صورتِه ومثالِه. واللهُ قُدّوسٌ لا عيبَ فيه. فهل تكون صورتُه مُشَّوَهة وشِرّيرة بينما هو صالحٌ وقدوس؟. من أين إذًا جاءَ الشَّرُ فيه؟. ولماذا لَفَّهُ النقصُ والألمُ والقلق؟. يقولُ الكتاب : لأنَّه تمَرَّدَ على خالقِه وأخطأ.
رُبَّما هي حُرّيَتُه و عُزلتُه عن الله دفعته الى ذلك؟. أو تكون رغبتُه في منافسةِ سيِّدِه ثم إزاحتِهِ والقيامِ مقامَه سَيِّدًا مُطلَقًا ؟. إنَّ الطفلَ الصغيرَ بريءٌ ولا يعرفُ الشَّرَ بل يتعَّلمُه من مخالطته للناس الأشرار السابقين له عُمرًا وفكرًا وخِبرَةً. والأنسان الأول كان ما يزالُ طفلاً بريئًا لا يعرفُ معنًى للمخالفة أو طعمًا للسيادة. ولم يكن له مثيلٌ يُعيقُه أو يُؤذيه حتى يُنافِسَه ويتخَّلصَ منه. لم يقلِ الكتاب أنَّ آدم فكَّرَ وبحثَ ورغبَ !. بل قال انَّ الحَّية بادرت إلى إثارةِ الشهوة فيه وإغرائه على العصيان. والحَّية هذه كشفها سفرُ الرؤيا بـأنها ” ابليس أو الشيطان، خادعٍ الدنيا كُلِّها” (رؤ12: 9). ظهر الشيطان لآدم بشكل حَّية فزعزع أولا ثقتَه بالله وشَكَّكَه بكلام الخالق تهيئةً لآغرائِه، ثمَّ غشَّ آدم بأنه لو خالف وصية الخالق سيقتني خيرًا عظيمًا إذ يصبح هو نفسُه إلَـهًا. وآدم عجينةٌ خام عديمُ الخبرة بالحياة الروحية ومُغَلَّفٌ بالمغريات الحِسَّية، و مبهورٌ بما يُعرَضُ عليه، صدَّق ببراءة طفلٍ هذا العرض ولم يعِ شيئًا ولا حسبَ حساب خسارةٍ قد يتكَبَّدُها. فالشيطان إذًا كائنٌ مُشَّخص، تدَّخل في حملِ الأنسان على التمَّرُد على الله لأنه رأى فيه منافسًا ورثَ المجدَ الذي فقده، فحسَده وأسقطه من مجده.
أُقيمُ عداوةً بينكِ وبين المرأة !
الشيطان حَّيٌ يستمر ونتيجةً لفعلته سيقوم عداءٌ بينه وبين الأنسان، ويطول الى النهاية. و الأنسان سيثأرُ للظلم الذي أوقعه فيه ابليس وسينتقمُ منه ويسحقُ رأسَه :” وهو يترَّقبُ منكِ الرأسَ”، ولكن بعدَ أن يدفعَ الأنسان ثمن غلطته ويُميت خطيئته على الصليب:” وأنتِ تلدغين نسلَه” (تك3: 15). وهل كلَّ هذه الأحداث هي رموز؟. وإذا كان الشيطان رمزًا فقط فلن يكون المسيح أيضًا أكثر من رمز وخيال؟. لكن المسيح يسوع شخصٌ تأريخي وقد دفع ثمن خطيئة الأنسان ليُعيدَه الى كرامته ومجده. والأنسان أيضًا وجودٌ حقيقي وليس رمزًا. و تأريخ التجسد والفداء مبنيٌّ كله على أنَّ الأنسان أخطأ نتيجة صراع ابليس ضدَّه جاهدًا إبادته. لو لم يُحَّرض ابليس آدم على العصيان لما أخطأ. ولو لم يخطأ لما إحتاج الى فداء. ولو لم يسقط من مجده لما تجسَّد الله ليفديَ الأنسان ويعيده الى مجده. ولو لم يكن الشيطان موجودًا لما حصل كلَّ هذا.
إبتعِد عني يا شيطان !
