إتصَّل بي صديقٌ وطلب أن أُفَّسرَ له ما قرأه في سفر الرؤيا 11: 1-14،عن ” شاهدين ” قال عنهما :” سأُرسلُ شاهدين من عندي عليهما المسوحُ ، يتنبِئان مدةَ ألفٍ ومئتين وستين يومًا؛ هذان الشاهدان همُا الزيتونتان والمنارتان القائمتان أمام رَبِّ الأرض..”( الآيات 3 و4).
زيتونتان ومنارتان !
وإن كان الكلام للمستقبل لكن سبق وجاء ذكرُ ” زيتونتين ومنارتين” في زكريا النبي 4: 3-14، حيثُ أشار الله بها الى شخصين أعادا بناء هيكل أورشليم بعد العودةِ من السبي هما : زُرُبّابل الحاكم ويشوع رئيس الكهنة ” اللذين إختارهما الرَبُّ ومسحَهُما بالزيت ليَخدُماه، و هو رَبُّ الأرض كلِّها ” ( الآية 14). فهما الزعيمان، المدني والروحي، اللذان أشرفَا على إعادة بناء الهيكل والحياةَ الروحية إلى بني أسرائيل بعد العودة.
وهذا العمل رمزٌ بدوره إلى إعادة بناء الحياة الأيمانية على يد المسيح وتنميتها على أيدي رسله. وقد سبقَ يشوعَ وزرّبابل مَن كَوَّن الشعبَ مدنيًا وبنى حياته الروحية الدينية : موسى وايليا. موسى كوَّن الشعبَ وزوَّده بالشريعة والقيادة، وايليا الذي أنعشَ الأيمان فقاوم فسادَ الشعب وزيغانه عن الحَّق، وحاربَ الملوكَ في سبيل تثبيتِ دعائم الأيمان والأخلاق. لكنَّ موسى تنبَّأ أيضًا وقال ” بأن سيقيم الرب لشعبه قائدًا أصيلاً أبدّيًا (تث18: 15)، وهو يقصدُ يسوع المسيح، وقد أكَّدَ يسوع ذلك وذكَّر به اليهود (يو5: 45-47).
أمَّا ايليا فآنتهى العهدُ القديم بالإِنباءِ عن عودته قبل المسيح ليُهَّيئَ له :” ها أنا أرسلُ إليكم ايليا النبي … فيُصالحُ الآباء مع البنين، والبنين مع الآباء “(ملا 3: 23-24). وقد أكَّدَ يسوع بأنَّ ايليا هو، هنا، رسالةٌ وليس شخصًا، وأنَّ ايليا جاءَ فعلاً في شخص يوحنا المعمدان الذي أدَّى الرسالة المُعزاة اليه (متى11: 14؛ 17: 11-12)، كما أكَّدَه الملاك لزكريا: ” وفيه روحُ ايليا وقُوَّتَه ” (لو1: 17).
موسى وايليا !
هذان الشخصان من العهد القديم، حصرًا دون غيرهما، ذُكِرا كثيرًا في العهد الجديد، لاسيَّما وقد تمتَّعا بالظهور للتلاميذ يومَ التجَّلي، عن يمين منارة الحَّق يسوع ويساره “… تراءَيا لهم
ويُكَّلمانِه “(متى17: 3). وما جاءَ في خبر” الشاهدان” (رؤ11: 4-6 يتماشى ويتطابق كلّيًا مع حياة وأعمال المنارتين ، ايليا وموسى، أي: مِن حَبسِ هطول الأمطار مذة ثلاث سنوات ونصف التي حدثت على يد ايليا (لو4: 26؛ يو5: 17؛ 1مل18: 1) وقد أصبحت منذ دانيال النبي رمز كلِّ إضطهادٍ وضيق (دا7: 25)؛ بينما موسى هو الذي جعل المياه دمًا ، وأتبَعَها بتسع ضرباتٍ لاحقة، بقوةِّ الله (خر7: 17).
