أهلا وسهلا بالأخ ليث كـني
قرأ الأخ ليث في وسائل الإتّصالات العامة، عن زيارة البابا فرنسيس الأخيرة إلى المغرب، أنه خرج عن قراءَة نص خطابه وقال :” رجاءًا لا تبشير”!. فآستغربَ الأمرَ وآستنكره فقال : ” إنَّ العمل في الحقل الألهي يستوجبُ التبشير. وتتجَّلى ثمارُه في آجتذابِ الناس نحو الخلاص. ومن سلك هذا الدرب لا يتراجعُ عنه حتى أمام الموت ليبقى في زمرةِ المسيح”. فأضافَ سؤالَه :” # لماذا خرجَ البابا عن نصِّ خطابه المكتوب ” ؟.
ومن أنا لأُعَّلمَ البابا كيفَ يتصَّرف؟
سؤالٌ غريب، كنتُ أتمَّنى لو وُجِّهَ إلى البابا نفسِه. لأنه لم يستشرني قبلَ أن يفعلَ ذلك!. مع ذلك خاطرُ السائلين عند كبير فأحاولُ أن أساعدَ. لأنَّه ربما لا ينتقدُ، ولم يَقف على المعنى الحقيقي لكلام البابا. أولا : إستغربتُ أنا السؤالَ لأنَّني أتوَّقع أن يفهم كلُّ مسيحي موقع رئاسةِ الكنيسة، وكيف يصل إليها الرؤساء. أتحَسَّس وكأنَّ المؤمنين لا يُمَّيزون بين شخص مدنِيٍّ يقتلُ حاله وينشر الدعايات مُعَّظمًا نفسَه، ويطرقُ ألفً بابٍ ليحصلَ على منصب الرئاسة، ثمَّ يتشَّبث بعدَه بالكرسي مُجَّربًا ألف حيلة أخرى ليبقى عليه الى الموت، وبين شخصٍ تزهَّد في الدنيا، عن جاهها وخيراتها، ويتبعُ مصلوبًا لا يعدُه لا بمال ولا بحال، وكرَّسَ حياتَه شَهادةً له ولتعليمه وخاطر ألف خطرٍ ليبقى خفّيًا عن الأنظار، و لم يُهمل فرصَةً ولا وسيلة ليُبَّلغَ بشارة المسيح إلى الناس الذين من أجلهم جاب حتى الفضاء وقطع البحار وزار الأمصار لكي يُنَّور تلاميذ المسيح ويُشَّجعهم على الثبات في الشهادة له !. أ ليسَ هذا رفقةً للمسيح و” تبشيرًا” به؟ أم إنَّ البابا يلهو على حساب المسيح ؟.
ثانيًا : من هو المعَّلم في الكنيسة ؟. إلى من وَكَّلَ المسيح رعاية البشرية وتلمذتها بإيصالها بشارة الأنجيل وتعليمها فترشِدُها الى درب الخلاص؟. هل الى الرسل حصرًا أم إلى جميع المؤمنين؟. نعم طلب من كافة المؤمنين أن يشهدوا له بحياتهم، بأخلاقهم وتصَّرفاتهم. لكنه حصر القيادة والتوجيه العقائدي والخلقي بالكهنوت، ومن بين الكهنة الأساقفة ، ومن بين هؤلاء برئيسِهم البابا. البشارة والخلاص عملُ الله، والله إنتدبَ له من يدعوهم ويشاركهم في كهنوته. وقد وعدَهم أنه يرافقهم في أداءِ مهمَّتِه، ولن يسمح لأبواب الجحيم أن تقوى عليهم. فهل يا ترى نحن مؤمنون بهذا أم تركناه خلفَ ظهورنا وصرِنا لا نرى في رؤسائنا الدينيين غير ما نراه في رؤسائنا الدنيويين؟. أ نقرأ الأنجيل لنُطَّبقَه أم لنتباهَى فقط به؟.قال لرؤسائنا ” تلمذوا ، عمِّدوا ، علِّموا وأنا معكم “(متى28: 19-20). وقال لهم عَّنا :” من قبلكم قبلني .. ومن لم يسمع منكم لم يسمع مني..” (متى10: 40؛ لو10: 16). طلب منَّا أن نثقَ بهم ، لأننها نثق بانَّ الربَ أوكلَ إليهم تعليمنا، ويسندهم لئلا تفشلَ البشارة.
