تسبقُ الصوم بثلاثة أسابيع ، وتلي الأحد الخامس للدنح وجوبًا
تتلى علينا اليوم القراءات : يو3: 1 – 4: 11 ؛ رم9: 14- 10: 17 ؛ متى6: 1-18
الرسالة : رومية 9 : 14 – 10 : 17
سبق وتكلَّم بولس عن إختيار الله يعقوبَ ونسلَه وأبعدَ عيسو ونسله عن الموعد المقطوع لآبراهيم أن يولد مخلصُ العالم من صُلبِه. وبيَّن أن إختيار الله لا يتعَّلق برغبة الأنسان ولا بسعيِه ولا حتى بسُنن الناس وتقاليدهم بل بمحض إرادة الله. إختار اللهُ يعقوب مع أنه الأخ الأصغر ومع أنَّ البشر يُفَّضلون دومًا الأبن البكر. فالله يقود الكون الى كماله. ويُهَّييءُ لذلك الناس المُؤَّهلين. والله وحدَه يعرف المستقبل ويعرفُ من يفي الأمانة للواجب و يستجيبُ لمشيئته. من يبني بيتًا يعرفُ كيف يُخَّططُ له، ومَن يُكَّلف ليقوم على بنائِه. وقد وزَّع الله مواهبَه للناس وزَوَّدَ كلَّ فرد بموهبة خاصَّة به تختلف عن غيره. وتتفاوت المواهب، ما ندعوها بالطاقة، بين الناس، ومنها ما يعتبَرونها ممتازة فهي مرموقة ومُقَدَّرة وغيرها ذليلة فتُحتَقَر وتُنبَذُ (آية 21). مع ذلك تبقى أنَّها من تخصيص الله. وكتب بولس بشأنها لأهل كورنثية قائلاً : ” كلُّ واحدٍ يتلَّقى من تجلّيات الروح لأجل الخير العام “(1كور12: 7).
للـه ، مُطلَقُ الحُرَّية !
الكون مشروعُ الله وبيتُه. فيه كلُّ مستلزمات الحياة، لكنه ليس كاملاً. خطَّطَ له وحدَّدَ منذ الأزل سقفَ آكتمالِه، وآختار من بين أبناء صورتِه من يزاولون فيه بأمانة الأدوار الرئيسية التي يُكلِّفُهم بها ومن يعملون في إمرتِهم. فالله آختار إبراهيم وعزله عن شعبه وعن كلِّ أقربائِه ، حتى عن إبن أخيه لوط ، لكي لا ينشغل عنه بأحدٍ منهم و لكن يتعَّلَقَ به وحدَه و يرجو دون البشرية جمعاء. ثمَّ أبعدَ عنه إسماعيل، رغم أنَّه ضمن مستقبله الكريم، لأنه لم يولد إستنادًا إلى الموعد بل ولد بناءًا على قانون حمورابي البشري وبرغبة سارة. اسحق هو وحدَه إبن الموعد لأنه ولد بمشيئة الله وبتدَّخله الخاص، خلافًا للقدرات البشرية وبعيدًا عن توَّقعاتِها. وتَمَّ ذلك لأجل تحقيق مخَّطط الله لصالح الأنسانية. ربما لم يستوعب المؤمنون ما رأوه يجري خلافًا لواقع الحياة الأجتماعية. بولس يهودي و معه مرافقون من أصل وثني (رم16: 21-23) ويُبَّشرون بالمسيح. وكان اليهود والرومان أعداءًا وبينهم كُرهٌ متبادَل، ولا أحد منهم إعترفَ بالمسيح، بل صلبوه معًا!. لكن الله ليس لا يهوديا ولا رومانيا. الله هو خالقٌ ورب كليهما. وخلقهما جميعًا للتنعم معه في الفردوس. و تجَسَّدَ وماتَ من أجل فداءِ كليهما. كلُّهم أبناؤُه. فآختارَ رُسلا من كليهما، هداهم الى الحقيقة فآمنوا بالمسيح، و حملوا بشارة المسيح إلى جميع الأمم. إستنكف اليهود إيمان الوثنيين، فتعَّثروا. إستغربَ الوثنيون جحود اليهود فلم يترَّددوا في قبول المسيح وإعلان خلاصِه. ربمَّا إعترض البعضُ على كلِّ ما يحدث. فيرُّدُ بولس أنَّ هذا عملُ الله لأنه أبُ كلِّ البشر و هو حُرٌّ أن يُدَّبرَ بيتَه كما يشاء، وعلى يد من يشاء، وأن لا حَّقَ لأحد أن يعترضَ على الله، فقال: ” من أنت يا إنسان حتى تعترضَ على الله؟. أَ يقولُ المصنوعُ لصانعه لماذا صنعتني هكذا”؟ (9: 20).
