أهلا وسهلا بالأخ ليث كـني
بدأ الصوم وآشترك الأخ ليث في رياضة درب الصليب ولاحظ أن طابع الحزن يطغي على تلك الرتبة. غمَرَه إحساسٌ غريب، جديدٌ على الساحة، وهو أنه كان من الأفضل أن ” نفرحَ ونبتهجَ بالصلب طالما يؤَّدي الى القيامة والخلاص”. فسأل : لماذا نندبُ ونعَّبر عن الحُزن لحدث صلب المسيح ، سيما وأنه” قَـدَرُ الله” في الخلاص؟ ولماذا تتزامن هذه الممارسات مع الصوم ؟
بألم رَّبِنا كان الألم ! صلاة جمعة الآلام !
قبل أن أرُّدَ على الأسئلة أسوق للسائل والقاريء الكُرَماء شذراتٍ من الصلاة الطقسية خلال أسبوع الآلام، لربما هي أفضل جواب وأمضاه. لأنَّ لأسبوع الآلام، في الطقس الكلداني، ميزةً خاصة تختلط فيها الأفراح والأحزان وتصبو الى الكمال ، لأنَّ الحياة كلَّها نسيجٌ من الألم والراحة. وحتى لحن الصلوات يتناوبُ بين الرخيم المفرح والشجيِّ المُؤلِم. وللعلم تحتفلُ الكنيسة في ذلك الأسبوع بأعظم وأقدس أعيادها من ملوكية المسيح، والكهنوت مع تأسيس سر الأوخارستيا، والفداء بآلام الصلب، وتنتهي بأمجاد القيامة.
كما جاء في الكتاب !
إليكم النصوص :
- بالألم نتناولُ جسد الأبن المسيح ودمَه. لأنَّه تألَّمَ من أجلنا * تُتلى يوميًا طوال الأسبوع*
- تقوم كنيستك في الحزن، يا آبن مريم، لأنَّ موتك مؤلمٌ. وتقيمُ عيدًا لألمك وذكرًى لصلبك عوض الشعبِ الذي ظلمَكَ * { يوم الأربعاء }
- مُبارَكٌ من برَّرَنا بألمِه، ونجَّانا من الشّرير وأنقذَنا، وأكملَ صومَه وأتَمَّهُ فأبهجَ كنيستهُ وفَرَّحَها *
- ترتل قديشا آلاها بألحان الآحاد والأعياد، أما المداريش فبألحان الحزن *
{ طوال الأسبوع }
- قوموا يا ساهرين ورنموا المجد بألحانكم. شيلُ الأسد محبوس، فمن ينام ؟*
- بطرس يندبُ حظَه ويصرخ بألم “ويلي لقد أخطأتُ .. ضيَّعتُ تعبي. أنكرتُ ربي!*
- بألمٍ ودموعٍ وحسرة ندعوك يا ربَّنا الصالح * { تتلى خلال جمع الصوم والباعوثة}*
- جاء فيها : ” أيها الآب والأبن والروح القدس ، لك التسبيحُ صباحًا ومساءًا. خليقتك تسجد دائمًا لك وتُمَّجدُ ، بألم، إسمكَ المسجود له ” *
- من لا يبكي بحزن على ظلم يهوذا المُسَّلِم؟ *
- أيُّها المسيح ، الذي بألمِه أبطَلَ الضلال من الأرض، أعطِنا أن نشتركَ في ألمِكَ ، و نتنَّعم معك *
- عند الصلب إظلَّمت النَيِّرات، وتزعزعت الساكنات، وآستيقظ النائمون، ولبست الخلائقُ كلَّها الحزن والكآبة *
- يا مخَّلِصَنا تُقيم كنيستُك، بآهتمام، ذكرًى مقدَّسة لأَلمِكَ الغالي، سنةً بعد سنة، فأَهِّلْها لعيدك الصحيح، ثُماني الأيّام *
- ساعةَ الصلب توَشَّحت الشمسُ الحزن والظلمة *
- بألم ربِّنا كان الألمُ. أدهشَ الملائكةَ والناس. وقام الأمواتُ الراقدون وخرجوا من قبورِهم ، وهم يُنشِدون المجدَ للأبن ..*
- تألم اللص كثيرًا وقت الصلب لمَّا رأى الخليقة كلَّها تتألم بمرارة. تألَّمَ وتحَّسر على ذنوبِه التي لا تُحصى *
- يا مخَّلِصَنا إقبَل صومنا مع صوم الأنبياء والرسل. وليُوقِفْ ألمُكَ آلامَ أجسادنا و عيوبَ نفسِنا. وآمنَح كنيستَك أن تحتفلَ بأعيادِك عند مجيئكَ *
وهذا غيثٌ من فيض !