حياةُ يسوع المسيح تشهدُ على وجود الشيطان وعلى صراعه المستميت ضد الأنسان. إنَّ الأناجيل تُشِّددُ على حقيقة الوجود والصراع، نرى فيه يسوع، بعد أن فَشَّله في تجاربه معه (متى4: 1-11)، يفضحُه ويكشفُ حِيَله الجهنَّمية وأعماله السيِّئة ولاسيما أسلوبه في الدجل والغِشِّ حتى دعاه” قاتلا منذ البدء، لم يثبت في الحَّق،..لأنَّه كذاب وأبو الكذب” (يو8: 44). وسفرُ الرؤيا غنّيٌ عن التفسير في التأكيد على شخص الشيطان وحروبه ضد المسيح و أتباعه، بآسم ” التنين أو الوحش أو الحَّية القديمة “، وقد هَزَّمه جيشُ الحق (رؤ12: 7-9)، بعد أن إستلم إبنُ الأنسان يسوع المسيح المُلك في السماء (رؤ5: 9-16)، وآتَّجه الشيطان الى محاربة الكنيسة وأبنائِها :” ولما رأى التنين أنه سقط الى الأرض أخذ يضطهدُ المرأة .. وذهب يقاتلُ باقي نسلها الذين يعملون بوصايا الله وعندهم شهادة يسوع” (رؤ12: 13-17). وقد سبق وأخبر يسوع عن ذلك عندما قال لبطرس :” ها هو الشيطان يطلبُ أن يُغربلَكم كما يُغربلُ الزارعُ القمحَ ” (لو22: 31). وقد تكَّلم مرّاَت أمام يسوع الذي أخرجه من عدد من الممسوسين (مر1: 24؛ 5: 9).
الشيطان يؤمن بالله ويخافُه (يع2: 19)، ساد العالم بدهائه وخباثته (1يو5: 18-19) ويضّلُ الناس (1يو3: 8)، ويرُّدُهم فيقصيهم عن الخلاص (1تس2: 18). يفعلُ ذلك لأنه ناقِمٌ على الله ويحسدُ الأنسان (حك2: 24؛ اش14: 13-15). ولو لم يكن كائنا مُشَّخَصًا شرّيرًا لما حَذَّرَنا منه الكتاب (1بط5: 8؛ 2بط2: 1؛ 2كور2: 11؛ أف6: 11؛ 1طيم3: 7؛ …).
تلمذوا وعَمِّدوا وعَلِّموا ! متى28: 19-20
وتفسيرًا لتعليم الكتاب (2بط1: 20)، ولآيصاله سليمًا نقّيًا، وتنفيذًا لوصّية الرب بادرت الكنيسة وعَلَّمت أنَّ ابليس وسائر الأبالسة كانوا ملائكة سقطوا من مجدهم لأنَّهم رفضوا ، بآختيارِهم، أن يخدموا الله وقصدَه. كما يعملون لآشراك الأنسان أيضًا في ثورتهم. وهو الذي أغراه منذ البدءِ وقاده الى إساءة إستعمال حُرّيته (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية ،رقم 414-415). وما نطلبه في أبانا الذي..” نجِّنا من الشّرير” ليس شيئًا مُجَّرَدًا بل يدُّلُّ على شخص : الشيطان، الشرير، الملاك الذي يقاوم الله “(ت.م.ك.ك، رقم 2851)، وينشر لواء الخطيئة والعصيان على الحق في العالم (ت.م.ك.ك، 1995م، رقم 2852).
إحذروا ألاّ يُضَلِّلَكم أحد !
أمَّا لماذا ينفي البعضُ وجود الشيطان، فرُبَّما عن جهل بالكتاب أو بتعليم الكنيسة، أو تبعًا للموجات التي تعصفُ من حين لآخر جاهدة في إستئصال الأيمان المستقيم، وأيضًا لربما لغايةٍ في أنفسهم!!. وقد نبَّه البابا القديس بولس السادس (+1978م) بخطورة نكران وجود الشيطان وآعتبَرَ ذلك نصرًا للشيطان لأنَّ نكران وجوده تجربةٌ جديدة من الشيطان نفسِه ، ليخلوَ له الجَّو ويستميلَ القلوبَ ويُغريها بالحُرّية والكرامة والحقوق والشهوة وتقديس أنواع النوازع والأهواء الشرّيرة والمُدَّمرة للأيمان. ولكي لا أُعَّممَ قلَّة الأيمان على جميع الناكرين وجود ابليس، فأذكرُ أنَّ بعضَهم ركبوا الموجة العلمانية ونكروا ما نكروا، وكذلك آمنوا بما آمنوا، ليكونوا من ضمن روّاد الفكر وفي طليعة القيادة والدعاية لكل جديد يُغري حتى لا يُعتبَروا من المتخلفين” الرجعيين” ، بغَّضِ النظر عن صِحَّة الجديد أو خطأِه. وأمثالُ هؤلاء يُبدِّلون الرأي سريعًا، مثل تغيير الثوب، إذ تراهم يتبَّنون جديدًا إضافيًا قد ينسخُ الأول، دون أن يشعروا بخجل أو حتى بغرابة الأمر.