عليه لا نأخذُ علمنا من الصحافة والفيس بوك و.. ولا نثقُ بما يُقال ويُنشَرُ عن الكنيسة وعن قادتها تبعًا لوسائل إعلام العالم. نحن لسنا من العالم. نحن نطلب كلَّ علمٍ وكلَّ خبرٍ من الكنيسة مباشرةً، لا من أعداءِ الكنيسة. ولا نحاولْ أنْ نعَّلمَ نحن الكنيسة، بل لنُصغِ بتواضعٍ نحن إليها. فرُبَّما أنا وأنت نخطأ يا سائلي الكريم. ربَّما نتكاسل نحن ونتراجع في أداءِ عملنا الخلاصي وإعلان الحق. أمَّا واحد مثل البابا، الذي لا يني أبناؤه وأعداؤُه ينشرون أخبارَ جهودِه المخلصة لأدارة الكنيسة حسب رغبة المسيح، أن يتنازل ويتراجعَ عن مهمته. ولا أظُّن أنَّ ذلك يحدث بسهولة . ولو كان البابا قالَ ما قاله بالمعنى الذي نُسبَ إليه لكانت قامت قيامة الكنيسة، بل قبلَ أن تقُومَ كان الروحُ القدس أدَّى دورَه. فالروح يرشد البابا الى الحق لا إلى مخالفة تعليم يسوع. فمفروضٌ فينا أن نعي ما تُعَّلمه الكنيسة ويُنادي به الرؤساء، و نتابعه ونعيشه، لا أن ننتقدَهم ونتبارز معهم على من يفهم أحسن. وحتى لو غلط، لا سمح الله، أحدُهم فلسنا نحن من ندينهم، بل الله ،” لا تدينوا لئلا تُدانوا ” (متى7: 1).
مَيِّزوا الأرواح !
لقد حَذَّرنا المسيح من العالم، لأنَّ أرواحًا شِرّيرة تتحَكم فيه وتُسَّيرهُ ضد إرادةِ الله. وكم يهوديًا أخرج منه المسيح روحًا شِرِّيرة ؟. وكم قياديًا نعته بثعلب أو مراءٍ؟. ولهذا طلب منا الرسول أنَّ نُمَّيز بين الأرواح التي تنطقُ بأفواهِ الناس. الكذبُ والدجل، الخبثُ والمكر من أسلوب الشيطان وعملائِه. لذا علينا : أولاً : لا فقط ألا نصدرَ حكماً، بل حتى أن نسأل، قبل أن نتحَقَّقَ من خبر سمعناه أو قرأناه أو حتى عاينّاه، فنتأكَّدَ من صِحَّتِه ومن صحَّةِ ما يتهَّيأُ لنا أننا صار لنا علمًا به. ثانيًا : أن نحاولَ فهم ذلك في الإطار الذي قيلَ أو حدثَ فيه، وليس معزولاً عن ظرفِه و موضوعِه. ثالثًا : أن نحاولَ إلتقاطَ ما أرادَه صاحبُه بقوله أو فعله.
+ فزيارة البابا كما أعلن عنها بنفسِه قبلَ بدئها وعند القيام بها أن إطار زيارته هو ” الحوارُ بين الأديان”، والمغرب أظهرَ منذ عقودٍ نشاطاتٍ حميدة في هذا المضمار لكي يعيش الناس في إخاءٍ وسلام وتعاون بعيدًا عن أجواء الأرهاب الديني. المغرب يعترفُ من زمان بالمسيحية ويحترم مؤمنيها. فالبابا لم يذهب ” مُبَّشِرًا” بالمسيحية، بل داعيًا ومُشَّجعًا على الأُخوَّةِ والمحبة بين كل الناس حتى لو كانوا من أديانٍ مختلفة. فمن يمُدَّ يده للتعاون مع الكنيسة تخطو الكنيسة نحوه وتمُدَّ له أيادي جميع أبنائها للعيش في قداسةِ الحَّقِ والبر.