ُفصلاة الكنيسة قدَّست ألم يسوع وعيَّدت له. و دعت الى الفرح والتمجيد كما الى الألم والحزن وحتى السهر والبكاء. واالبكاءُ دواءٌ لتحَّمل الألم. مأساةُ ألام يسوع لن تتكررَ بين البشر. والبشر سببُ تلك المأساة. وحتى لو طاروا فرحًا وبهجةً، لأنَّه بآلام الصلب نالوا خلاصَهم وأستعادوا كرامتَهم وضمنوا نعيمهم الأبدي، وهذا عيدٌ عظيم مدعاةٌ للفرحِ والهناءْ ، ولكن أمام مأساةِ الصليب يهتَّز ضميرُ الناس الخطأة. وكلُّنا أخطأنا ولنا حصَّةٌ في صلب المسيح. ولا نقدَر لا أن نلغي تلك المأساة ولا أن نُكَّفرَ عنها. لأنه بالتالي تحمَّلَ مسؤوليتَها يسوعُ نفسُه، ” أبذلُ نفسي برضايَ” (يو10: 18)، بسبب حبه العظيم لنا (يو13: 1). و الطفلُ عندما يُهينُ والدَه أو يُغيظُه ليس له سوى البكاءِ ألمًا وآعتذارًا. فمع آلام يسوع أصبح الألمُ مُطَّهرًا ومُقَّدِسًا، إذا كان عفويًا و عن وعيٍ، لأنه علامةُ التوبة. وكم واحدٍ بكى بحرارة أيضًا، لفرحِه وآبتهاجه !. إنها العاطفة التي تتفاعلُ مع أحاسيس الأنسان عندما تتعَّطلُ لغَـةُ الكلام عن التعبير!
لا تبكوا عليَّ ، بل على أنفسِكم! لوقا 27 : 28
أمَّا يسوع فقد دعا المؤمنين إلى عدم الأستسلام للعاطفة. دعاهم الى التفاعلِ مع آلمِه وصلبهِ بمنطقٍ إيماني. فينظروا إلى أبعدَ من الفراق والظلم. دعاهم إلى أن يروا بعينِ الروحِ النتائجَ الأيجابية، ويعتبروا نعمةَ فدائِهم أكثرِ من قساوةِ البشر وتوَّحشِهم. دعاهم إلى الدخول إلى أعماق ذواتِهم وتغييرِ عاداتِهم ومفاهيمِهم وتصفية حساباتهم مع الحَّق الألهي. لكنَّ الأنسان منذ البدء هو” قاسي القلب وغليظُ الرقبة ” (خر32: 9؛ تث9: 24؛ اش42: 2؛ 48: 4)، و عند الضيق والأحساس بضعفِه وفشله لا يملِكُ سوى نحيبِه ودموعِه. نهى يسوعُ البكاءَ عليه ، وما يزالُ البشرُ يبكون. دعا يسوعُ إلى البكاءِ على الذات بالتوبة، وقد إستجابَ له بطرس وبكى بكاءًا مُرُّا على ذنبِه (متى26: 75). لكن الذين يقتدون ببطرس ويسمعون كلامَ يسوع المسيح قليلون.أمَّا حاليًا فلا تدري على من يندُب المؤمنون ويحزنون في درب الصليب أو يوم جمعة الآلام ؟. فإن كانوا على أنفسِهم يتألمون، مثل لصِ اليمين، فنِعِمَّ ما يفعلون. أما إن كانوا يَدَّعون البكاءَ على يسوعَ فبئسَ ما يفعلون. لأنَّ ذلك تمَّرُّدٌ على وصيةِ يسوع الذي نهى ، بفمه، البكاءَ عليه. رغم ذلك تبقى المراسيمُ الدينية عاملاً أساسيًا في دفع المؤمنين إلى البكاء والتوبة . و يبقى البكاءُ خفيَّ الحُجَّةِ ولكن دليلَ الألم. والألمُ يُطَّهر ويُقَّدس كما نوهنا أعلاه.