الأمور كلها تسيرُ نحو تحقيق الخلاص وإتمام الخليقة. والله أدرى بها. أخطأَ اليهود بلوغ الخلاص عن طريق الشريعة، وأخطأ الوثنيون في جهل الله وعبادة المخلوق. أخطأ اليهود في آحتقارِهم لغيرهم ونبذهم، وأخطأ الوثنيون في الآستخفاف بمن آمن بإِلَهٍ غير منظور و آستسلموا لكل بدعةٍ وشهوة. أخطأ اليهودُ بالتعالي على الوثنيين ورفضهم مشاركتهم إيمانهم .إستنكروا تعامل يسوع بمحبة ورحمة مع غير اليهود وآنتقدوه أنه يخرج عن تقاليدهم و تراثهم وأنَّه يُساويهم بالوثنيين. وما درسُ قصة يونان النبي، التي تعمَّدت الكنيسة الكلدانية قراءَتها اليوم في الباعوثة، سوى لأفهام الشعب أنهم ” جهلوا بِرَّ الله، وحاولوا إقامة بِرِّهم فلم يخضعوا لشريعةِ الله” (رم10: 3). الله أبُ كل الشعوب. كلُّ من أخطأ فتاب يغفر له، وكلُّ من رفضَ الله وتمادى في غَّيِهِ يتحَّملُ وزرَ إثمِه (حز18: 21-24). أخطأ الوثنيون بعدم الإعتراف بالله وبتأليه ذواتِهم وعبادة الغريزة الشهوانية وآستعبادِ غيرهم لأشباعِ غرائزهم وآتّباع شريعةِ الغابة. وكما قال يسوع ” عبدوا ما كانوا يجهلون” (يو4: 22). وجاء بولس يقول لكليهما ” قد أخطأتم”، بل أخطأنا جميعنا وأعوزنا مجدُ الله ” (رم3: 23). والآن وقد جاءَ المسيح المخَّلص وفدانا ونورنا على الحياة الحَّقة ، لم يأتِ لفريق واحد فقط بل لكل الشعوب. لنجْنِ ثمار فدائه، لنُصغِ إليه ولنتبع خطاه.
يرحم من يشاء .. ويُقَّسي قلبَ من يشاء !
بالنسبة إلى اليهود يحُّنُ بولس عليهم، وهو واحدٌ منهم، ويعرف أنهم فعلوا ما فعلوه عن جهلٍ وغيرة إيمانية. ظنوا كما قال يسوع أنَّهم يقَّربون بصلبه قربانًا لله، لأنهم لم يعرفوا الله على حقيقته ولا المسيح (يو16: 2). حتى بولس نفسه إضطهد المسيحية لجهلٍ وعدم إيمان وعن صدقِ نية بأنه يخدم قضية الله الحَّق(1طيم1: 13). أمَّا الوثنيون فكان لله أيضًا حكمة في وجودِهم وحتى في تمَّرُدهم عليه لكي يكون للناس فرصَةٌ فيروا عظمة قدرةِ الله ومجدَه فيؤمنون به. ويرى المؤمنون ولا يتندمون على ايمانهم. هكذا قال الله لموسى عن فرعون :” أُقَّسي قلب فرعون .. ولن يسمع لكما .. أُكْثِرُ معجزاتي وعجائبي .. فيعرف المصريون أني أنا الرَّب.. أكون لكم إلَهًا وتعلمون أني أنا الربُّ إلهُكم الذي أخرجكم من تحت نير المصريين” (خر7: 3-7؛ 9: 16؛ 6: 5-9). تحتفلُ الكنيسةُ الكلدانية، بشكل خاص، بذكرى باعوثة أهل نينوى. توبة أهل نينوى تذكرها بآحترام أغلب الكنائس الشرقية، إنما ليس بالشكل الأحتفالي الرسمي والجِدّي كالكلدان. لماذا ؟ أ ترى لأنَّ نينوى في بلدهم؟. أكثر من ذلك. لأنَّ التاريخ سجَّل لأبناء العراق. وهو موطن و مركز الكنيسة الكلدانية، بليةً لم يُمتَحَن بها غيرُهم. إنتشر مرض الطاعون في شمال العراق، في مناطق باجرمي {كركوك} وحدياب {أربيل} ونينوى {الموصل}، ذلك في القرن السادس الميلادي ، سنة 564-567م، حصد الوباء الناس بعشرات الألوف، و لم يكن يلحق الناسُ دفنَ موتاهم. ولم ينتهِ إلا لما إستجابت السماء لآستغاثة بعض القديسين فأشارت إليهم بالتوبة في الصوم والصلاة