+ أنا بنفسي إستمعت إلى خطابِه ولم أُلاحظ غرابةً في حديثه. وعبارة ” رجاءًا لا تبشير” كانت في محَّلها. الله يضمن الحرية لكل إنسان أن يدين بما يشاء، لا إكراه في الدين. الله علَّم الحقَّ وتركَ حرية الأختيار للأنسان. لكنه سوف يحاسبُه على ذلك. وحُرَّيةُ أبناء الله تستعمل حَقَّها في إعلان عقيدتها وممارستها. وكذلك تحترمُ حرية غيرها بالأعلان عن عقيدته وممارستها. البشر كلهم خلقة الله وأبناؤُه. يتساوون في الحق وأيضا في الواجب. هذا لا يعني مساواة العقائد في ذاتِها ، وكأنَّ كلَّ الديانات تحملُ الحقيقة ذاتها كاملة. المساواة تعني أنَّ الله لا يسمح بفرض عقيدةٍ على الناس من دون غيرها. كلُّ واحد يبَّشرُ بما لديه و يدع حرية الأختيار للسامعين والقارئين. لذا الله نفسُه لم يفرُض، والمسيحية أيضًا لم ولن تنوي فرضَ ذاتِها بآستعمال القوة. وتطالبُ ان يعملَ مثلَها كلُّ الشعوب ومسؤولو جميع الديانات.
هنا أتت ” الشارحة ” المذكورة. أي أشار البابا هنا إلى عدم تحوير معنى التبشير من ” المناداة بالعقيدة ” والدعوة اليها، وتُسَّمى بـ ” Evangelisation ” إلى ” كسب الناس ” وإدخالِهم إلى مجموعتهم الخاصة وتُسَّمى بـ ” Proselytism ” ، وذلك بأساليب ملتوية : بالإغواء، بالترغيب ، بالترهيب ، بالتهديد كما فعل < داعش> وأمثاله عبر التاريخ البعيد والقريب. وحتى لا يُفهم كلام البابا بالمعنى الثاني صَرَّح علناً ” لا تبشير”، فلا يُبَّرُر فعله لا من مارسوه ولا من يبحثون عن حجج ليمارسوه. فمن مارسه لا يُرضي الله، بل اللهُ بريءٌ منه وسيحاسبُه عليه. وإذا رفض البابا هذا النوع من التبشيرفلأنه يُكملُّ مشيئة المسيح معَّلمِه الذي لام اليهودَ على عدم إعلانهم نور الخلاص للأمم وآكتفوا بكسبِ كم دخيلٍ من الغرباء، فقال :” الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، تجوبون البحرَ والبر لتكسبوا دخيلاً واحدًا. وإذا هَوَّدتموه جعلتموه يستحِّقُ جهَّنم ضعفَ ما أنتم عليه ” (متى23: 15). و يَحضُرُني هنا مثلٌ موصِليٌّ ، وصفوا به المسلمين الأكثر تشديدًا وتفرقةً وسوءًا، فقالوا : ” كُل مُسلِم زيزاني أصلُه نصراني ” {أي المسيحي الذي أُجبرَ على إنتحال الأسلام }. إنَّه لا يؤمن لا بالله ولا بالعدل ولا بالرحمة. ما يهُّمه منفعته الزمنية فقط ، ولتكن على حسابٍ أيٍّ ما كان. ومشاهدتي للبابا وهو جالسٌ عن يمين الملك ثم يتكَّلم بمنطقٍ وبجرأة ذكَّرني ببولس وهو بين يدي الملك أغريبا يُدافع عن إيمانه ويُبَّررُه متمَّنيًا أن يحذوَ السامعون حذوَه في الأيمان (أع 26: 1-29). هكذا لم يتنَصَّل البابا من واجبه بل أدَّى شهادته عن تعليم الله بغية خلاص كلَ الناس وذلك بآحترام كلام الله، وبعدم الأكتفاء بالقول ” تبشير”، بل بتطبيق قِيَم الأُخُّوة والمحبة والسلام التي يدَّعون بها. كانت هذه شهادة ثانية عن المسيح أمام العالم الأسلامي بعد الأمارات.