لماذا يقام درب الصليب في الصوم ؟
بالتأكيد ليس دربُ الصليب دعوةً للندبِ والحزن. إنه تأمُلٌ في آلام المسيح: في علتِها، هدفِها وثمارِها. إنَّ آلامَ المسيح وصلبَه تتميمٌ لمشيئة الله في خضوع الأنسان للحَّق الألهي القُدّوس، ودفعُ فديةٍ عن إنتمائه إلى ابليسَ وسماعِ كلامه. دفَعَ يسوعُ، بتحَّملهِ آلامَ طاعتِهِ لله، ثمنَ تمَّرُدِ الأنسانِ الأول على الله وسقوطِه في عبادة شهواتِ الجسد. إشترى المسيحُ الأنسانَ وحَرَّره من قبضةِ ابليسَ (1كور6: 20؛ 7: 23) وأعادَه الى بُنُوَّةِ الله وآستحَّقَ أن يحُّلَ فيه الروحُ القدس ويجعلَهُ مُلْكَه (1كور3: 16)، فلا يقوى بعدُ ابليسُ أن يستعبدَه . ويقامُ درب الصليب يوم الجمعة لأنَّ يسوع فعل كلَّ هذا في يوم جمعة الآلام ، وكي يُذَّكِرَ المؤمن بها فيعرفَ نفسَه كما يعرفُه الله، لا كما يتصَّوره بنفسِه. أمَّا لماذا في فترةِ الصوم بالذات، فلأنَّ هذه الفترةَ كانت مُخَّصصةً لتثقيفِ المهتدين إلى المسيح إستعدادًا لتعميدِهم يومَ سبتِ النور، وتهيئةً لعيد القيامة. فلكي يتعَمَّقَ المؤمنُ بعقيدة الخلاص وما يتبعُها: منها ألا يعودَ من جديد الى العيش في دائرةِ الزمن ومتطلباته فقط، بل أن يحيا في فلك الأبدية كمواطن السماء على الأرض. ولِجُمَع الصوم وقعٌ خاصٌّ إذ تُذَّكِرُنا بموت المسيح ثم قيامته، وتُعِّدُنا لنموتَ معه عن الخطيئة ونقومَ أيضًا معه في أحد القيامة. لذا فالصومُ فترةٌ مباركةٌ تدعونا الى التوبة بإماتةِ أعمال الجسد، بقُـوَّةِ الروح (رم8: 13). هكذا يُصبحُ دربُ الصليب فرصةً لأعادةِ النظر في سلوكِنا على ضوءِ القيامةِ ونُعِّدَ أنفسنا بالتوبة، فيُصيبُنا أحيانًا الألمُ ويلزمنا البكاء.
قَـدَرٌ من الله !
هكذا كتب السائلُ الكريم. صلبُ المسيح وآلامُه ليست قَدَرًا محتومًا يخضعُ له رغمًا عنه كما نوهنا. تنَّبَأَ يسوعُ عن صلبهِ ثلاث مرات (متى16: 21؛ 17: 22؛ 20: 17..)، وسار برضاه نحوه، حتى لم يُغَّيرمبيتَه في بستان الزيتون، وهو يعرفُ أن يهوذا سيدُّلُ أعداءَه عليه. ومنع الرسلَ من الدفاع عنه مُبَّيِنًا أنه قابلٌ بما يجري ومستعِدٌّ أن يشربَ كأسَ الألم كاملةً. كان قادرًا أن يَرُّدَ ويرفض إرادة الله. واللهُ نفسُه لم يُقَّررْ موت المسيح وصلبَه. بل قرَّرَ أن يُخَّلصَ الأنسانَ ويُعيدَه الى مجدِه وراحتِه. ولكن كيف والأنسانُ عبدٌ لدى ابليسَ، من لحظةِ قرارِه أن يُخالفَ أمرَالله ويتبعَ نصيحة ابليس. الشيطان يُطالب فديةً حتى يُطلقَ سراحَ الأنسان. والفديةُ هي موتُ الأنسان. وإنسانٌ بقامة آدم يُمثِّلُ البشرية وهو بريء. ولا يرضى بفديةٍ أخرى كذبائح الحيوان. فاللهُ في محَّبتِه ورحمتِه للأنسان قررَّ أن يَفديَه بنفسِه. الله يُصبح إنسانًا ويطيعُ الله فيخرجُ عن طوع ابليس، وابليسُ يُحاولُ أنْ يقضيَ عليه. هكذا خططَ اللهُ، ونفَّذَّ الأبن الكلمة. هكذا قال المزمور:” لم تشأْ ذبيحةً ولا قربانًا، ولكنَّك هيَّأتَ لي جسدًا، فقلتُ .. هاءنذا آتٍ اللّهم لأُكَّملَ مشيئتَك” (مز39: 7-9؛ عب10: 5). ما قدَّره الله كان أن ينسَحِقَ رأسُ ابليسَ على يدِ الأنسان نفسِه، وتمَّ ذلك فعلا على يد يسوع، وآستعاد الأنسانُ حريَّتَه وراحتَه. ربما نحن بحاجةٍ فعلا إلى عدم الأستمرارِ على اللطمِ والندب وشُربِ الماءِ المُّر والمرورِ تحت قبر المسيح، بينما أعمالنا فاسدةٌ وسلوكُنا وثنيٌّ ، بقَدْرِ ما نحتاجُ أن نتوَّجَهَ إلى قطفِ ثمار الصلبِ بالأعترافِ بفعلِ الله الفدائي الرائع وشكرِه عليه والتعبيرعن ذلكَ بالسجودِ للصليبِ آلةِ الخلاص، مُؤَّدينَ ذلك من خلال رُتَبٍ طقسيةٍ مُنَّظمة ، حتى إذا تألمَ المؤمنُ وبكى يكونُ ذلك، فعلاً وعلنًا، تعبيرًا عن فرحِهِ وراحته، وهو يحتفلُ “بعيدِ الألم” كما قالت إحدى صلوات يوم أربعاء الآلام.