أمَّا العدد ثلاث سنوات ونصف أو 1260 يومًا فهي نصف الرقم سبعة، الذي يشيرُ الى الكمال. بينما نصف السبعة، 3.5، يشيرُ ويرمزُ الى النقص وبالتالي الى الشّر. ما ليس كاملاً فهو ناقص، وما هو ناقص فهو شَرٌّ وسببُ ضيقٍ وألم. وسيَمرُّ الشاهدان، قبل النصر، بضيقِ الآضطهاد، الذي يعيشُ فيه يوحنا كاتب سفر الرؤيا.
الشاهدان ، من هما ؟
لقد تباينت الآراءُ بين مُفَسِّري الكتاب عن هوية ” الشاهدان “. قال البعضُ ” أنهما أخنوخ و ايليا، أو موسى وايليا (بسبب حبس المطر وتحويل الماء الى الدم )، أو حنَّان ويشوع ( ذبحهما الآدوميون ولم يُدفَنا)، بطرس وبولس ( منارتا الكنيسة، طُرحا في ساحة المدينة العظمى على أيّام نيرون)، يشوع وزربابل” (بولس الفغالي، رؤيا القديس يوحنا، دراسات بيبلية 11، المكتبة البولسية، 1995، ص264).
لكن التقليد المسيحي العام قد إتَّفقَ، رغم ذلك، على أنَّ الشاهدين يرمزان الى موسى وايليا في شهادتهما لحياة المسيح وقيامته، إنَّما في شخصي بطرس وبولس اللذين شهدا ليسوع في إدارة شؤون الكنيسة وفي تعليمها، فقادتا صمود المسيحية عند الأضطهاد الى الأنتصار على عدُّو الحّق ، الذي شنَّ الحرب على الكنيسة من القرن الميلادي الأول والى الرابع، وآنتهى بآندحار الباطل المُتجَّسدِ بالأمبراطورية الرومانية.
وهذا هو التفسيرُ الرسمي والموقفُ المُعلَن للكنيسة المسيحية كافَة. يشهدُ على ذلك المعلمون من جميع الكنائس الكاثوليكية والأرثذوكسية والبروتستانتية كما جاءَ في التفسير التطبيقي لمجموعةٍ من اللاهوتيين والمُفَسِّريثن لـ رؤ 11: 4؛ وفي تفسير العهد الجديد، نص فاندايك وشروحاته لسنة 1877 و1987؛ وفي الطبعة المسكونية الفرنسية لسنة 1976، وكذلك في الطبعات الكاثوليكية العربية والغربية.
إِنَّما يجلبُ آلآنتباهَ كلامُ أحد علماء الكتاب المقدَّس المشهور في عصرنا، ألا هو الخوري بولس الفغالي، رحمه الله، صاحب تأليف أكبر مجموعة من المؤَّلفات ( أكثر من أربعين كتابًا، كلُّ واحد تقرب صفحاته من 500 صحيفة أو أكثر!) فقط عن تفسير الكتاب المقدس. يقول :” هُما شخصان مُحَددان وغير مُحَدَّدين. هما شخصان رمزيان، شخصان جماعيان. يرى يوحنا نفسَه فيهما. وفيهما يرى أيضًا كلَّ الأنبياء المسيحّيين. لا يُمَيِّزُ الأنبياءَ عن القدّيسين الذين يُذكَرون دومًا معًا: 11: 18؛ 16: 6 ؛ 18: 20-24. إنَّهما المسيحّيون الذين بذلوا حياتهم أمانةً لله والحمل. إنَّهما الغالبون الذين هم مع يوحنا (1: 9) شُركاءُ في محَّبة يسوع ومُلكِه وثباتِه. إذن يرمزان الى كلِّ المسيحيين، الذين دعاهم يسوع ” نور العالم”، والذين يتجاوبون مع المُهّمة النبوية المُحَدَّدةِ على الشكل التالي : شهادةٌ حتى الموت لواقع مشروع الله ” ( المصدر المذكور ص 265).
فالشاهدان هما إذن من الكنيسة. يُضيف فغالي ويقول: ” ليسا فقط موسى وايليا. بل يرمزان الى المسيحيين … فالشاهدُ الأول هو يسوع. ثمَّ الكنيسة التي يُمَّثلُها بطرس وبولس ، و سيكون الرسل ( وكلُّ المسيحيين تلاميذ يسوع ) شهودًا ليسوع (أع1: 8). ( المصدر المذكور، ص269).