أهلا وسهلا بالأخ ماثـيو شــمامي.
سأل الأخ ماثيو بخصوص التطّور ما يلي :
1- هل يمكن للمؤمن الكاثوليكي أن يؤمن بنظرية التطور ؟
2- هل يمكن أن يكون التطورُ أسلوبَ خلقِ الله بعيدًا عن قصة الخلق التوراتية ؟
3- هل العلم ، بالمحصلة ، يتعارضُ مع الدين ؟
نظـرية التطـور ؟
ماذا يعني التطّور؟. وقبل الدخول في الموضوع يجبُ الأنتباه الى أن التطور مازال ” نظرية “. والنظرية يُعَّرفُها العلم بـ Hypothese ” فرضية بأنَّ شيئا ما ممكن أو غير ممكن “.فإذن ليست ، حسب المنطقِ العلمي، حقيقة ثابتة. بل هي فكرةٌ مقبولة من البعض ومرفوضة من غيرهم لأنها لم تقدرْ أن تُؤَّكدَ حقيقتها. مثل قضية الأستنساخ البشري ظلَّ الأمرُ “نظرية” بشأن العنزة دولى. ولما لم يقدر المدَّعي بها إثباتَ عمله علميًا، بحيث يقدر غيرُه إذا تبعَ خطواتِهِ، أن يُنتجَ نفسَ الشيء. وهذا لم يحصَل. و فشلت في النهاية، وأهملت كليًا. وهكذا للمؤمن الكاثوليكي أن يقبلها أو يرفضها ، ويستفيدَ من تعليم الكنيسة.
التطّـــور !
التطور Evolution ويعني “سلسلة تغييرات متعاقبة “. وحسب النظرية أنَّ تحّولاتٍ متتالية حدثت للكائنات الحَّية خلال المراحل الجيولوجية الى أن إستقَّرت على حالتها الآنية.
وهنا يحضرُ الى الذهن نوعان من التطّور: الـذاتي ، وهو من داخل الكائن ومن طبيعتِه. و الخارجي ، وهو الذي تُجريه عليه قـوةٌ أخرى خارجة عنه وأسمى منه.
-:: التطور الذاتي يعني أنَّ من طبيعة الكائن أنْ يتغَّير بآستمرار نحو الأفضل في نمُّوٍ يُسَّهلُ له الحياة ، إنما دون أن يُغَّيرَ صنفَه أو طبيعتَه. وهذا النمو او التغيير يتم فيه بسبب ظروف الحياة في الطبيعة وبسبب تكوينه الداخلي. مثلا : لبعض الحيوانات قابلية تغيير لون جلدها حسب الوضع الذي تواجهه. فهي تتلون مثلا بلون المكان الذي تتواجدُ فيه لتختفيَ عن أنظار الرقباء الخطيرين. وكذلك يقصر الذيل أو يطول عند حيوانات أخرى حسب البيئة والزمن و لاسيما الحاجة. وقد يتغيَّر شكل جزءِ آخر من الجسم ليوافق متغيرات البيئة ، لكنه لا يُغَّيره نوعَه أو صِنفَه.
-:: التطور من الخارج يعني أنَّ تدخلا يحدُثُ عليه ، خلافا لطبيعتِه ، وبقوة وإرادة خارجة عن طاقتِه فيُغَّيرُه قليلا من شكلِه ، ولكن كليا في طبيعتِه. مثلا: التطعيمُ على الأشجار و الخضراوات. أو حتى على الحيوان كالبغل الذي لا هو حصان ولا حمار، بل ثمرة الزاوج بينهما. والبغلُ عقيمٌ لا جنسَ له. على أية حال يحدثُ هذا بتدخل الأنسان وليس من طبيعة تلك الكائنات. والدليل أن تلك الأثمار والخضراوات وحتى الحياوانات المبتدعة تبقى غير مثمرة ، وفي نفس الوقت تبقى نماذجها الأصلية تستمر دون أن تتغَّير. فالذي خلقَ الكون قادرٌ على أن يُطورَ كائنا ويصنع منه كائنا آخر أسمى بإضافةِ خصوصيةِ هذا السمو الجديد. ومن هذا المنطلق لا أحدَ يرفضُ أنْ يتحوَّلَ قردٌ الى إنسان بتدخلٍ الهي.