على غرار النينويين، ثم إستجابت صلواتهم إذ إنقطع المؤمنون لها طيلة النهار وهم صائمون فتوقَّفَ الوباءُ بعد ثلاثة أيام من التوبة. وعرفانًا بجميل الله في رحمتِه طلب أساقفة المناطق المنكوبة أن يحتفلوا بذكرى الوباء والدعاء والشفاء بإقامة ، سنويًا، ثلاثية توبة بالآنقطاع للصوم والصلاة وإقامة القداديس والأعتراف والتناول. ولا تزالُ كنيسة الكلدان تُحيي سنويًا في العالم كله هذه الذكرى. وقد يقول قائلٌ: لماذا هذا الشعب بالذات؟. لماذا وحدَه؟. أما كانت تكفي دماءُ مئات ألوف الشهداء حتى عُرفت بـ” كنيسة الشهداء”، ليُصيبَها هذا البلى؟. والرب يقول:” لا تقع شعرةٌ من رؤوسكم من دون معرفة الآب “(لو12: 7). لماذا سمح الله أن يحدث الوباء في العراق وليس في مكان آخر؟. وكم تألم العراق وسوريا مؤَّخرًا على يد” داعش”: لماذا هذان البلدان بالذات ؟. لماذا سمح الله لقادة العالم أن يجعلوا منهما ساحة معركة تصفية الحسابات؟. ما ذنبهما لدفع ثمن بهذا الغلاء؟. أو ماذا إستفادا من كلِّ ما حصل؟. نحن لا نعلم الآن أما الله فيعرف. وقد لا يكونان أثيمين أو أغبياء أكثر من غيرهم؟. وقد يكون لأنهما متمَرسان و خبيران بالبلايا فيتحَّملان برجاء عكس غيرهم؟. أو ربمَّا لأنَّ الشر منتشر في المنطقة بشكل غير منطقي وغير مقبول فرفع الله، لفترة، يد حمايته عنهما ليرى العالم قباحة أعمال البشر و جسامة شرَّهم فيبادر القادة الى تغيير سياساتهم. الله وحدَه يغلم لماذا سمح بهذا الشَّر كله و يسمح به من حين لآخر، ومن بلد لآخر، ليُنذر البشر عن عواقبِ سوئهم.
لا يُجَّربُ الله أحدًا ! يع 1: 13
وبولس يقول:” لا تصيبكم تجربة إلا على مقدار وسعكم.. يؤتيكم الله مع التجربة وسيلة النجاة منها بالصبر عليها.. وما حدثَ سابقًا هو تنبيهٌ لنا ” (1كور10: 11-13). هنا يبدو دور الأيمان وقيمته في حياة الأنسان. ليست الحياة يومًا واحدًا ولا شعبًا واحدًا ولا بالحكمة التي يبديها كلَّ واحد. قيمة الحياة وقوتها ونجاحها بقدر ما تتماشى وتتفاعل مع مشيئة الله و تخطيطه الكوني. فالأحداث، حلوةً كانت أو مُرَّة، تتلاحق ثم تتلاشى. كذلك الخيرات الزمنية والسلطان والجاه. كلها تزول. حتى الأنتماءات قومية كانت أو دينية ، ثقافية أو سياسية، تبقى نافلة تجاه الحياة. ما يبقى وحده هو الله ومشيئتُه التي لا تريد للأنسان سوى الخير و الراحة. ولهذا لن يتبعَ الله مشورة الأنسان و يُلَّبي كلَّ رغباتِه. بل سيبقى الأنسان مريضًا وعطشانًا ولن يشبع قط إلا إذا إنتهى في حضن إبراهيم مع المُخَّلَصين (لو16: 22-25). الله هو فوق كل الميول والأتجاهات. هو الكمال بالذات والقادر على كل شيء. هو الحياة نفسُها، يدعونا أن نتعَّلمَ أن نحيا دومًا من كلامه بثقة ودالّةٍ بنوية و رجاء، وننظر الى كل شيء بعينِه ، و نُقَّيس كلَّ شيء بمقياسه، ونحيا حياتَه، ولا نستعجل فنهرع الى دينونة الناس أو الأحداث. بل لنطلب مثل سليمان الملك (1 مل3: 7-9) حكمة بها نمَّيز بين الخير والشر ، وقوَّة بها نصمدُ في الحَّق والمحبة ونمارسُ الخير كلَّ حين ومع جميع الناس.