أما التطور الذي تتشدَّقُ به الناس ويُنادي به سياسيون وملحدون وآقتصاديون وليس العلماءُ النزيهون ، هو أن الكائنات تتطور من ذاتها ، أو تطورت فترة ثم توقف تطورها. وحتى داروين المعتبر أبو التطور لا يؤمن بكذا تطور بقدر ما أرادَ أن يجعلَ القردَ أصلا للأنسان وآلتجأ الى ما سمَّاهُ ” طفرةً “. وهذا ما يرفُضُه العلم السليم. وهناك في العالم حركةٌ إلحاديةٌ تريدُ أن تنفيَ بكل ثمن وجودَ خالقٍ للكون نظَّمه واليه يعود وجود الأنسان ومنه تنبعُ الأدابُ السليمة للحياة.
الخَلق والتطـور !
ذكرَ الكتابُ المقدس كيفَ خلقَ اللهُ الكون على مراحل مختلفة متمَّيزة ومتباعدة بالزمن. بدأ بذكر خلق الكون ،ثم نفخِ الحياةِ فيه ، ثم فصلِ العناصر الأربعة التراب والماء والهواء والنار، ثم خلق النيرات والنجوم والكواكب وبها تبدأ الأيام والأشهر والفصول، وبعدَه الخضار والأشجار، ثم ظهور أول نوع من الحياة في الماء، ثم الزحافات فالطيور فالحيوانات وفي نهايةِ المطاف الأنسان الذي يسودُ الكائنات كلها. والعلم لا يقولُ شيئا آخر منافيا لهذا التسلسل الطبيعي. وإذا ذكرت أيام ستة فهي لن تكون سوى مراحل متباعدة عن بعضها بملايين السنين. ما كشفه اللهُ للأنسان بالوحي يُثبتُه اليومَ العلمُ الذي لا فقط لا ينكرُ وجود الله بل ويفترضُه حتى يقدر أن يفسّرَ ما يعاينه في الكون.
لم تقل الكنيسة مطلقا أنَّ ما يقوله الكتاب هو العلم اليقين. ولا رفضت البحوث العلمية وما توصلت اليه من نتائج إيجابية. لأنَّ الكنيسة مؤمنة بانَّ الله نفسَه مصدرُ الأيمان والعقل معا. لأنّه إذا كان الله قد أوحى بعض الحقائق الى الأنسان فلا ننسى أنَّ العلمَ أيضا يكتشفُه نفسُ الأنسان الذي خلقه الله وزَّودَّه بهذا النور الباطني. فالله زوَّدَ الأنسان بالعقلِ ليرى معجزاته وزوَّه بالأيمان إذ أوحى اليه ما لم يكن قادرا على أن يكتشفَه بنفسه على حقيقتِه. لذا يمكن أن نرى في القصة التوراتية للخلق نورا يقودُ الى معرفةِ الحقيقة عن وجودِ الكونِ وتطوُّرِه.
العلمُ والدين !
هل يتعارضان ؟. طبعا لا ما دامَ اللهُ مصدرَكليهما. لا يُناقضُ اللهُ نفسَه. هذا ما تعلنه الكنيسة على لسان البابا الراحل القديس يوحنا بولس الثاني في رسالته عن الأيمان والعقل. فقد قال : ” العقلُ والأيمان أمران متلازمان ومتمايزان في آن واحد… ومع أنَّ الأيمان يعلو على العقل ، لا يمكن أن يكون هناك البتة خلافٌ حقيقي بين الأيمان والعقل. ذلك بأنَّ اللهَ هو نفسُه الذي يوحي الأسرار ويهبُ الأيمان ، والذي ينزل على النفس البشرية نور العقل. فالله لا يمكن أن ينكرَ ذاتَه ، ولا الحقُّ أن ينكرَ الحق ” (الرسالة في الأيمان والعقل، رقم 53).
في المحصلة التطور الصحيح هو بنمو كل كائن حسب طبيعتِه. واللهُ الذي خلق الكائنات من لا شيء لا يصعبُ عليه أن يصنعَ كائنا جديدًا من غيره قديم ، بتطويره وإضافة ما يوَّدُ أن يُحَّققَه. كادَ الأنسان أن يفعلَ ذلك فهل يعصى على الله ، و” الله على كلِ شيءٍ قدير” (متى 19: 26).